السبت، 26 ديسمبر 2020

روح المدينة

بياقة قميص مهترئة وزر مفقود، اكتملت هيئته على جسده الهزيل ذو البشرة الأقرب إلى لون التراب.

استقلّ القطار المتجه من سوهاج إلى القاهرة بحثًا عن عمل.

في المدينة الكبيرة، بهرته اللوحات الإعلانية العملاقة، لم يستوعب معظم ما تروج له، إلا إنها بثَّت فيه إحساسًا أنها تحتل مكانةً تطغى على وجوده الهش.

نظر في ورقة بالية منقوشة بالتعرّجات؛ حاول أن يربط بين العنوان المكتوب وبين معالم الطريق، لكن بلا جدوى، فزاد شعوره بالتيه. تأهب ليكلم السائق من المقعد الأخير، وبأقصى صوت استطاع رفعه- ليتأكد وصوله للسائق- قال بلهجة محلية:

- نزلني عند ساكس الله يخليك ياسطا.

فردّ السائق بسخرية ممسكًا المقود باسترخاء وهو ينظر إليه عبر المرآة:

- عايز تنزل عند سِكس؟

ضحكت الفتاة بجوار السائق، فبادلها الضحك وهو يشعر بالانتشاء.


شعر بالضيق، وما ضايقه أكثر هذه الرؤوس الغارقة في الصمت والتواطؤ- انطباع سيبقى معه طويلًا عن المدينة الكبيرة.

كان يطالع الورقة كأنها ستشفق على حاله وتنطق بمحطة النزول، حين جاء صوت السائق منعكسًا من المرآة:

- عدي الشارع، زاكس الناحية التانية.


انسلّ من بين الركاب في عجالة كالناجي. نظر يمنة ويسرة يستكشف المكان، ثم خطا أولى خطواته نحو القاهرة، مبتعدًا عن لوحة إعلانية ضخمة تغطي الشمس.

الاثنين، 24 أغسطس 2020

غرام

 كانت العمة مغرمة باسم أحمد، فهو اسم زوجها، الذي أحبته بشدة وفارق الدنيا في عمر مبكر.

تحول حبها إليه تدريجيًا إلى حالات فريدة من الحب للأشياء المتعلقة به، مثل حب العباءات الصيفية المطرزة، وحب أكلة الفتة وحب التمشية ليلا حول المنزل، وكلها أشياء كان مغرم بها الفقيد، رغم أنها لم تكن بالضرورة تشاركه حب هذه الأشياء، لكنها قاومت فراقه الصعب باستحضار روحه فيها.

تميزت فترات معينة من حياتها بطابع خاص. لكن تبقى فترة الغرام باسم أحمد هي الفترة الأكثر تأثيرًا في عائلة سوف يُسمى جميع أفرادها أحمد.

كانت تتميز بشخصية قوية، وجسد نحيل، أضاف لصفة النحول بشكل عام صفة قوة الشخصية في أذهان كل من عاصروها.

يوم أن ولدت جارتها وكانت بينهما رابط صداقة قوية، كانت محتارة بين اسمي إبراهيم أو جلال لوليدها، وقد ترك لها زوجها حرية الاختيار، فتدخلت العمة وقالت ليكن أحمد. لكن الجارة اعتبرته اقتراح غير موفق لم يراعي اسم الأب أحمد. لكنها أقنعتها بطرق كثيرة لن يصعب الوصول إليها، مثل الرنين الموجود في أحمد أحمد، وغنت أغنية لعبد الوهاب بنفس الرنين تقريبا. وكان أيضًا من ضمن حججها (الغير دقيقة) أنه من الندرة أن يوجد مثل هذا الاسم، وسوف يسهل الوصول إليه في السجلات الحكومية وخلافه. نجح إصرارها وقوة حجتها في نظر جارتها في أن يزيحا اسمي إبراهيم وجلال من المنافسة، واقتنعت الجارة التي قالت في النهاية:

  • والنبي اسم حلو حتى على اسم الغالي

وخفق قلب العمة بحنين لم تظهره.

عندما رجعت البيت في هذه الليلة أخذت تتمشى حول البيت مستحضرةً تمشيات الفقيد الذي تمثّل أمامها عدة مرات، حتى أنها انتبهت لخصلات من الشعر الأبيض أعلى جبينه، فقالت:

  • عجزت يا أحمد

رد عليها وقال:

  • وحشتيني يا زينة

وسُمع بكاءها في أحد جنبات حوش المنزل الواسع، مختلطًا بأصوات الضفادع التي ترن على أسطح غيطان الأرز الممتدة إلى أفق بعيد، وبصدى له جلال لم يتأثر بالزمن أو بفقدان الأحبة.

