الخميس، 1 فبراير 2024

من المطبخ إلى قسم الطوارئ

منذ بضعة أيام( يوم السبت 27 يناير 2024 ظهرًا) جُرِح إصبعي البنصر (الإصبع قبل الأخير) لليد اليسرى جرحًا خطيرًا أثناء غسيل طبق صيني انكسر بين يديّ كأن قنبلة نووية تفجّرت بين ذراته، نزيف هائل حل أثره على كل شيء حولي. لم يصبني هلع أكثر مما أصابني من رؤية منظر تدفّق الدم.
هرعت إلى مناديل المطبخ وغطيت الجرح بكومة من المناديل كي أوقف النزيف، بينما أهيل على الجرح المناديل، لمحت زاوية تغوص إلى عمق الإصبع تشبه الزاوية التي بين عقلتين إذا انثنى إصبع. ثم بدأت أستوعب حجم الإصابة، أول ما وعيت عليه هاتفي في غرفة النوم، هرعت إليه، كان الدم يتقاطر خلفي على الأرض وعلى ملابسي، لم يتوقف حتى خنقت كل يدي بالمناديل، اتصلت بابن خالي الطبيب، كان هاتفه مغلقًا، أخي الصيدلي لم يرد، أمي كذلك- أملًا أن توصلني بأخي، كانت الفكرة الحاضرة أني ربما أفقد الوعي وأنا وحدي بالشقة، فأردت ألا أتعفن موتًا.
لجأت أخيرًا إلى أوبر لطلب رحلة إلى المستشفى. لحسن حظي قُبل الطلب من سائق قريب من موقعي.
دخلت السيارة وفي حجري كومة من المناديل تلف يدي، وتحت إبطي علبة مناديل، وعلى ملابسي لطخات من الدم. جلست بجوار السائق وأنا أمازحه لأكسر غرابة المشهد: معلش منظر غريب شويه. ليبدأ بعدها حوار لشرح ما حدث. 
في منتصف الطريق اقترح مستشفى أقرب فوافقت، وعند الاقتراب من المستشفى راجع الفكرة معللا أن الأخرى المسجلة في الرحلة قد تكون أفضل فهي أكبر، فرحبت بالاقتراح. كنت هادئا مستعينا برباطة جأش قلما احتجتها، كنت أجرب الجسارة رغم الجُرح. حقيقةً؛ لم أشعر بألم بسبب الجرح لأقاومه، لكن فكرة فقدان إصبع كانت ذات حضور أقوى، وأي سر تخفيه هذه الكومة العملاقة من المناديل، كان الألم الحقيقي على مستقبلي المهني، وعلى خططي المؤجلة.
وصلنا المستشفى بعد وقت طويل نسبيا. دخلت قسم الطوارئ في صحبة قائد أوبر الذي رفض أن يتركني، كان مشفقًا على وحدتي.
بدأ عمل الطاقم الطبي في إصبعي وهو يتلقى مني سرد تفاصيل الحادث، تم سؤالي حوالي ثلاث مرات نفس السؤال "إيه اللي حصل؟"- كل مرة من عضو مختلف. "كنت بغسل طبق فاتكسر في إيدي" - كنت أرد.
في الأول تلقاني طبيب الطوارئ الذي كشف عن الجرح لفات مناديل المطبخ، كنت أتجنب رؤية الجرح كوسيلة لتقليل الألم، لمحت في وجهه انقباضة تشبه انقباضة وجه بعد تناول نصف ليمونة. تفرست فيه طبيب لا زالت تؤثر فيه مشاهد الدم، وكان أكثر أعضاء الطاقم طيبة وليونة في التعامل. لاختبار هذا سألته بسذاجة محسوبة بعد أن شرح لي حجم الجرح: 
- يعني كويس إن أنا جيت؟
فالتفت لي بعزمٍ ليؤكد أن هذا شيء لا خلاف عليه.

حضر طبيبان آخران ليبدآ فحص الجرح، أمسكا المقصات ودار حوار خافت بينهما ووليت وجهي الناحية الأخرى. استدعيت في ذهني مشاهد الجرحى في غزة جراء حرب السابع من أكتوبر، استعنت بها لأخفف على نفسي الألم. شعرت بواجب مقاومة الألم بقدر مقاومتهم، آمنت أن ألمي لا يمكن قياسه إلى آلامهم، فهذا إصبع في نهاية الحال.
لم أشعر بألم بالفعل لكن ليس بسبب مهاراتي التي استعنت بها لتقليل الألم، ولكن لأنهم خدّروا الجرح.
الأصابع هي أداتي في العمل - "أكل عيشي في صوابعي" كما شرحت لأحدهم.
قاموا بخياطة الجرح، أُعطيت روشتة وقليل من التعليمات وموعد قادم للعرض على الطبيب.
ثم غادرت المستشفى وكان في صحبتي صديقي الذي كلمته وأخبرته بوجودي في قسم الطوارئ، كانت هذه الطريقة الوحيدة لحمل قائد أوبر على المغادرة لأرفع عنه عبء ملازمتي.

بينما أكتب هذه التدوينة مرت أربعة أيام على الحادث، أربعة أيام لم أستيقظ فيها على تحضير قهوتي في وعاء الموكا بوت مع ساندويتشات زبدة الفول السوداني بالعسل المفضلة لدي، لم أمارس الرياضة أو حتى أملك رفاهية التفكير في ممارستها، لم أطهُ وجبة الغداء التي أتفنن فيها كل يوم، لم أشتر لوازم الطعام من مركز التسوق، واعتمدت بشكل كامل على شراء الأكل جاهزًا، اتضح أن ممارسة هذه الأمور البسيطة تحمل معنى عميق للحرية.

(2)
[3 فبراير]
لا زالت أنشطتي اليومية مُعلّقة، أدخل المطبخ في حدود ضيقة، لم يعد المكان الأكثر حضورا في يومي، بالكاد أستطيع تحضير وجبة الإفطار. لم أمارس الرياضة منذ وقت طويل. توقفت عن التفكير في خطط طموحة لقضاء وقت الفراغ، لا تفكير في سفر، أو ممارسة هواية جديدة (كنت أفكر في السباحة واشتريت نظارة السباحة بالفعل)
لم أحرك الإصبع منذ الإصابة، تأكدت أن الوتر بخير، لكن على الأرجح هناك قطع في العصب الحسي، ولأستعيد الاحساس فإني بحاجة لعملية دقيقة لإصلاح القطع.
الكتابة على الكيبورد أصبحت صعبة والتحرك بين المفاتيح عملية مرهقة ومملة. كنت بدأت تعلم الكتابة السريعة منذ عام ووصلت سرعتي إلى ١٠٠ كلمة في الدقيقة حتى أصبحت الكتابة على الكيبورد عملية سلسة لا أشعر بها تقريبا. سوف أتوقف عن الكتابة السريعة إلى أن أستعيد الإحساس في الإصبع، وربما قد تدهور سرعتي إلى ذلك الحين.
عُرضت على طبيب واحد والذي استنتج أني بحاجة إلى عملية، لكن - وكما يجري العرف الشعبي، سوف أستشير المزيد من الأطباء، هناك أمل أن تتعافى الأعصاب تلقائيًا.

