السبت، 21 سبتمبر 2013

الحضاره الإسلاميه .. إبداع الماضي وآفاق المستقبل

My rating: 3 of 5 stars

بسم الله الرحمن الرحيم

"لا تنشأ الحضارات من فراغ, وإنما تستمد وجودها من وحى سماوى احتفظ بنقائه, أو من وحى سماوى لم يحتفظ بنقائه وأصابه التحريف"
كانت تكفى هذه الجملة التى ابتدأ بها المؤلف مقدمته لإلقاء الكتاب جانباً وعدم الخوض فيه واعتبار ما سيأتى بعده سيكون على نفس الشاكلة التى اعتبرها الكاتب بالجدارة التى يستحق ذكرها فى صدر مؤلفه... فاعتباره أن كل الحضارات نشأت عن وحى سماوى لهو أمر لا يصدقه فكرٌ متزن, فلا يخفى أن الوحى السماوى الوحيد الذى احتفظ بنقاءه هو الوحى الإسلامى وبالتالى فالحضارة الإسلامية هى المقصودة, والوحى السماوى الذى أصابه التحريف متمثل فى النصرانية واليهودية, وبتمعن النظر يتضح أن الديانتين لم تقيما حضارة بالمفهوم المعروف, فتنحصر الحضارة التى قامت على أساس وحى سماوى فى الحضارة الإسلامية وحدها!
فكيف إذاً غفل الحضارات الوثنية القديمة واللادينية الحديثة ؟!
على العموم فقد تغافلْتُ عبارته سلاماً لإفساح المجال لأفكار أخرى تحتاج صبر وتحمل...
ــــــــــــ
الكتاب ينفتح على شقين:
الأول فكرى: يطرح فيه الكاتب مفهومه عن الحضارة الإسلامية وما قدمته للبشرية من خدمات جليلة يجب الاعتراف بفضلها فيما وصلت إليه الحضارة الحديثة, كما يقدم المشهد القائم آنذاك من نظم سياسية ودينية وثقافية, وهذا الشق ينحصر فى الفصول الأولى من الكتاب. وفيه يعرض الكاتب أفكاره الخاصة التى تتسم بالتواضع الشديد, وأفكار غيره من المفكرين.
الشق الثانى تاريخى: وفيه يقدم الكاتب المشهد التاريخى للحضارة الإسلامية متوقفاً طويلاً عند الأعلام العلمية والأدبية التى ساهمت فى سير قاطرة الحضارة البشرية, وهذا الشق ينحصر فى الفصول الأخيرة من الكتاب..
تحليل:
بعد قراءة متعمقة فى التاريخ الإسلامى الذى أعكف عليه حالياً من خلال كتاب حضارة العرب وهذا الكتاب الذى بين يدى, تنبسط أمامى صورة التاريخ واضحة فأستطيع, وأىّ قاريء للتاريخ يستطيع, أن ينظر للواقع الحالى من نظرة تاريخية بحتة, فما الواقع إلا مشهد من فيلم طويل اسمه التاريخ تستطيع أن تتعرف عليه وتحكم عليه من خلال قراءتك لحال الأمم السابقة.
وهذا ما أشعر به وأنا أقرأ كيف كان حال الحكام الأوائل الذين أُنشِئت على أيديهم هذه الحضارة, فيُطرح سؤال لا مفر منه, كيف حال الحكام الحاليين بالنسبة إليهم ؟
وهؤلاء الشيوخ الذين يتحكمون فى حياتنا الآن لماذا لايصلهم درس التاريخ ؟
المزيد من الأسئلة تخرج من كتب التاريخ, ودائما أنت فى مواجهة الأصولية, دائما هناك فريق يعتقد أنه ينطق بالصواب غير مستعد للنقاش والمجادلة.. هذا إن نفذت من مصفاة التكفير أصلاً !
....
من أسباب تخلفنا أننا نفتقد الروح النقدية القوية, نأتى على العقل أحيانا لأننا غير قادرين على الاعتراف بالجهل, ومن ثم عدم قدرتنا على مداواته..
امتدت تلك الروح للأسف إلى نفس الكاتب الذى افتقد موضوعية نحن فى أشد الحاجة إليها, بدا تفكيره شديد التواضع, بسيط لدرجة السطحية, على الرغم من أن معظم ما جاء فى الكتاب مقتبس من مؤلفات لكتَّاب آخرين, لكن يمكن الوقوف على هذا الفكر المتواضع من النقاط التالية:
يذكر الكاتب فى الفصل الثانى أن القرآن يلفت نظر أتباعه إلى أهم الحرف والمهن التى يجب عليهم أن يمتهنوها, مثل الزراعة, وصناعة الخبز, والرعى, وحلب اللبن من الماشية, والتجارة.. إلخ. ويُقرّ الكاتب أن القرآن بهذا يوضح معالم الحضارة من خلال توضيح المهن التى تقوم عليها الحضارة...
لكنى كمسلم متدين, أرى فى هذا تحقير لقيمة العقل, وتمويه لهدف الآيات التى ذكرت هذه المهن فآيات الله نفسها كرَّمت عقل الإنسان وجعلته حرّاً غير فارضة عليه مهنة ما أو حتى لتدله على مهنة أو حرفة بعينها..
كما ذكر فى الفصل السابع أيضاً أن القرآن أشار إلى أصول الطب الثلاثة؛ حفظ الصحة, والحمية من المؤذى, واستفراغ المواد الفاسدة, من خلال آيات حلق الرأس فى أيام الحج, أما كيف استنتجها الكاتب بتلك الطريقة, فتلك هى السطحية وافتقاد الموضوعية التى أتحدث عنها .
فى بداية الفصل الثالث: يعتبر أنه لا شروط سياسية مقيدة فى الحكم وأن النية السليمة هى التى تحكم! وأنا أرى أن ترك الحبل على الغارب للنوايا هو سبب تخلفنا.
كما أنى أواجه مشكلة مع بعض الكتاب الإسلاميين الذين يريدون أن يقتنصوا أو يختلقوا مباديء عظيمة من السنة وحتى القرآن فى مواقف لا يبدو فيها هذا الهدف إطلاقا, ولا محرك لنواياهم سوى التقديس (الذى لا أكنه لغير الله وكتابه), مثلا فى الفصل الثالث يستخرج الكاتب من (اجتماع السقيفة) تسع حقائق تحدد له أسلوب اختيار الحاكم, فيها من التفخيم ما لا يُتخيل فى مقام كهذا, كأنه يريد أن يصيد السمك من الهواء !
ويُقرُّ الكاتب أن الخلافة واجبة بالشرع وبالعقل على رغم تأكيده أن الرسول لم يذكرها, وكذلك القرآن...
ـــــــ
ثم فى تلك النغمة التى يتغنون بها أنه لا تقدم إلا بالعودة للوراء, وأنا لا أعرف كيف يكون تقدماً بالرجوع للخلف, والسابقون لم يتقدموا إلا بالأخلاق الإسلامية والأخذ مما انتهت إليه الحضارات الأخرى, وأنا لا أرى داعياً فى الرجوع للخلف لأخذ الأخلاق, لأنها بالفعل موجودة فينا تحتاج لعمل ما لاستعادته, وأنا أدعو مجدداً لاحترام العقل ومنحه مكانته, فالزَّن المستمر أنه لن تُعرف الأخلاق إلا بالعودة للماضى لهو موقف ضد العقل, المهضوم حقه فى هذا الزمن.. فلنلغى كلمة العودة من قاموس حضارتنا ونستبدلها بالاقتداء ثم أعطوا العقل فرصته, دعوه يتحرر من أوهامكم..
ما سبق كان تعليقى على أسلوب الكاتب الذى أعزو إليه عدم ذياع صيته واقتصار وجوده على الإنترنت على خبر وفاته !
ـــــــــــــــ
ثم نأتى لبطل القصة, الذى يفرض نفسه أيّا كان المتحدث باسمه؛ الحضارة الإسلامية:
لن أُكثر من الحديث لكنى سأترك التاريخ يتحدث بنفسه من خلال شهادات مؤرخين ومعاصرى الحضارة الإسلامية:
فى ظل ما نشهده الآن من احتقان طائفى لا يسعنا إلا أن نلجأ لتلك الصفحات الناصعة التى تشهد بتفرد الحضارة الإسلامية فى معاملتها لغير المسلمين, ونُذكّر دوماً بما بما يُفرضه الدين: أوصى الرسول (ص) بأهل الذمة فقال: (لَهُم مَا لَنَا وَعَلَيهِم مَا عَلينا, ومَن أَذَى ذِمياً كُنتُ خَصمه يَومَ القِيامَةِ)
وتكفى تلك الآيات: (لا إكراه فى الدين) و (أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)
