الخميس، 11 أبريل 2024

الأحجار الطائرة




للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حولها، ومطار القاهرة المتسور بجدار مدور يبتلع ويلفظ طائرات من كل الدنيا. صعدت ثلاثة طوابق؛ الطابق الأرضي يستضيف ميكروباصات القاهرة وأحيائها، الطابق الأول لميكروباصات الجيزة ومدنها، الثاني لمحافظات الدلتا، الثالث للذاهبين إلى الإسكندرية ودمنهور. وهكذا؛ الصاعد لأعلى يدور في دائرة حلزونية تمسح خريطة مصر من مركزها إلى أقصاها، حتى لم يبق معي غير الغرباء مثلي وأبناء الصعيد.

دلّني دال على مكانٍ قصيّ في الطابق الرابع- الأخير، يشبه طباع المدن الجديدة؛ منزوٍ وخالٍ. تفرّق الصاعدون من الطابق الثالث؛ كلٌ إلى وجهته. ثبّتّ أربطة حقيبتي على كتفي وقصدت النقطة التي دُليت عليها. انتظرت وحدي أواجه سورًا منخفضًا لا يحجب العلو ولا يمنع السقوط، واستعجبت كيف لم يقتل هذا المكان طفلا أو شقيًا... أو ربما قتل ولم يتغير شيء.

طار حجرٌ كان مستقرًا أسفل السور، زحف مثل ريشة يسارا ثم يمينا على هوى الريح، ما أن اندفع ناحيتي، حتى جذبته الريح ورفعته لأعلى ثم قذفته بعيدا ليسقط أسفل السور خارجًا، ثم تبعته بقية الأحجار؛ الثاني ثم الثالث فالرابع، بينما اقترب حجر مني حتى توقف تحت قدمي، حاول الصعود على ساقي بقوة الهواء، التقطته وقلبته على جوانبه أستكشفه، طويته إلى أربع طيات ودسسته في حقيبتي.

- ألمونيا

- غريبة الحكاية دي

- مصنع الألمونيا الجديد هو اللي حاططها، كانت متثبتة في الأرض بس المسامير اتسرقت

- أو يمكن طارت

ضحك الغريب الذي جاء ليبدد دهشتي بالأحجار الطائرة.

التفتّ إليه لأسأله عن موعد وصول الباص، لكن ما وجدت غير الفراغ يميني ويساري، وخلفي حارات الباص خاوية، تفصل بينها أرصفة ممدودة بعرض المحطة ثُبّتت عليها مقاعد إسمنتية كالذي أجلس عليه، اختفى كأنه لم يكن، أو يمكن طار!

هبّت نسمات محمولة على نسيج من حرير شفاف تطوف بلا وجهة. ثم ظهر انعكاس للشمس من خلف السور مثل قطع الزجاج، طفا من تحته أحد الأحجار الطائرة، ثم من بعده الحجر الثاني فالثالث فالرابع، اصطفت الأحجار الأربعة على موجة من الهواء الساخن، مترددة بين السقوط والقفز إلى داخل السور، حتى هبطت إلى داخل السور.

- اتفضل

مُدّت يدٌ إليّ حاملةً زجاجة مشبّرة من الكولا. شكرته، وسألته عن موعد وصول الباص وهل يأتي أبدًا. قال أنه دائمًا يأتي متأخرا. قال بعد أن رشف رشفة:

- عاملين وش

فهمت أنه يقصد الأحجار الطائرة، وانتبهت إلى أنه لم يشهد سقوطهم أو عودتهم الجماعية.

وصل ميكروباص لمحته قادمًا نحونا، ركبت بينما ظل هو جالسًا يشرب الكولا، لم يركب إلى أن اطمأن لاستقرار الزجاجة الفارغة في قاع صندوق القمامة.

مع تقدم المساء زادت حدة النسمات، اقتربت الأحجار الطائرة من الميكروباص، تصطدم بهيكله ثم ترجع مكانها عند السور، أحيانا تتناوب الأماكن، اثنان عند السور واثنان عند الميكروباص، أو واحد وثلاثة.


مر وقت طويل في انتظار الراكب الأخير كي تكتمل حمولة الميكروباص، ملّ الناس وضجر السائق من الانتظار، دارت الأحجار حول الميكروباص تخبط وتخربش بعنف.

- أبو الوَش

اقتربت مني وأنا جالس على كرسيي القريب من الباب كأن دوامة تحركهم وتوجّههم. ثم ارتقوا الدوامة كأنها سلّم حلزوني؛ الواحد يعلو الآخر. هممت بالنزول كي أبعدهم، لكن تراجعت.

- إيه اللي مزعلهم كدا

سأل السائق، وأنا اعتبرت أنه يوجه كلامه إليّ.

- مش عارف

قال صوت من الخلف:

-كانوا خمسة دول أربعة بس

تذكرت الحجر الخامس في حقيبتي، أخرجته وأعدته إلى شكله الأول، ثم ألقيته بينهم. جذبته الريح وراح يقفز هنا وهناك حتى اجتمع مع بقية الأحجار، ثم صحبتهم نسمة إلى موقعهم الأول أسفل السور، وبقيت هناك تنقر في الأرض برقة كراقصي الباليه.


من الجهة اليمنى لأرض المحطة، ظهرت فتاة تصعد سلمًا لم أدرِ بوجوده، كانت تحمل حقائبًا ثقيلة؛ على ظهرها حقيبة، وتجرّ حقيبتين بعجلات، تمشي محدبة من الثقل ولا تنظر أمامها، نزلت أحمل عنها بعض حملها، وأساعدها الوصول للميكروباص.

رحب الناس بقدومها كأنها مخلّصُنا، وعمّت بهجة تُوِّجت بصوت بدء المحرّك، لم تفهم شيئًا مما قيل بينما تلتقط أنفاسها.

بينما يستدير الميكروباص للخروج من المحطة، ألقيت نظرة أخيرة عن قُرب نحو الأحجار من خلال زجاج النافذة. لم أستطع تمييز الحجر الذي كان معي بينهم، وقد شملهم السكون.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...