الثلاثاء، 8 أبريل 2014

بدرو بارامو. قراءة ثانية

My rating: 5 of 5 stars


أكتب إيه، أقول إيه.
أنا وقعت صريعًا في هوى بدرو بارامو
قراءتي الثانية، وفي يومٍ ما آخر سأعيد قراءتها، ربما بعد عام، ربما غدا، ربما الآن بعد انتهاء هذه المراجعة.. سأظل أقرأها، أتلوها بخشوع، متكومًا من الرهبة في فراشي، أو جالسًا على مقعدي في الشرفة والكلمات تنهال على رأسي مثل رذاذ ضباب فجر كثيف، كل المقطوعات الموسيقية تعزف جميعًا، في حالة نادرة من التوافق، مارتشيلو، جلوك، ألبينوني، وجريج، كأن نوتتهم "بدرو بارامو"
...
بسم الله الرحمن الرحيم
أَعوذُ بالله مِن سَطوةِ العَقلِ ووَهم الفَهم.

لو أني يومًا تمكنت من ربط أحداث الرواية، من فكّ طلاسمها، سأتوقف فورًا عن الهيام بها، لا أريد لعقلي أن ينتصر، لا أريد حبس الموتى في عقلي، كنت يومًا أريد ذلك، أريد فهمها، لكن.. لكن بحق السماء، كيف نفهم قصة عن الموتى، أي شاعرية في ذلك، ماذا نعرف عن الموت كي نفهمه، لماذا نريد أن نملي شروطنا على الكاتب ليكتب شيئا مفهومًا عن أشياء لا نفهمها، أريد أن يُخلّد غموض الموت، تلك هي رومانسيته.
كلما زادت سهولة العمل الأدبي، كلما تشابهت تأويلاته، وتحدّثنا عن نفس الأشياء وصرنا نسخًا متعددة. قل أعوذ بالله من أن تجعلنا القراء نسخًا متشابهة، من أن تُسطّح الذوق وتجرّنا إلى حيث يريد الكاتب، لا إلى حيث نريد، وإلا لماذا نقرأ؟!
أنا هنا أتكلم عن فيض الشعور، عن الأشياء المُبهمة التي تأتيك من حيث لا تدري أنت ومن حيث لا يدري الكاتب، لكن من حيث تريد ربة الشعر، ومن حيث تريد روح الأدب، لهذا فالأعمال العظيمة تُخلّد.
قراءتي الأولى كانت في أيام شديدة الصعوبة وكنت أمر بمرحلة سيئة، ورغم سوداوية الرواية وحديثها عن الموت، إلا أني حينها وجدت الصُّحبة، وجدت من يؤازرني، وصرت أكتب نصوصًا مثل هذيان المحموم، لم أكن لأكتبها، ومن ثم الخروج من تلك الحالة أو مساعدتي على التغلب عليها، إلا بمساعدة بدرو بارامو.
من الرويات القليلة –إن لم تكن الوحيدة- التي تدفعني للكتابة بصدق، بلا تكلف، كأنها تستخرج من أعماق نفسي ما كنت أجهله.
لا أحب بدرو بارامو لأنها تجعلني أكتب، أحبها فقط لأني أحبها، والحب هو سبب حبي لها. لا تسأل نفسك لماذا تحب فتاتك، استمر في حبها، فالعقل حين يتدخل ويقوم ببحثه يُرهق الحب بمجادلاته.
يقول الشاعر الفرنسي جي جوفيت: "لماذا نحب تلك المرأة لا تلك؟ بسبب كذا وكذا؟ لزرقة عينيها أو لأن أنفها أقلّ طولًا؟ عندما نجزِّيء الإنسان نكون قد كففنا عن محبّته، وكذلك الشعر"، بدرو بارامو نوع من الشعر، والسحر.

انتهت المراجعة، لكن هناك دائمًا ما أود قوله، النهاية: بدرو بارامو.