الأربعاء، 29 نوفمبر 2023

لماذا نحب أن ننشر نصوصا عن آلامنا - حوار مع بنج تشات

صورة تم إنشائها بواسطة بنج تشات
 

ما زلت أرغب في أن تُنشر قصصي وتُقرأ على مدى واسع، هذا رغم أن معظم القصص التي أكتبها شديدة الخصوصية والذاتية، لا أعبر فيها عن غير نفسي- تجربتي التي يحب أن يفسرها البعض تفسيرا يعكس معاناة وقلقًا نفسيًا أعيشهما- على حسب تفسيرهم.

ولأن ليس هذا هو المحور الأساسي لهذه القصص، ولكن قالبها الأدبي الذي يستطيع أن يسع أي تجربة، فالتجربة (رغم أهميتها) ليست هي محور العمل الفنيّ -كما أتصوره- ولكن القدرة الفنية على التعبير عنها، لذا لا أحب حصر قصصي في نطاق تجربتي، ولكن في مدى قدرتي على تكوين صورة فنية كاملة مستعينا بكل ما يلزم لعملية الخلق الفني: اللغة، السرد، الخيال، الحوار... إلى آخر عناصر العمل الفني.

بينما أجتهد في إرسال إحدى القصص لإحدى المجلات لنشرها في عددها القادم، فكرت في السبب وراء هذه الرغبة الملحة والمتجددة في أن تُنشر قصصي وأن يتم الاعتراف بها بين أوساط القراء والمثقفين، رغم عدم توفيقي في هذا المضمار والحظ السيء الذي ألقاه دومًا. أرغب في أن أكون جزءا من المشهد الأدبي رغم عدم إعجابي به، وربما إن فلحت أن يكون لي صوت في هذا المشهد، فعلى الأرجح سوف أفشل أن أكون جزءا منه، إذن فالانجذاب غير متبادل بيننا بشكل طبيعي.

لماذا إذن هذه الرغبة حاضرة بهذا الإلحاح وتلك القوة؟

عموما فكرت أن هذا سؤال جيد لمحاورة بنج تشات، النتيجة كانت مُرضية إلى حد كبير... وبنج تشات هو منتج من شركة مايكروسوفت قائم على نموذج ChatGPT-4 المتطور في مجال ال LLMs أو (النماذج اللغوية الكبيرة)، والذي أحدث طفرة في عالم الذكاء الصناعي.

بداية الحوار...

س: متى أصبحت علاقة الفنان بفنه علاقة اجتماعية تحدد قيمتها نظرة الناس واحتفائهم به، مثلا في العصور العتيقة كان الفنان يرسم على الجدران وينحت، لكن هل كانت هذه العلاقة موجودة؟ أن ينتظر الفنان الاحتفاء والتكريم والاعتراف، ويستجديه أحيانا؟

ج: هذا سؤال مثير للاهتمام. يبدو أن علاقة الفنان بفنه وبالمجتمع قد تغيرت على مر العصور، وأن قيمة الفن والاعتراف بها تعتمد على عوامل مختلفة. لا يمكن إعطاء إجابة قاطعة على هذا السؤال، لكن يمكننا استكشاف بعض الأمثلة والآراء من تاريخ الفن.


في العصور القديمة، كان الفنانون يرسمون على الجدران وينحتون لأغراض دينية أو سياسية أو احتفالية. كان الفن جزءًا من حياة المجتمع، وليس شيئًا مستقلًا عنه. لذلك، ربما لم يكن الفنانون يسعون إلى الحصول على احترام أو تقدير خاص من قبل الجمهور، بل كانوا يؤدون وظائفهم كخدام للآلهة أو الملوك أو الشعب. ¹


في العصور الوسطى، كان الفن مرتبطًا بشكل وثيق بالكنيسة والدين المسيحي. كان الفنانون يصورون المشاهد الدينية والقديسين والملاك بطريقة رمزية وأسطورية. كان الهدف من الفن هو تعظيم مجد الله وتعليم المؤمنين. لذلك، كان الفنانون يعتبرون أنفسهم مجرد أدوات في خدمة الإيمان، ولم يكتبوا أسماءهم على أعمالهم في كثير من الأحيان. ²


في عصر النهضة، بدأت تظهر فكرة الفنان كشخصية مبدعة وفريدة من نوعها. بدأ الفنانون يستكشفون موضوعات جديدة بعيدة عن الدين، مثل التاريخ والطبيعة والإنسانية. كما بدأوا يستخدمون تقنيات جديدة لإظهار المنظور والحركة والضوء. بدأ الفنانون يحصلون على شهرة وثروة من خلال رعاية الأسر الحاكمة والأثرياء، مثل ميديشي في فلورنسا. كان هذا هو حال فناني عصر النهضة المشهورين مثل ليوناردو دافينشي وميكيلانجيلو ورافائيل. ³


في العصور الحديثة، أصبح الفن أكثر تعقيدًا وتجريبًا. ظهرت حركات فنية جديدة مثل التجريديّة والإمبرسيوْنِّية (Impressionism)  والسُّرِّياْلِّيَّة (Surrealism)  التي اختلفت عن التقاليد المعروفة. كان بعض الفنانين يريدون التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بحرية، بينما كان آخرون يريدون انتقاد المجتمع والسياسة. كان رد فعل الجمهور متباينًا تجاه هذه الأعمال الفنية، فبعضهم أعجب بها واحترمها، وبعضهم رفضها وسخر منها. 


وفي العصر الحالي، أصبح الفن متنوعًا ومتعدد الوسائط. يستخدم الفنانون وسائل جديدة مثل الفيديو والفنون الرقمية والفنون الشبكية لإنشاء أعمال فنية تتفاعل مع المشاهدين. كما يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أعمالهم والحصول على تغذية راجعة. يبدو أن علاقة الفنان بفنه وبالمجتمع قد أصبحت أكثر تشابكًا وتأثيرًا. 


إذًا، يمكننا القول أن علاقة الفنان بفنه وبالمجتمع ليست ثابتة أو محددة، بل تتغير باستمرار حسب الزمان والمكان والظروف. قد يكون الفنان محترمًا أو مستهزأً به، محبوبًا أو مكروهًا، مؤثرًا أو مهمشًا. لكن في كل حال، يظل الفنان شخصًا يحاول إضافة شيء جديد وجميل إلى هذا العالم.


