الأربعاء، 23 مايو 2012

أصداء من عالم الوحدة



(1)


سعدت حينما سمعت صرير المقبض، فهذا المقبض حرّكته يد، وهذه يد شخص ما جاء ليدخل حجرتي، ولا أحد في الحجرة سواي، أما عن سبب سعادتي تلك، فلأن أحدهم -أخيرًا- سيكسر وحدتي وأكسرها معه ونأكلها سويًّا في تلذذ وتمطق، هكذا هببت من الفراش كمن لدغته حيّة، وانفض عني الغطاء حتى ثار ترابه الكامن في ثقوبه، وأخذت أبحث عن إناء الماء لأروي به حلقي الجاف ومعدتي الخاوية، جالت عيناي بين مرتفعات الغرفة ومنخفضاتها، لكن لا أثر لإناء الماء، ثم تذكرت فجأة أن آخر مرة شربت فيها كانت منذ عشرة أيام أو عشرة أعوام، لا أتذكر بالضبط، وضعت حينها إناء الماء تحت السرير، فامتد ذراعي بعد أن ملت بظهري حتى اضطرب قلبي خشية الوقوع من على السرير، تحسّسَت أصابعي الفراغ تتخبط في أشياء لا علاقة لها بالزجاج أو آنية المياه، ثم فجأة صرخ رجل: "آه، عيني"، اعتذرت للصوت، ثم سألته: "من أنت؟"، فقال: "لا أعرف!"، فقلت له: "لا تهتم يا رجل وعِشْ في سلام"، ثم تعثَّرَت أصابعي في مقبض فالتقطته، فإذا به إناء الماء الذي شربت منه منذ عشرة أيام أو عشرة أعوام، كانت بالإناء سمكتان تجدفان بزعانفهما وتطوفان حول الشعب المرجانية الملتصقة بقاع الإناء، ندمت لأني لم آنس بهما طوال وحدتي الطويلة تلك. شربت حتى ارتويت وأغرقت ظمئي، ثم أعدت الإناء تحت السرير. كانت السمكتان تتخبطان في جدار الإناء الفارغ، وأنا أنظر إلى المقبض المتحرك أنتظر ضيفي ليدخل، ثم دخل بعد أن كسر المقبض وكذلك زجاج الباب، فصرخت في وجهه: "لماذا كسرت المقبض يا رجل وكذلك الزجاج!"

فرد عليَّ من بين شفتيه المنتفختين اللتين يتصاعد من بينهما دخان أبيض كثيف:

"هل أنت هاشم أبو هاشم؟"

فابتسمت وقلت له: " لا، بل أنا هيثم أبو هيثم"

ثم أدار وجهه الجرانيتي الأسود اللامع وتحول إلى قذال عريض وكرشه الأبجر إلى ظهر أخمص، وغرب عن وجهي دون أن يغلق الباب، فصحت: "يا رجل.. مرحبا بك، وأهلا وسهلا، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"، لكنه ما لبث أن اختفى، ثم عاد الصمت مرة أخرى ليدوي في أذني بطنينه البغيض، فتذكرت السمكتين، توقف تخبطهما، التقطت الإناء فوجدتهما نائمتين، وقد أصابتهما الوحدة مثلي، فأعدتهما مكانهما وأنا أقول: "ارقدا بسلام يا صديقيّ القديمين"، حاولت أن أذرف دموع الواجب لكني فشلت ثم حاولت أن أنتحب وأصرخ لكني فشلت أيضًا، ففضلت النوم لعلي أجد أحدهم في أحلامي فأتحدث معه وأشكو وحدتي، رقدت على الفراش وصوت الصمت يزعجني فلا يغالبني النعاس. تذكرت أن الرجل الأبجر قد ترك الباب مفتوحًا، ففكرت أن أخرج وأرى الخلق من فصيلتي الآدمية، نظرت نحو الباب وما وجدت سوى السواد الكالح، فقلت لعله انقطاع في الكهرباء. هممت بالنهوض من الفراش لكني عجزت فحاولت مرة أخرى لكني عجزت أيضًا، ثم بكيت. قال الرجل الذي تحت السرير: 

- ما يبكيك يا رجل؟
- أريد أن أخرج لكني لا أستطيع النهوض
- ولماذا تريد الخروج؟
- سأمت الوحدة، أريد أن أرى الناس
- هم لا يريدون، لقد وضعوك هنا!

فتوقف بكائي، وصرخت: 

- لماذا؟!
- لا أعرف، أنا مثلك
- ما اسمك يا رجل يا طيب؟
- لا أعرف!
- لا يهم يا صديقي..

وتنهدت، ثم غفوت ورأيت حلمي الذي انتظرته... 

رأيت من بعيد شجرة وارفة متفرعة الأغصان يتظلل بها رجل يحمل بين ذراعيه فتاة، فلما اقتربت أكثر، علمت أن الشجرة ليست شجرة وإنما شعبة مرجانية، والرجل ليس رجل وإنما سمكة بلطي والفتاة ليست فتاة وإنما سمكة بلطية، وكان البلطي يبكي وينتحب، فسألته: 

- ما يبكيك يا رجل؟

فقال:

- لقد ماتت زوجتي، عشنا معًا عشرة أعوام، والآن هي ماتت، من لي بعدها بعد الآن؟!
- وكيف ماتت؟
- أنت شربت ماء البحر كله!

فصرخت: 

- لا، لقد كان إناء الماء تحت السرير، وليس البحر!
- انظر حولك!

فنظرت حولي فإذا بي أكتشف أني داخل إناء ضخم من الزجاج، فصحت: 

- يا إلهي، إنه الإناء الذي شربت منه!

فبكيت لأني تسببت في موت البلطية حتى امتلأ الإناء بدموعي وكدت أغرق فيه، لولا أني استيقظت على غطيط الرجل الذي تحت السرير، وشهقت كأنما نجوت من الغرق، أحسست بالعطش الشديد فهممت بالتقاط الإناء لكني ما لبثت أن عدلت عن ذلك وفضلت العطش على أن أراهما، ثم بكيت.

فاستيقظ الرجل وقال: 

- إنهم لا يريدونك يا رجل كف عن البكاء ونم كثيرًا!
- لا أبكي بسبب الناس إنما أبكي لأني تسببت في موت السمكتين!

فقال: "البقية في حياتك"، ثم غط في النوم..

ثم فجأة أحسست بشجار داخل عقلي بين "الوحدة"، "لا أستطيع النهوض"، "الناس لا تريدني"، "أنا قاتل"، "من أنا؟"، فدفنت عقلي تحت الوسادة، ونمت عشر سنوات أخرى.
ــــــــــــــــــــ

نُشِرت القصة فى مجلة أخبار الأدب فى عددها 989 بتاريخ: 8-7-2012



من المطبخ إلى قسم الطوارئ

منذ بضعة أيام( يوم السبت 27 يناير 2024 ظهرًا) جُرِح إصبعي البنصر (الإصبع قبل الأخير) لليد اليسرى جرحًا خطيرًا أثناء غسيل طبق صين...