خيال الواقع.. واقع الخيال

الحياة مليئة بالحكايات والقصص، لن ينتهي الأدب ولن تتوقف الكلمة لطالما هناك حياة، أو بالأحرى، لطالما استمرت الحياة، وأي محاولة للهروب من الواقع هو في الحقيقة ليس أكثر من إعادة تشكيله، لمواجهته بشروطنا نحن لا بشروطه هو. كل حركة، كل إيماءة، كل كلمة، يمكن إعادة تشكيلها جميعًا لتصبح قصة مختلفة، لمواجهة الواقع بها، فالهروب من الواقع يتشكل من الواقع.

في الواقع -واقع الحياة- تجد كل القصص من كل المدارس، قصص تنتمي للواقعية، للاجتماعية، للرومانتيكية، الحداثة وما بعدها، وحتى الواقعية السحرية؛ المدارس في الأصل خُلِقت لتواكب احتياجات العصر الذي نشأت فيه، أي أنها تأتي استجابة للواقع. وانتماء كاتب معين لمدرسة ما هي بمثابة عوينات يرى بها واقعه، أو يستخلص بها مشاهده بالطريقة التي يفضلها.

وموضوع أن كاتب ما -أو فنان- لديه خيال واسع وخصب (أي كاتب/ أي فنان)، هو في حقيقة الأمر ليس أكثر من قدرة على تحليل الواقع، وتفتيته لاستخلاص التفاصيل، ثم إعادة دمج هذه التفاصيل، وربطها بفتات تفاصيل أخرى، مع مراعاة التناسق الشعري في مزج هذه التفاصيل، لتكوين عمله النهائي، عملية أشبه بمزج الألوان لاستخلاص درجة معينة، ولا أحد يستطيع تخيل وجود لونٍ غير مكتشف! 

وكون أن عمل أدبي ما نبع من خيال الكاتب وتذوقته العامة، فهذا يعني أن هناك مقدمات وقاعدة ذهنية ساعدت على هذا التقبل، تلك القاعدة هي القاعدة المشتركة لدى الجميع.. الواقع.

ليس ثمّة شكٍّ أن بيئة الأحلام هي الأكثر خصوبة بالخيال، وهي بالطبع لدى الجميع، فالجميع يحلُم والجميع لديه الرغبة في التخلص من الواقع، والهروب منه، أو إعادة تشكيله ليتناسب مع رغباتهم، وهو ما انبنت عليه مدرسة التحليل النفسي عند فرويد وكارل يونج، وفي حين أن الأدباء والفنانون استطاعوا بملكاتهم فعل هذا في يقظتهم، فإن منطقة اللاوعي عند العامة تقوم بهذا الدور خلال نومهم، فهي حاجة ماسة لاستمرار الحياة. والأحلام، مع ثراء خيالها، كل تفاصيلها مُستقاة من مشاهد من الواقع، مع إعادة تشكيلها وتبديل أدوارها، وإعادة ترتيب أولويات الواقع، لخلق هذه المشاهد الفانتازية النهائية. كانت هناك دراسة لبحث أصول اللوحات التجريدية، التي هي –كما هو مُتداول- أكثر الأعمال مُعاداةً للواقع وشذوذًا عنه، وجدوا أن هذه اللوحات تتصل بصورة ما بمشاهد واقعية؛ ربما شقوق جدارٍ متصدع، زبد البحر، لحاء الشجر.. إلخ. وجدوا أيضًا تشابه الكثير منها مع بعض التكوينات الماكروسكوبية الدقيقة، حتى وإن لم يعِ هذا خيال الفنان، فهو إن ظن أنه خلق شيئًا جديدًا غير موجود، فهذا الشيء لابد وأن تكون له أصول من الواقع.

ربما الشيء الوحيد الذي يمكن تسميته بالخيال المطلق هو صورة الفردوس في الأديان السماوية، ودائمًا ما يُشار إليها بأنها ما خطرت على بال بشر، أي أنها لا تمت للواقع بصلة، الذي هو أقصى حدود خيالنا، فبالتالي لا يمكن تصورها، فالخيال لدينا لا يتعدى حدود الواقع.