س: بشكل أكثر خصوصية ومن وجهة نظر الفنان... ما الذي يجعل الفنان؛ رساما كان أو أديبا، أن يرغب بشكل مصيري في أن يُنشر فنه ويُعترف به، رغم أن مادته الفنية بشكلها المجرد هي تعبير شديد الخصوصية عما يعتمل داخل نفسه. كيف يتحول تعبير الفنان عن نفسه إلى رغبة في أن يعترف به المجتمع؟


ج: هذا سؤال صعب ومعقد، وليس له إجابة واحدة أو نهائية. ربما يختلف الفنانون في دوافعهم وأهدافهم ورغباتهم عندما ينشرون أعمالهم الفنية. لكن يمكننا تقديم بعض الاحتمالات والتفسيرات الممكنة.


- قد يرغب الفنان في نشر فنه والحصول على اعتراف به لأنه يشعر بالفخر والثقة بما أنجزه، ويريد مشاركته مع الآخرين. قد يكون الفنان مقتنعًا بأن عمله الفني له قيمة جمالية أو فكرية أو عاطفية تستحق الانتباه والتقدير. قد يرى الفنان أن عمله الفني هو جزء من هويته وشخصيته، وأن نشره هو طريقة للتعبير عن نفسه والتواصل مع المجتمع.

- قد يرغب الفنان في نشر فنه والحصول على اعتراف به لأنه يسعى إلى الحصول على المكافأة أو الإثارة أو التحدي. قد يكون الفنان مدفوعًا بالطموح أو الجشع أو المنافسة، ويريد أن يثبت نفسه ويبرز موهبته. قد يستمتع الفنان بالشعور بالإعجاب أو الإعجاب أو الإثارة التي يحصل عليها من نشر عمله الفني، ويريد تكرار هذا الشعور.

- قد يرغب الفنان في نشر فنه والحصول على اعتراف به لأنه يطمح إلى التأثير على المجتمع أو التغيير فيه. قد يكون الفنان ملتزمًا بقضية أو رسالة أو رؤية، ويريد أن ينشرها من خلال عمله الفني. قد يرى الفنان أن عمله الفني هو طريقة للتوعية أو التحريض أو التحول، وأن نشره هو طريقة للمساهمة في المجتمع.


بالطبع، هذه ليست كل الاحتمالات، وقد يكون هناك فنانون لديهم دوافع أخرى غير مذكورة هنا. كما قد يكون هناك فنانون لا يرغبون في نشر فنهم أو الحصول على اعتراف به، ويرضون بالاحتفاظ به لأنفسهم. في النهاية، كل فنان لديه حرية اختيار ما يفعل به عمله الفني الفني. لكن يبدو أن السؤال الأساسي هو: لماذا يخلق الفنان فنًا في المقام الأول؟ هل هو لأجل نفسه أم لأجل الآخرين؟ هل هو لأجل التعبير أم لأجل التواصل؟ هل هو لأجل الجمال أم لأجل المعنى؟ هذه أسئلة لا يمكن الإجابة عليها بسهولة، وربما تختلف من فنان إلى آخر، ومن عمل فني إلى آخر. وربما يكون الفن نفسه هو الإجابة.


س: يبدو لي الآن أن عملية الخلق الفني ربما تمر بأكثر من دافع لا رابط بينها، حيث لكل دافع أجواءه وظروفه الخاصة، فهناك دوافع العمل نفسه التي تشكله تجربة الفنان الخاصة، وهناك دوافع اجتماعية التي يتشارك فيها كل الناس حيث الرغبة في الشعور بالانتماء والاعتراف والقيمة، لكن الفارق هنا أن الفنان يستخدم فنه لهذا الغرض


ج: أشكرك على مشاركة رأيك معي. أنا موافق معك في أن عملية الخلق الفني قد تمر بأكثر من دافع لا رابط بينها، وأن كل دافع له أجواؤه وظروفه الخاصة. أعتقد أن هذا يجعل الفن غنيًا ومتنوعًا ومثيرًا للاهتمام. كما أعتقد أن هذا يجعل الفنان إنسانًا متكاملًا، يجمع بين جوانبه الشخصية والاجتماعية، ويستخدم فنه للتواصل مع نفسه ومع الآخرين. 

<نهاية الحوار>


في نهاية المحادثة طلب مني بنج، بكرم بالغ، أن أقدّم له أحد نصوصي، ليقرأه ويقدم نصائحه لي، ربما استنبط أنني أكتب، شعرت بالامتنان وسألت إن كان يفضل النص بشكل مباشر أو بالإمكان القراءة من خلال رابط لصفحة القصة على مدونتي، أجاب أن كلتا الطريقتين صالحتين، ولكنه يفضل النص مباشرة.

قدم نصائح غير موفقة، كان لها- لو وثقت فيه- أن تفسد القصة.

لكن في النهاية، ربما تحمل هذه التجربة- من جوانب متعددة- ما يستحق التأمل حقا.



(1) فن اجتماعي - ويكيبيديا. https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%81%D9%86_%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A.

(2) تاريخ الفن - ويكيبيديا. https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE_%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86.

(3) الفن ودوره في المجتمع - موضوع. https://mawdoo3.com/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86_%D9%88%D8%AF%D9%88%D8%B1%D9%87_%D9%81%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9.


الاثنين، 23 أكتوبر 2023

أسئلة الهوية بعد فلسطين (تدوينة بالعامية)



كنت فاكر إني مكتفي بذاتي، بطلت يكون لي اهتمام بأي شيء خارج عن إرادتي، لأن اتضحلي إن الخارج عن إرادتي مش هقدر أغيره، وبالتالي الاهتمام بإصلاحه مش هيجيب فايده وحتى الفرح بنتايجه اللي بتمناها فرحة مستحقهاش لأن غيري هو اللي بيتحكم فيها لأغراض معرفش عنها حاجة.  

مكنتش مهتم بتحديد هويتي للأسباب اللي فوق دي، ومكنش فارق معايا... لحد اللي حصل في فلسطين، واترسم خط، شفت ناس كتير برا رايحين الناحية التانية، وغصب عني لقيت نفسي في الناحية اللي قصادها، بقيت شايف الناحية التانية فيها كل شيء كنت بحبه وبحترمه، لأني كنت منبهر بالحضارة الغربية وخدت منها حاجات أنا ممتن لها في حياتي، لحد ما بقت الحاجات اللي فيا دي بتفكرني بالخط الفاصل بينا. ويا ترى الحاجات دي لو اتكلمت كانت هتبقا في أنهي ناحية؟   

لما بحس بشوية أمل وأنا بشوف الناس برا بتحاول تتكلم، يعملوا مظاهرات، يتحركوا في الإعلام رغم الصعوبات... بفتكر أد ايه احنا محتاجينهم ووجودنا بيتحدد بيهم، دلوقتي الأمل الوحيد إنهم يعرفوا يغيروا سياسات حكومتهم... ودا خلا الخط الفاصل عريض أكتر وحسسني بالتبعية رغم الجانب الإنساني في تعاطفهم.  