أخذ حبها لهذا الاسم أبعادًا جديدة، أوقعها في مشاكل أحيانا مع بعض أقاربها، فهذه عبلة بنت عمها، ولدت أول صبي بعد انتظارخمس سنوات تخللتها ستة بنات، حاولت إقناعها تسمية الصبي أحمد، لكن ضجر منها زوجها الصلف في النهاية، وحدث اشتباك سريع تخلصت منه بذكاء، انتهى ب:

  • يا خويا أحمد ولا عوض أهو ابننا وابن حبايبنا في الآخر، يتربى في عزكم يارب.

وأخذت تبكي في تلك الليلة في حوش منزلها شاعرة بألم فراق وقسوة، ولم يأت أحمد لمؤانستها.

فهذه حياتها تشكلت هزائمها وانتصاراتها بعد فقدان زوجها بعدد من سُمي أحمد بفضلها. ومجملًا نستطيع أن نقول أنها انتصرت انتصارًا غير مسبوق في هذا السياق. وأصقلت خبراتها في هذا المجال النادر، ولم تنس زوجها أبدًا وبدأت ذكراه تتجسد بوضوح، عامًا بعد عام، واستعادته في حياتها بشكل شبه كامل، وللحفاظ على هذه الصورة كانت لا تتوقف عن تحويل كل من حولها إلى أحمد.

وذات ليلة وهي جالسة في حوش المنزل وأحمد يشرب معها الشاي، تجاذبا أطراف الحديث سويًا، واستعادا ذكريات قديمة لهما في هذا الحوش، وأخذت تضحك بصوت عالٍ مزيحة كوب الشاي من على شفتها سريعًا، عندما ذكّرته بالضفدع الذي قفز من مقطف البلح الذي اشتراه لها وقفز في حجره وهو نط مذعورًا، وقضا ساعة يلملمان حبات البلح في ضحك وبهجة. وهو ضحك أيضًا من هذه الذكرى. وعندما فرغت من كوبها، استأذنته للنوم وأخذت كوبه معها، وقالت وهي تدخل من الباب:

  • هأغسله لك عشان بكرا، تصبح على خير.

وجاء يوم مولدي، وقد اتفق والدي على تسميتي مروان من الشهر الأول لحمل والدتي، رغم علمهما بما سوف تحاوله عمتي العجوز. المهم ولأسباب غير واضحة تغير اسمي إلى أحمد، لم تكن الأسباب التي قيلت لي واضحة، فهناك عشرات الأسباب اختلطت جميعها ببعض، لا أعرف أي منها لي وأيها لأولاد أعمامي وأقاربي، ففي رواية ينقلها أقراني في العائلة ممن سمّوا أحمد، تقول أن زوج عمتي ظهر لأبي ليلة مولدي، لكن أبي يرفض هذا السبب ويسخر منه، ورواية أخرى تقول أن أمي لم تستطع رفض طلب عمتي التي تجلها، وأقنعت بدورها أبي.

عاشت عمتي بين كل من أسمتهم أحمد وكانت تحبنا، للقرابة وللاسم. وهكذا لم تغب صورته عنها أبدًا، وكانت زياراته لا تتوقف أبدًا كل ليلة، وكوبيّ الشاي يدخلان أول الليل ويخرجان في آخره، بعد انتهاء الزيارة.

في ليلتها الأخيرة سيغيب زوجها عنها، لأنها اختارت ألا تستحضره، لقد كانت متعبة ومتلهفة.


السبت، 13 يونيو 2020

الديكاميرون، الهروب من الوباء بالحكايات

الديكاميرونالديكاميرون by Giovanni Boccaccio
My rating: 3 of 5 stars

تقاطعت هذه القراءة - التي بدأتها منذ أكثر من ثلاثة أشهر- مع قصة صعود وباء كورونا. ‏
كتاب الديكاميرون يحكي عن ١٠ شباب وفتيات من إيطاليا وقت اجتياح وباء الطاعون (القرن الرابع عشر)؛ البلد دخلت بالكامل في حجر صحي، فقرروا الخروج لمكان نائٍ بعيدًا عن مراكز الوباء والخطر، قضوا عشرة أيام حكوا فيه مائة قصة، كانت هذه طريقتهم في التسلية وإمضاء الوقت في مواجهة الوباء.

تبدأ قصص اليوم الأول سخيفة ساذجة وطفولية وأقرر أن أتوقف عن القراءة، لكن مع بداية اليوم الثاني تحدد الملكة موضوع القصص -يبدو أنها شعرت بالملل أيضا، وتختار موضوعًا شيقًا فتزداد القصص متعة وتسلية وسخونة.