بالطبع ليست المشكلة في حدِّ ذاتها في لفظة الخيال، وإنما في معناها المنطبع في أذهاننا وأنها شيء متعدِّ للواقع، مضاد له. الخيال هو إعادة ترتيب أولويات الواقع، وإعادة خلقه من معينه، وربما يكون مكملًا لنقصانه، لسعي الإنسان الدؤوب نحو الكمال في الآداب والفنون.

الاثنين، 7 أبريل 2014

حلم جدّي


- زوجتك جميلة، ليت لي زوجة مثلها!

- ماذا قلت؟

- رأيت زوجتك الآن

- أين ذهبت؟

- لا أعرف، لكنها مرّت من أمامي.

قال جدي، وكان عجوزًا هرمًا يتكلم بصعوبة من فمه الأهتم:

- اختر زوجة لم تنشأ في لزوجة قيظنا، ليتها لا تنتمي لجغرافيتنا، ليتها لا تنتمي لنا

- هل كنت مدرسًا يا جد؟

- سرت كثيرًا فيها، وأعرف ما لا يعرفه مدرسوكم

- وماذا عرفت؟

- لا تعش هنا، هاجر، سقطت أسناني هنا ولن أجدها أبدًا

- جدي!... نمت؟ هل أغطيك؟

قال الرجل:

- جدّك مات، غطِّه!

ندت صرخة عنيفة أتت من نهاية الشارع.

- هذا الشارع يعرف كل شيء، حتى قبل أن يحدث!

استيقظ أحدهم كان نائمًا مفزوعًا من الصراخ:

- بل قتلوه، رأيت ذلك في الحلم!

- ماذا رأيت؟

- كان جدك يبحث عن أسنانه، وجدها جميعا، ولما أصبح سعيدًا بها، راحو يقتلعونها من فمه، كان الدم ينهمر على عباءته، حتى التصقت بجسده... كانوا يقتلعونها وهم يقهقهون، وجدك يقبض بكلتا يديه على خصر أحدهم، محدقًا بنصف عينيه في أسنانه.

- ثم ماذا؟

- استيقظت على الصراخ!

- ماذا قال جدك؟

- قال هاجر

- لا، ماذا قال عن زوجتك؟

- جدي لم يقل، قال أحدهم أنه رأى زوجتي مرت من هنا

- هل تعرفه؟

- لا، لقد هرب حين رأى جدي

كان الصراخ يقترب منا، كانت إحداهنّ تقصدنا نحن بصراخها، قال لي:

- قل لها كفّي، جدك الآن يحلم

- هل تعرف فيما يحلم؟

- لا أحد يعرف فيما يحلم الموتى، لكن جدك سيحلم بأسنانه، هو بالتأكيد يريد مقابلة الربّ بها.

كان الصراخ يقترب، حتى أصبح ملاصقًا لأذني، لم أكن أستطيع سماع شيء والصراخ يملأ أذني، حركت شفتي لأقول:

- إذا سمحتي كفي عن الصراخ، جدي يحلم!

قالت وهي تقاوم نشيجها:

- قال لي يومًا أنه يريد أن يأكل فطيرة العسل من يدي، لكن أسنانه سقطت

- هل تعرفين جدي؟

همس أحدهم في أذني:

- ماذا أصابك، هذه زوجتك، زوجتك الجميلة، احتضنها قبل أن تهرب ثانيةً!

- ليست زوجتي، زوجتي هاجرت منذ زمن

هرب بعيدًا، ربما كان خائفًا، فقد كان يهمس مرتعشًا.

- ماذا قال جدّك؟

- قال هاجر

- ألم يذكر إلى أين!

- لا، لم يذكر، ربما في مكان أستطيع أن أحتفظ فيه بأسناني

قال أحدهم:

- زوجتك جميلة، هاجر لتراها

- لكني لا أعرف أين...

صاحت السيدة التي كانت تصرخ:

- بالله عليكم اسكتوا، لا يصح الحديث عن الهجرة، وجدنا طريحٌ من الموت.