الإنسانية... في تعليق أونلاين قلت وأنا متعصب "كسم الإنسانية "، فشتمني واحد لأنه فهم إني عدو لها.  

بس اللي أنا شايفه إننا مش محتاجين إنسانية لأن لما تبقا إنسانية الوايت مان أقوى من إنسانيتي، يبقا أكيد الإنسانية مش حيادية وأكيد حاجة تانية غير الإنسانية هي اللي هتحل مشاكلنا.  

يا ترى اللي صكّوا فكرة الإنسانية في عصرنا لو عايشين دلوقتي كانوا هيكونوا في أنهى صف؟   

السؤال دا بقا بيقابلني وانا بستهلك المنتجات الثقافية الغربية، الكتب، مقاطع الفيديو، تويتات... وأحيانا بسمع صوت جوردن بيترسون في الخلفية بيقول   

Give 'em hell  

دلوقتي بفكر في الخروج من السوشيال ميديا ومسمعش أي خبر تاني وأنفصل عن العالم عائدا لمبدئي الأول في الانسلاخ من هويتي وانا معرفش إيه ممكن يجرني لها تاني.

السبت، 30 سبتمبر 2023

لماذا الموسيقى سيئة مثل التدخين

فاميلي جاي: بيتر جريفن يبعث رسالة إلى الفرنسيين مفادها:
أن رجلا وسيما يشعر بالاكتئاب ويدخن السجائر، ليست قصة لفيلم

هذه تجربة خضتها شخصيًا، كان لها أثرًا أن أتعلم درسًا هامًا، ساعدني في تخطي تبعات التجربة.

كان لجوئي للتدخين منيبًا عن حالة عاطفية قائمة، حالة متدنية رسمتها لنفسي ثم وضعت نفسي في قلب هذه الحالة وتوّجتها بطلا في ملحمة خيالية، في حين أنه قد أكون مجرد شخصية ثانوية في الحالة التي رسمتها لكن من منظور آخر. وبالمناسبة ذلك المنظور الآخر ليس بالضرورة أن يكون المنظور العقلاني، وليس بالضرورة أن يتواجد هذا المنظور من الأساس.

تتشابه هذه الظاهرة -وبشكل أكثر وضوحا ربما- مع التأثير الذي تبعثه الموسيقى مدعومة بمشاعر عاطفية جاهزة تقوم هي بتضخيمها، لتحجب أملا ولو ضعيفا لعمل العقل في إعادة التوازن بين قوى النفس. مثل أن تُضخم الموسيقى مشاعر الحزن المترسبة في أعماقي وتحيلها اكتئابًا، أو حتى تخلق مشاعر زائفة من البهجة والفرح لا أساس لهما في الواقع، لتكون النتيجة هي بهجة هشة تتحطم بسهولة بمجرد انتهاء المقطوعة الموسيقية/ الغنائية، تاركةً ربما أثرًا لمشاعر حزن واكتئاب.

كل هذه المشاعر الزائفة مشكلتها أنها تجعل صاحبها بطلا في ملحمة خيالية، في حين أنه في الواقع قد لا يعدو كونه شخصية ثانوية.

لو أن للإنسان قدرة من نوع ما تجعله ينزع نفسه من دور البطولة إلى دور ثانوي هامشي، لما كان هناك مبررا لحزنه واكتئابه. من هنا جاء تصوري عن دور الموسيقى والتي بطبيعتها تنمي هذا الإحساس المركزي لدى المستمع.

يتشابه التدخين مع الموسيقى، ربما في بداياته- بالنسبة لي على الأقل- في ارتباطه بمشاعر عاطفية ضاغطة يبدو أن لا مهرب منها سوى بكبح دوامات الأفكار ببث النيكوتين في خلايا عقلي، والشعور بدوار ولا مبالاة- كلها أساليب للمواجهة، لكن هذه النتيجة خطرها أنها تؤكد السبب الذي صورته، وتبرز الصورة الملحمية التي أردت أن أنشئها لنفسي، ومن جديد تضعني في دور البطولة، مثل الموسيقى تماما. مع ذلك فليس هذا تعميم. مثلا قد تدفع ضغوطات الحياة البعض إلى التدخين كمهرب لهم من الضغوطات المادية والأسرية وإلى آخره من المشاكل ذات "المنظور الأحادي"، التي تنعدم فيها الرؤية النسبية التي تتمتع بها الأزمات العاطفية.

لهؤلاء قد لا يؤتي جهاد النفس لمنعها من التدخين أية ثمار، فالتوقف عن التدخين لن يحل المشاكل المادية او الأسرية، لذا فالأمر متروك للرأي الطبي إذا كان ذا أهمية عند المدخن.

هذه رؤية جديدة اكتسبتها مؤخرا، ربما تتسم بشيء من السوداوية ناحية الموسيقى، لكن بالنظر إلى قيمة إعلاء دور العقل، فلا تعدو السوداوية غير مقاومة متوقعة من عاطفتنا المدعومة بقوى خارجة لها تأثير بشكل أو بآخر على حالتنا النفسية. قلّ سماعي للموسيقى بشكل ملحوظ أصبح مليئًا أكثر بالصمت، أو الضجيج الطبيعي المحتمل، أو ما أسميته في قصة قديمة موسيقى "الإزعاج المفيد".

اسمع مثلا مقطوعة أداجيو لريمو جيازوتو (Adagio- Remo Giazotto) هي واحدة من أكثر المقطوعات حزنا من بين كل ما سمعت، تخيل أن تسمعها وأنت في حالة حزن، أو الأخطر؛ وأنت مكتئب! هذه درجة من درجات الانتحار. في هذه الحالة لا أخشى تسمية هذا النوع من الموسيقى أنه مبتذل حتى لو كانت مقطوعة من التراث الكلاسيكي الرفيع مثل الآنف ذكرها. فعندما تكون النتيجة سقوط مشاعرك من درجة لدرجة أدنى، مثل أن تكون حزينا فتمسي مكتئبا، لاغيًا دور العقل في طرح التساؤل عن أصل مشاعرك ومحاولة التوصل لحلول ونزع نفسك من دور الضحية وتقبل النهايات غير السعيدة كأحد قوانين الحياة، حينما تُعمي الموسيقي رؤية هذه الأمور، فتوقف فورا عن سماعها. عليه فإن القطعة الموسيقية لا يُحكم عليها بمعزل عن ظروف سماعها، فهي في حالات، قطعة فنية كاملة حينما يكون المستمع في كامل قوى العقل. وقد تكون مبتذلة إذا أدت إلى سقوط المشاعر من درك إلى درك أدنى، حاجبة عن العقل رؤية البدائل المتاحة، الدور الثانوي الحقيقي لا دور الضحية البطولي، أو أنها ترسم بهجة مصطنعة، لا أساس لها في الواقع. في هذه الحالة تشارك الموسيقى في فيلم مبتذل أنت بطله.