الكتاب بجزأيه هو معظمه تشكيلة من القصص الجنسية المتواضعة، أغلبها رذيل، تمجد الخيانة والغش من أجل الجنس. لو كانت قصص حديثة لكانت فقدت كل أهميتها. لكن قياسا على الزمن الذي كتبت فيه فهي متطورة نسبيا، إضافة إلى نقدها اللاذع لرجال الدين- ولا أستطيع أن أفكّر في سبب آخر لوجوده في سلسلة المائة كتاب.


***********
قصص مفضلة:
العاشرة- اليوم الثالث
الثانية- اليوم الرابع
الثالثة- اليوم التاسع
الثامنة -اليوم العاشر


View all my reviews

السبت، 4 أبريل 2020

نبي أرض اللواء

كان الزحام شديدًا وأنا أنتظر وصول الباص على كوبري 26 يوليو المطل على حي الزمالك، خرجت متأخرًا من عملي، وكنت أتلهف الوصول إلى مسكني للنوم والراحة.
المهم، هبط من السماء رجلا يقول عن نفسه وزير المرور بجناحين وشارب عريض يغطي فمه، وحاجبان كثيفان يعلوان نظارة شمسية سوداء، بدت ديكورًا يزين الصورة التي أراد فرضها.
 كان يريد المساعدة، ومن بين محاولاته لإثبات قدراته الخارقة كي آذن له بمساعدتي على النحو الذي يريده، قال أنه هو الذي شق البحر للنبي موسى أثناء مطاردة فرعون له، وقال: "أنا هنا لأشق لك الزحام حتى تصل إلى أرض اللواء سالمًا".
قلت: "ولكني لست النبي موسى". فقال لي أن موسى ليس شخصًا ذا امتياز من نوع خاص، وأنَّ نظرته إليه غير نظرتي أنا إليه.
لم أجد ما يمنع التجربة فقلت له أرني كيف أصل أرض اللواء من بين هذا الزحام.
صفق بيديه -بينما كان معلّقًا في الهواء- ثلاث صفقات، خرج على إثرها ثلاثة رجال مرور تفرّقوا عند منتصف المحور ومطلع كوبري 15 مايو، وأخرجوا أجهزتهم اللاسلكية وبدأوا عملًا دؤوبا لإيقاف سيل السيارات العارم القادم من وسط البلد، وكانوا يتلقون الأوامر الصارمة من أجهزتهم اللاسلكية من أشخاص أعلى منهم رتبة. لم يلتفتوا إليّ، كأني غير موجود. ثم شيئًا فشيئًا انمحت آثار الزحام أمامي، وانحسر السيل خلفي.
ثم ظهرت فجأة سيارة فخمة غامضة لا يظهر من فيها؛ أخذت تشق الزحام منطلقة إلى الأمام، وكانت الشيء الوحيد الذي يتحرك على الطريق الساكن، بينما السيارات متوقفة طوعًا لأمر رجال الشرطة. أشار لي الوزير أن أركب، وكان عليّ أن أجري لألحق بها، لكنها لم تتوقف. كان الطريق خاليًا سوى من السيارة وأنا أجري وراءها. نظرت إلى أعلى وكان الوزير يطير خلفي، طلبت منه أن يوقفها لأني لا أستطيع الجري أكثر، لكنه تجاهل استغاثتي، ثم توقفت عن الجري عند ميدان لبنان، محاولا التقاط أنفاسي. صرخ:
- لماذا توقفت؟
قلت:
- لا أستطيع
- لكنه كان سيتوقف، كان فقط عليك أن تثبت رغبتك.
أكدت عليه أني لم أستطع، وكنت أشعر بالإخفاق الشديد من داخلي. بدا منزعجًا، ثم ظهر فوج قادم من السيارات ينطلق سريعًا على الطريق متعطشًا له. كانت أنفاسي تنتظم شيئًا فشيئًا، لم أرد التحدث في الأمر، وكان ما يزال غاضبًا مني. وصل باص الهيئة العام المتجه إلى مدينة الشيخ زايد، ركبت وركب الوزير بعدما طوى جناحيه، وبدا جميع الركاب متحفظين لدى مشاهدتهم له. وكان الغضب المرسوم على وجهه يزيده صرامة ويزيدهم تحفظًا.
جلسنا متجاورين. قطعت تذكرتين، قدمت له تذكرته، آملًا أن يأخذها مني، لكنه رفض الالتفات إليّ.
قلت أنني تعبت من الجري، وأنني أعاني خشونة المفاصل، تحرك جفناه قليلا.
عندما اقترب الباص من سلم أرض اللواء، طلبت من السائق أن يتوقف لأنزل.
كان الزحام شديدًا، وشعور بالعجز يثقلني عن الحركة وأنا أمر من بين السيارات.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...