همسْت ناحية رأس جدي:

- أهاجر إلى أين يا جدي، لماذا لم تذكر؟
كان جسده متصلبًا، فمه مفتوحًا، وداخله ينام لسانه، بينما عيناه جاحظتان تحدقان في السماء. كان شعره ناعمًا، لكنه قليل، قليل جدًا، لم يكن أبيضًا بل كان بنيًا، عباءته الفضفاضة الآن تبرز جسده النحيل.

- فيما تحلم يا جدي؟ - همست

كان الجميع قد ذهب وتركوني مع جدي، لكنها كانت تبكي عند نهاية الشارع، ربما كي لا تزعج جدي، ولما قد توغّل الليل شعرت بالنعاس، اقتربت منه، وكان دافئًا، استلقيت ونمت بجانبه:

- قد نلتقي في الحلم يا جدي! – قلت وأنا أنظر لنجمٍ يومض في السماء، يحدّق فيه جدّي.

الاعتراف

- لماذا انطفأ النور من وجهك يا ميجيل؟

- الذنوب.. ربما. هل هذا ما تود الإشارة إليه!

- تقسو عليّ بلا داعٍ..

- لماذا تقول ذلك يا ماريو، أنا أعرف أني أرتكب ذنوبًا كثيرة.

- هل ذهبت للاعتراف، هذا مريح، وربما خفف عنك الشعور بالخطيئة، أنا أيضًا أرتكب الخطايا أحيانا، حتى وإن كنت أكره ذلك، لكني حين أعترف يزول عني هذا الشعور بالوضاعة، وأشعر أني تطهرت، حتى أنه يمكنني أن أفعل المزيد من الخطايا بعدها (يقهقه) 

- لا زلت وضيعًا

- احكِ لي يا ميجيل، ماذا فعلت، أنت تعرف أن كل آباء القرية قد ماتوا، حتى القديس الوحيد، يبحث عن أحدهم ليعترف أمامه. اعترف لي، وقد أعترف لك لاحقًا.

- أنت تحرجني يا ماريو، وعلى حسب كلامك، أنت تستريح بعد الاعتراف، لكني أشعر بالخطيئة وأنا أعترف، إنها أكبر مني، أنا جبان يا ماريو، ربما هذه خطيئة أخرى!

- اعترف لي، وسوف أعترف لك بأكثر خطاياي دناءة.

- حسنًا يا ماريو، أنت ربحت.

- ماذا فعلت يا ميجيل!

- أحببت ابنة العم خيسوس...

- ثم ماذا يا ميجيل، هل هذا كل شيء؟!

- ذهبت إليها ذات ليلة، وطلبت منها أن تتزوجني وكنت أحبها يا ماريو، هل تعرف ذلك الحب الذي يجلب معه اليأس، وتفكر أحيانا في الموت، كل شيء اسودَّ في عينيّ، استجمعت شجاعتي وذهبت إليها حين كان العم خيسوس مسافرًا، لكنها رفضت، حينها انهار الحب يا ماريو أمام يأسي، فكرت في قتلها، لكن الحب استيقظ فجأة في صورة غير وديعة، الحب الآخر يا ماريو، وفجأة التهمتها مثل جائع، التهمتها بالكامل يا ماريو، كنت ضعيفًا واليأس يلتهمني من داخلي، كانت تصرخ، تستغيث بأبيها، تستغيث بالسماء، ثم صرخت باسم الرب، كنت ذليلًا يا ماريو، قد تظن أنني كنت قويًا، لكن صدقني، تلك كانت أكثر لحظاتي ضعفًا.. تركتها وهربت، أجر خلفي التعاسة يا ماريو، وغمرتني التعاسة حتى وجهي، وتركت لها الحزن. لهذا انطفأ النور من وجهي يا ماريو.

- استرح يا ميجيل، اعترافك كان ثقيلا.

- لن أسترح يا ماريو

- هل تود أن أعترف لك؟

- لا تعترف لي بشيء يا ماريو، لا أريد أن أسمع المزيد من الخطايا.

من المطبخ إلى قسم الطوارئ

منذ بضعة أيام( يوم السبت 27 يناير 2024 ظهرًا) جُرِح إصبعي البنصر (الإصبع قبل الأخير) لليد اليسرى جرحًا خطيرًا أثناء غسيل طبق صين...