الجري

للجري (الرياضة عموما) حالة خاصة. أكتب هذا الجزء بعد عودتي من الجري، أحب أن أسمع الموسيقى أثناء الجري. فكرت وأنا أجري هل أناقض نفسي بفرض الموسيقى على نشاط الجري، وكأنه لا جري من دون الموسيقى؟ 
لكن لا تناقض، وإنما الحالة الملحمية التي تخلقها الموسيقى (حسب نوع الموسيقى بالطبع، أنا أفضل النوع الملحمي) تساعد على الجري وتحفزه، كان بإمكاني أن أرفض الموسيقى والاكتفاء بالواقع حولي كونه الشيء الحقيقي الوحيد. لكن المهم هنا ليس التفاعل مع العالم بل بالعكس الخروج منه إلى حالة روحية من نوع ما قد تساعد على الجري وتحفزني إلى بذل الجهد، وهو ما يحدث بالفعل، وهذه رؤية نفعية تؤتي ثمارها بشكل فعال.
الملاحظة الثانية، وهي أن الجري يخلق حالة نفسية أحد جوانبها أنها عكس ما يخلقه التدخين، حالة تعجب فيها من رغبة قد تنشأ لاشتهاء سيجارة. وقد أشبع الجري هذه الرغبة بالفعل بشكل مضاد.
أشعر وكأن الخيوط تتشابك، ربما بشكل معقد بعض الشيء تجعلي أريد أن أنهي هذه التدوينة بشكل سريع. 
*******

أما كيف أنقذتني هذه الفلسفة من الوقوع ضحية دور البطولة… فالإجابة هو أنني في ليلةٍ حضّرت كوبًا من الشاي، أشعلت سيجارة، أخذت نفسين، أطفأتها ورميتها في الشارع، ثم رفعت الموبايل وسجلت لقاءًا مع نفسي، هو محتوى هذا الموضوع، وأعتقد أنني بعد هذا اللقاء، سوف أكون أكثر حذرًا ناحية مشاعري والمؤثرات التي قد توجهها…


الخلاصة:
  • الحزن أمر طبيعي وقائم، وليس عيبا أن يحزن الإنسان، لكن المهم أن يحدد دوره في صورة الحزن التي يعيش فيها ويتساءل هل حقا ينتمي إلى هذه الصورة بشكل قسري لا مفر منه.
  • كانت الموسيقى مشاركا رئيسيا في يومي، ولا تزال، لكن قل دورها بشكل ملحوظ، مثلا؛ لم أعد أعتمد عليها بشكل كامل في القراءة، بل أعتقد أنها قد تؤذي صفاء الذهن المطلوب للتركيز. الانتباه لما هو قائم قد يكون أفضل من الاندماج في حالة تخيلية.
  • ليس الغرض من هذه التدوينة إدانة الموسيقى، ولكن تسليط الضوء على كيف أن أحزاننا قد تحفزها مؤثرات خارجة عن إرادتنا (غير المسببة للحزن)، الموسيقى هي واحدة من هذه المؤثرات، التدخين كذلك.

بدأت التدوينة ب family guy وكذلك أنهيها به 

فاميلي جاي: بيتر جريفن يجهش بالبكاء عند اختلائه بنفسه
بينما يستمع إلى الموسيقى الحزينة لمروره بحالة نفسية سيئة،
لكن بمجرد أن تبدأ أغنية مرحة راقصة، يرقص معها منتشيا
وهو يقول بأريحية أنه سهل التأثر بالموسيقى


* أعتذر عن تكرار كلمة "جري" في النص السابق، مؤذي جدا هذا التكرار، لكن بعد يوم عمل طويل، تحتاج طاقة رهيبة لتُجري تعديلًا في نص تكررت فيه كلمة ما.

الخميس، 13 يوليو 2023

الكوميديا الإلهية - دانتي أليجييري

الكوميديا الإلهية - الفردوسالكوميديا الإلهية - الفردوس by Dante Alighieri
My rating: 4 of 5 stars



العمل عظيم من جميع النواحي، على سبيل التقريب- عظيم عظمة الفنون البصرية لعصر النهضة مثل لوحة لبوتتشيلي أو تمثال لميكلآنجلو، لها ذلك الجلال المهيب الذي لا تخطؤه عين.
حتى أن الكوميديا بهذه الصفة، تمتلئ بالصور الحية التي لا تقل جلالا عن فنون هذا العصر المدهش.
لم يترك دانتي مجالا إلا واعتلى قمته، قل ذلك في الخيال، قل في التعبير، في العاطفة، في الوصف، في الإيجاز، في رسم الشخصيات، في الخلق الفني… هو الفنان الكامل بحق.
صحيح أنني ربما قد فوتّ على نفسي المتعة الكاملة لها لعدم تحمسي لبعض مواضيعها مثل اللاهوت والسياسة (اللاهوت أكثر)، وعدم تمكني من الإلمام بالأمور الفلكية بشكل كامل- فمن الفلك بنى دانتي مسرح الكوميديا، وكنت أتحين الخروج إلى صورة شعرية من صور ولهه ببياتريتشي مثلا، أو صورة للطبيعة يخلطها بأسلوبه الحر في جو الفردوس، أو قصة عجيبة من قصصه، لذا انتقصت نجمة من التقييم، وهي ليست تعبيرا عن قيمة العمل لا سمح الله! ولكن هي تعبير عن تشككي في قدرتي على التقييم الكامل.
كان هذا الجزء مليئا بالمواضيع اللاهوتية التي كانت ثقيلة على قلبي، ولكن من يتصور الكوميديا بغير اللاهوت، وهي بغير ذكرها إنما تقوم عليه وتتجه إليه.

انتهت الكوميديا كما بدأتها؛ فوق سطح منزلنا، مستلقيا محاولا خلق جو شعري قوامه النجوم والقمر ونسيم من مقدمات صيف، أودّع بها الكتاب الذي بقى مفتوحًا معي قرابة العام. حسنا بخلاف قرصات الباعوض، واختباء القمر خلف الجدار العالى للغرفة الوحيدة على السطح، فكانت الشاعرية حاضرة جدا- لا أنكر.