- يُذكر أنه إبان الفتح الإسلامى كان المسلمون والمسيحيون يصلون معا فى وقت واحد فى كثير من الكنائس.
- كانت الوظائف تُعطى للمستحق الكفء؛ بغضِّ النظر عن عقيدته ومذهبه, وكان من أشهر شعراء البلاط الأموى الأخطل الذى كان يُجارى جرير والفرزدق, وكان نصرانيّاً, بل أنه وصل فى العهد العباسى فى بغداد أن وصلت عائلة كاملة نصرانية (آل بختيشوع) إلى أعلى مراتب العلم لمدة ثلاث قرون وكانوا من حظوة البلاط العباسى.
كان المسيحيون هم أول من أخذوا على عاتقهم مهمة الترجمة فى بداية الحضارة الإسلامية, فقد كانت السريانية هى اللغة الوسيط بين اللغتين اللاتينية والعربية وقد كانوا يتقونها بحكم دراستهم للإنجيل واللاهوت الذى كان بالسريانية , وكان معلم خالد بن يزيد بن معاوية راهباً رومياً, والمعروف أن خالد هو من أشعل حركة الترجمة فى عصر صدر الإسلام بالإضافة لاهتمامه بالعلوم الأخرى ولا سيما الكيمياء. وكذلك قسطا بن لوقا البعلبكى البغدادى العالم الحذق والمترجم الماهر.
ثم فى موضوع الجزية هذا, تلك الكلمة الأسطورية التى يتّخذها بعض الحمقى سلاحا لمحاربة الإسلام مستغلين جهل الناس بعظمة هذا الفرض: لما فتح عمرو بن العاص مصر فرض على أهلها جزية سنوية تقدر بثمن بضع بيضات فما وسعهم إلا أن يرحبوا بالفاتحين الجدد لتخليصهم من ظلم الرومان, كما أن عمر بن الخطاب لما وجد ذميا يسأل الناس الصدقة, أسقط عنه الجزية وفرض له من بيت المال ما يكفيه.
.....
من أطرف الأوقاف الإسلامية:
- مؤسسات لتزويج الشباب والفتيات العُزاب ممن تضيق أيديهم أو أيدى أولياؤهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور.
- مؤسسة لإمداد الأمهات بالحليب والسكر, وقد كان من مبرّات صلاح الدين الأيوبى أنه جعل فى أحد أبواب القلعة فى دمشق ميزاباً يسيل منه الحليب, وميزاباً يسيل منه الماء المذاب فى السكر؛ تأتى إليه الأمهات يومين كل أسبوع؛ ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه.
- من المؤسسات الطريفة أيضاً وقف الزبادى للأولاد الذين يكسرون الزبادى, فيأتون إلى هذه المؤسسة؛ ليأخذوا زبادى جديدة بدلاً من المكسورة... ومن المؤسسات التى أقيمت لعلاج الحيوانات المريضة, أو لإطعامها, أو لرعيها حين عجزها.
ومثل هذه المواقف والحكايات موجودة بكثرة فى كتب مثل (من روائع حضارتنا) لمصطفى السباعى.
أختتم هذه المراجعة بشهادة كاتب مسيحى متعصب (ألفارو) فى القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى) يدلنا ما ذكره على مدى انتشار الثقافة الإسلامية واللغة العربية والعلوم التى جاء بها العرب فى الأندلس؛ فكتب يقول:

(إن إخوانى المسيحيين يدرسون كتب فقهاء المسلمين وفلاسفتهم, لا لتنفيذها, بل لتعلم أسلوب عربى بليغ, واأسفاه إننى لا أجد اليوم علمانياً يُقبل على قراءة الكتب الدينية أو الإنجيل, بل إن الشباب المسيحى الذين يمتازون بمواهبهم الفائقة أصبحوا لا يعرفون علماً ولا أدباً ولا لغة إلا العربية؛ ذلك أنهم يقبلون على كتب العرب فى نهم وشغف, ويجمعون منها مكتبات ضخمة تكلفهم الأموال الطائلة, فى الوقت الذى يحتقرون الكتب المسيحية وينبذونها) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...