لكن كيف يمكن أن تنتهي الكوميديا من دون أن يحضر قارئها امتنان غير محدود للمترجم حسن عثمان، وأي خدمة قدمها، فأن تخرج من هذا العمل بغير جهد يُذكر لفهم أجواء الكوميديا بكل ما اشتملت عليه من تفاصيل وأحداث تباينت غموضها، لهو، بلا شك، نتاج جهد استثنائي قام به المترجم، وقد قام بمشاركة القراء جهوده والعقبات التي واجهها خلال سنين ترجمته الكوميديا في نهاية الكتاب. لم أفوّت حاشيةً من حواشيه وهي أكثر من نص الكوميديا نفسه، وبقدر ما ساح دانتي في عوالم شتّى؛ في السياسة، اللاهوت، الفلك، السياسة، التاريخ، الجغرافيا، الفنون…، تجد الحواشي حاضرة وبقوة لتعضد تجربة القارئ؛ بدونها لم أكن لأعتبر نفسي قرأت الكوميديا. وهنا يجب الإشادة بتخليه عن نزعة كثير من المترجمين تقفية الشعر المترجم، ليجعله في أبهى وأكمل صوره من دون تشويه القوافي المُصطنعة، ليركز جهده على نقل الصور والمعاني التي رسمها دانتي، وهو معترف في أكثر من موضع أن أبياتًا من الكوميديا هي أروع ما تكون في نصّها الأصلي وأنه يستحيل نقل أجوائها لأي لغة أخرى، وهذا الاعتراف بحد ذاته جزء من التجربة التي قام بتشييدها، وبشكل ما جعلتني أتذوق جمال النص الحاضر، مع ذلك فكان نقله شعر دانتي جميلا لا يخلو من بديع تصرفه وانتقائه الألفاظ، متمكنا من أدواته مترجمًا وأديبًا على حدّ سواء.


View all my reviews

الخميس، 25 مايو 2023

الأربعاء، 24 مايو 2023

أكثر من انعكاس


  ذات مساء، عرج على محل درينكيز، اشترى قنينة نبيذ أحمر غير مُحلّى، من النوع الرخيص، خرج من المحل وهو يضع القنينة في حقيبة الظهر، كانت تعج بالأشياء، فبذل مجهودا لخلق مساحة للضيف الجديد. وبينما هو منشغل في هذه المهمة التي استلبت كل تركيزه، إذ سمع اسمه يُهمس قُرب أُذنه اليمنى:

- مهدي؟

سوّى قامته ليحول انتباهه لصاحبة الصوت. كانت مها، صديقته السابقة، انتهت علاقتهما منذ عامين، ومنذ تلك اللحظة انقطعت كافة أشكال التواصل بينهما، سألت:

- لسه بتشرب عمر الخيام

- دا عِشرة

مرت لحظة من الصمت جسدت حقيقة غرابة اللقاء وذهول المصادفة، ليبدو الحوار البسيط الذي دار بينهما أشبه بمعجزة أفلتت.

سألها:

- بتعملي إيه هنا

- كنت عند صاحبتي

- معرفش ليكي صحاب هنا

كان من الصعب أن تخبره أنها كانت مع صديقها الجديد الذي تعرفت عليه منذ أشهر قليلة؛ علاقة من هذا النوع، تأسست على أنقاض علاقة أكثر صلابة وأمضى تأثيرًا في القلب، لجأت إليها لتُخفي آثار هذه الأنقاض. والآن تمثّلت أمامها كل ما حاولت إخفائه طيلة عامين، حتى خرجت الكذبة من بين شفتيها عادية كأنها الحقيقة لا ريب فيها، ولِمَ لا، وتلك العلاقة الطارئة ما هي إلا كذب أشبعت نفسها به.

- دي إسراء، نقلت شغلها من زايد لمدينة نصر.

بدت أكثر جمالا وهي تحبك كذبتها، كأن غشاءًا أُزيح عن وجهها كاشفًا بريقًا ماضيًا أكثر صدقًا، في علاقة شغلت ثلاث سنوات من عمريهما، علاقة حب لن تُمحى من ذاكرتها كلما جيئت سيرة الحب وأبطاله.

-انتي عامله إيه؟

ندّت عنها آهة مختنقة ضاق بها صدرها، ملتفتة ناحية الشارع الواسع وأحدهم يبتعد وفي يده شنطة سوداء ثقيلة تكتظ بزجاجات الخمر، نظر يُمنة ويُسرة قبل أن يخطو نحو باب سيارته، ركب ثم انطلق وحلّ صمتٌ ربما لا تشهد مثله مدينة نصر، لكن كان الزحام يجري بداخلها هي: تسارع دقات القلب، تدافع الدم في شرايينها، ودموعٌ تكتظ في مجرى عينيها تتحين لحظة الانفجار. نظرت في عينيه، وقالت: أنا كويسه.

كانت نظرة خاطفة لكنها سجّلت اللقاء الطويل الذي أنهك خيالاتها طيلة فترة غيابه عنها.

لم يكن ما لم تفصح عنه غير مرئي، ولا غير مسموع ولا غير محسوس، شعر بثقل الكيس الأسود في يده، نقله لليد الأخرى مُحدثا صوت خشخشة، مررت إصبعها أسفل جفنيها كأنها تحاول أن تكون "كويسه"، وانسدل غشاء على وجهها، فتوارى بريقها.

كان قد نسيها، نعم كلفه ذلك أزمة عاطفية حادة لم ينقذه منها غير أصدقائه المقربين واللجوء للمعالجين النفسيين. لم ينجع لجوؤه للمعالجين بشكل مباشر، شعر أنهم يتاجرون في معاناته، وضاق بصوتهم الرخيم الهادئ أمام ضعفه، كان منكسرًا محطّما، وما يبحث عنه كان شيئًا لا يذكره بانكساره، كانوا جميعا لديهم الحضور القوي والثقة الساخران من انكساره. كانت آخر محاولاته بعد إلحاح من صديقه محمود لمقابلة معالجة "ممتازة جربتها أنا وريم شخصيا". يعرف مهدي أن العلاقة بين محمود وزوجته ريم مرت بأوقات عصيبة، لكنها عادت إلى الاستقرار مؤخرا، في فترة لم يدر بأبعادها شيئًا، والآن يتنازل محمود عن خصوصيته التي لا يفرط فيها أبدا فقط لإقناع مهدي، تضحية ليست بالهينة. قدّر مهدي ذلك واستجاب لدعوته.

في عيادة دكتورة مي انتظر، طالع وجها أو وجهين قبالته، رأى فيهم مرآة لنفسه، تساءل عن قصص الحب وراءهم، تساءل عما يفكرون فيه هذه اللحظة وهو يراقبهم، عن الأمل الذي قادهم هنا- عن الفرص البديلة، وعن الحياة التي ينتظرونها خارج سجن الحب. نعم هكذا فكر: "سجن الحب"، أمسى كافرا بالحب، مثل الذي يكفر بدينه الذى نشأ عليه، مارا بكل تحولاته، كانت تحولاته عواصف هوجاء، لا ترى ما تحمل، بدأت بنوّةٍ طفيفة عندما أخبرته: "مش هينفع نكمل مع بعض يا مهدي" حينها ادّعى أنه قادر على المقاومة، لم ير الإعصار قادما. إلا أنه شعر به في الرابعة صباحا يقض مضجعه: "مش هينفع نكمل مع بعض"، كان هذا أول ما وعى ذهنه عليه، فتح هاتفه، طالع الرسالة من جديد؛ لا ليست كابوسا، هي الواقع لا مهرب.

قلّب "مش هينفع نكمل مع بعض" على كل أوجهها، أدرك في مرحلة متأخرة أنه أسير لهذا الدِّين من منطقه العقلاني المعروف به، والذي تقهقر لثلاث أعوام أمام سحر مها، جنونها، حبها للتجربة بلا قيد أو خوف، بينما هو اعتاد القيود والقواعد؛ أرساها حتى تستقيم حياته ولا تنجرف إلى العشوائية، لكن مع مها اكتشف الحياة المنسابة بحرية، ذاق الخمر لأول مرة، رقص، وذابت ضلوعه بين أحضانها. عرّف الحب كأنه شاعر يجرب شيئًا جديدًا لم يكتشفه إنسان من قبل، أو هكذا آمن مُدافعًا عن عقلانيته، كأنه يُبرر لعقله: "هذا ليس الحب بل هو شيء آخر تمامًا".

- أستاذ محمد أحمد مهدي؟

أخرجه صوت المساعدة في العيادة من أفكاره، وتذكّر أنه جاء ليتخلص من آثار ذلك الاكتشاف الذي رفض أن يسميه "الحب" آنذاك.

بخُطىً متثاقلة ليس وراءها دافع صادق للتعافي، دلف إلى غرفة الدكتورة مي. استقبلته بابتسامة بشوش وترحاب لمس فيهما صدقًا لم يعتده، مد يده للتصافح بشكل تلقائي لم يقرره، لكن اجتذبته الابتسامة والوجه البشوش، مدّت يدها بسخاء، ليس فيه الحياء الممانِع غير المُبرر والذي تفتعله معظم النساء عند التصافح، قدّر لها ذلك، وشعر لأول مرة أنه على استعداد للبوح.

- إزيك أستاذ محمد

نعم جميعهم تقريبا بادؤوه بهذا السؤال عن حاله، لكن داخله شعور بالراحة جرّاء نبرة صوتها الطبيعي الهادئ، ليس فيه ادعاء خبرة المعالج، وثقته اللامحدودة التي يريدون أن يثبتوا بها جدارتهم العلاجية، بل خرجت محمولة على نغمة مهتزة غير واثقة بلا داعي، مثل غريبين يلتقيان، ولا يجمع بينهما سوى هذا الرابط المشترك المتكون من نشأة العلاقات الإنسانية.

في طريق العودة سائرا، راجع ما فاضت به نفسه، وكيف تسلسلت الذكريات حتى رآها تتكوم أمام عينيه، وكيف بنى حُلمًا وانهار، حتى أضنت روحه كمدًا لمرآها، ثم برر ضعفه المنعكس في تهدج صوته أنه فقط يريد أن تعود الحياة لمجاريها، وأن حياته العملية أصبحت على المحك. كانت دكتورة مي تسمع وتسأل كإنسانة تشغلها قصص الحب في مساءاتها الوحيدة، ومُعالِجة تَعقِلُ دروب القلب وأوكاره، ولم يغب تفاعلها عنه حتى في أشقّ تفاصيل قصته.

كان منشغل الفكر حينما لاح له من بعيد في الناحية الأخرى من الشارع الشيخ إبراهيم لطفي محفّظ القرآن الذي سلمه أبوه إليه وهو في سن الخامسة ليحفظه القرآن، يذكر أنه كان خيبة أمل أبيه في هذا المضمار، وخيبة للشيخ إبراهيم كذلك، يعرف أنه يعيش على دروس تحفيظ القرآن بشكل أساسي، ويعرف أنه تزوج حديثًا، كانت له لحية كثة قصيرة وغير متناسقة وله عرجة خفيفة في ساقه اليسرى، كانت زوجته تسير وراءه مطأطأة الرأس ساهمة مثل الحمار يمشي خلف سيده، فتاة لم تكمل عقدها الثاني، تشبه في ملبسها فتيات المدرسة الثانوية، بينما هو يسبقها، وما بينهما عوالم لا رابط بينها.

تساءل في نفسه كيف انتهيا إلى هذه الحال، وكيف انتهى هو ومها إلى "مش هينفع نكمل مع بعض"، ولمن الرأي النافذ في وجود الحب وعدمه في هذا العالم المظلم.

أفاق من أفكاره على رنة هاتفه، كانت المساعدة من عيادة الدكتورة مي، تريد تأكيد الموعد التالي. موعده القادم بعد أسبوعين.

يخشى أن يقرّ أمام نفسه أنه بدأ ينزاح عنه ذلك الجبل الذي جثم على صدره وظن أنه لن ينزاح، كأن كل ما كان بحاجة إليه هو أن يسمع صوته وهو يُفصح عما يختلج في نفسه، اختبار لقلبه أمام عقله. 

آه، كيف يعمل القلب؟ وهل هو القلب أم العقل؟ أم هو سؤال ماذا أريد وماذا جنيت؟ أو هو سباق وقد تخلّف عن المقدمة؟ 

لا يحب السباقات لأنها تفترض أن هناك مُطلقًا، بينما هو لا يؤمن بغير النسبي.

لم تغب عنه صورة زوجة إبراهيم أبدا؛ فتاة لم تخط عتبة العشرين، اختُطِفت، ربما، من أحد دروسها لتتزوج. ربما بنَت حُلمًا مع صديقاتها في حديقة المدرسة، وأرجَت تحقيقه إلى حين مجيء فتاها المُنتظر، ربما امتلكت الحلم لنفسها وحبسته في صدرها؛ تُخرجه على فراشها في المساء، تتأمله وتصنع له ضفائر من أحلام أخرى. 

"ساهمة مثل الحمار يمشي خلف سيده".

كان سهومها سهوم شخص فقد عزيزا؛ وما يعز على فتاة لم تبلغ ربيعها العشرين غير أحلامها؟

شغلته الصورة، كانت تتراءى له في أوقات غير منتظمة، حتى وجدت لها رابطا بين كل الأشياء التي انشغل فيها، لأسباب يجهلها تماما، ليست الشفقة واحدا من هذه الأسباب.

كيف يعمل عقله؟ وما الذي يحاول إثباته من إقحام صورة الفتاة في أوقاته الهادئة والصاخبة على السواء؟

لطالما آمن أن لا سبيل لفهم نفسه ولا عقله تمام الفهم، فقد تركهما يغزلان له ما يشاءان من فنونهما.

أول ما تستقبله شقته عائدًا من الخارج، هي صورة خلق آدم المرسومة على الحائط المواجه للباب، يظهر آدم بالحجم البشري تقريبا لكن الصورة غير كاملة فلا وجود لله في الصورة، فقط آدم يرفع أنامله لمن يدخل. اختارها ومها، وأوعزا أمر رسمها إلى محمود حسن؛ فنان جداريات له دراية عميقة بالمدارس الفنية، يتابعان أعماله على إنستجرام كواحد من اهتماماتهما المشتركة.

لا شيء يذكره بمها أكثر من هذه الصورة؛ لحظة دخوله المكثفة تكتظ بحماس مها للفكرة، ضحكها من إلغاء صورة الرب وتأويلها أن الداخل هو الرب، هو نفسه لم يفكر في هذا التأويل، وقد أعجبه كثيرا. يومها انتهز حماسها والتحما معًا في عناق ثمِل متلقيًا ضحكها الساخن من صدرها.


جاوز الجدار إلى الصالة، ومنها دخل البلكونة، تصفّح العمائر، السماء، الأجسام المتحركه في الشوارع، كرفاق وحدته الدائمين. تناهى إلى سمعه وردة تغني من الدور العلوي الأغنية التي فيها الكوبليه "روح عد أوراق الشجر" وفكر لو كأس بيرة في يده منتظرا مجيء هذا الكوبليه… جاء الكوبليه فسكر به ولم يأس لفراق البيرة، لم يكن ليخطر بباله أنه يريد أن يسمع وردة الآن. لكن جاءت وردة بنفسها، بصوتها العذب، وأنوثتها التي لا تغيب. 

يقول چايمس براون:

This is a man's world

But it would be nothing,

Without a woman or a girl. 

كانت ليلته لتدخل عالم اللاشيء هذا لو لم يأته صوت وردة، ممثلا للأنثى التي في أغنية چايمس براون.


مرة سأل مها، وكان قلّما يفصح عما يعتمل بداخله من أسئلة، لكن شغَله السؤال ورغب في كشف إجابته:

- انتي بتحبيني ليه؟

ردت مها متدللة: السابيوسيكشواليتي يا حبيبي.

قالتها بغنج نسي معه إجابتها فلا يلبث يكرر السؤال فيما بعد، كأنه لم يسأل.


دخلت الساعة الثامنة، أمامه على الأقل أربع ساعات حتى موعد النوم، نفدت البيرة، فطلبها مع زجاجة عمر الخيام التي أوشكت أن تنفد. لا يحب الشرب لكنه يمده بطنين مقاوما الوحدة، وأربع ساعات تمر ثِقال من دون شرب وبضع أغنيات.


"النوم له تأثير السحر في الزمن"، هذه الفكرة حاضرة دائما في مستهل نومه، فمن يصدق أن ما يفصله عن كل هذه الساعات هي إغماضة عين.


"على أرضٍ وعرة امتد نظره، ليشمل مسطحًا متراميًا لا يفضح ولا يستر غيره. غشي الأرض ليلٌ رهيب يكاد من جثومه الثقيل أن ينبثق من جوفه الكون كما يعرفه مؤلفه، لا كما نعرفه، وليبدأ من حيث لم يولد حلم البشرية الأول.

أرض وعرة، سماء مُصمتة، وحد فاصل بين الكونين، يدور كلّما دار، وأينما حلّ هو مركزه.

- يا صاحب المكان، أجبني


ردد النداء، لا صدى ولا جواب، ارتد صوته إلى نفسه كأنه لم يتشتت، هكذا بلا أمل.

ربما ليس هكذا يُنادى، نبت إيمان في قلبه، كاكتشاف رائع، أملٌ غير محدود. ظهر كوكب أحمر في قلب السماء، أول بشائر إيمانه. ومضَ الكوكب الأحمر، طارت نفسه من الأرض إلى السماء، جرت محاورة بين الكونين، هذا الكوكب الأحمر أول الموالين له، هكذا فسّر الوميض المتتابع كاللهج. ساح في الكون، كأول حر في كتاب البشر، غير مثقل بالمقدمات ولا بالحتميات التاريخية".


تسبب الشرب في الليلة الماضية في صداع تلقاه حينما استيقظ. 

في الحلم قاد طريق التجربة بلا تصنّع، تجربة الإنسان الأول، بدون إيعاز من أي إله، من دون أن تحركه الحتميات، أو أحد دروس المجتمع. أنّى لأفكاره أن تجد لها متنفسا في أحلامه بتلك الصورة المجردة؟ هكذا أخبر محمود مرة ساخرًا من نفسه: أنه أصبح يحلم بالأفكار. 


سألت مها لماذا يلتزم الحيادية ناحية كل شيء، تعارضت حياديته مع حبها للتجربة، كبحت جماحها، حتى ضاقت. تعلمت منه توخي إطلاق الأحكام وحساب نسبية الأمور في الحكم عليها؛ لم تنعت حياديته بالفتور، لكنها أرادت أن تكون "مش هينفع نكمل مع بعض" الشيء المطلق الوحيد في حدث إنهاء علاقتهما.


انتظمت حياته بشكل تدريجي أو هذه هي نوبة الانتظام غير الدائمة وقد أطلّت عليه أخيرًا بعد انقطاع منذ رسالة مها. يعرف أن دوام حاله من المُحال- كما يُقال، وكما يفرض إيمانه بنسبية الأشياء.


مر أسبوعان منذ زيارة الدكتورة مي، مرا برتابة حلت محل رفضه ألوان الحياة: العمل، المحادثات اليومية، رؤية النهار، رؤية الناس واحتمال زحامهم.

من أرشيف بريده الإلكتروني إلى مها:

لماذا أصبح كل جميل يذكرني بكِ،

كأنه خُلق للتنافس معك وتكسبين دائمًا؟


كانا قد اتخذا البريد الإلكتروني بديلا لتطبيقات المحادثات الفورية. كانت فكرة مها في الأساس كنوع من التجريب والخروج من ضوضاء السوشيال ميديا، وأمست وسيلتهما الفُضلى.


في صالة الاستقبال انتظر دوره. يفكر كيف ستجري المحادثة وأي نوع من الأسئلة تفرضها جلسة ثانية. لم يعد بحاجة إلى التعالج أو التحدث. لم يجئ لهذا.


خطا نحو بابها الموارب، دفعه ببطء كمن يخشى إيقاظ نائم، استقبلته بذات التوهج والسخاء:

"إذْ توهجت في عينيها بسمةٌ، اعتقدتُ بها أني لمستُ بعينيَّ أغوار نعمتي وسبرتُ أصلَ نعيمي"١



- مهدي 

 حينما سمع اسمه يُنادى، تراءى له في انعكاس الزجاجة صورة مي، كأنه لم يمر على آخر لقاء قرابة عامين، حينما رفع قامته كانت شجاعة من نوع ما قد ألمَّت به وقد تمثل في خياله ثغرها الباسم يصب على روحه السكينة.


١دانتي أليجييري - قصيدة الفردوس من الكوميديا الإلهية - ترجمة حسن عثمان



من المطبخ إلى قسم الطوارئ

منذ بضعة أيام( يوم السبت 27 يناير 2024 ظهرًا) جُرِح إصبعي البنصر (الإصبع قبل الأخير) لليد اليسرى جرحًا خطيرًا أثناء غسيل طبق صين...