الجمعة، 27 ديسمبر 2013

المجتمع السليم، إريك فروم

My rating: 4 of 5 stars

البشر مجانين، نحن مجانين أيها (العاقل)!

نحن ما نخلق الأوهام ثم نصدقها. نصنع السلاح ثم نقتل به أنفسنا، إنك إن لم تصنع سلاحًا، فلا تغتر بمثاليتك، أنت فقط لم تجد الفرصة. وعندما تُوفِّيت السيدة الطيبة سألها رفيقها في القبر وهما في انتظار الحساب:
- وأنتِ لماذا فعلتِ الخير؟
ردت في أسى:
- لا أعرف! كأني لم أكن أفعله، كأن آخر داخلي هو من يريد، أنا كنت أريد أشياءًا أخرى!
ـــــــــــــ
الثوابت والبديهيات هي أسوأ ما يتم تداوله. والأسوأ من ذلك هو تداوله عبر سلطات أخرى غير سلطة التفكير.
الحياة مليئة بالمتناقضات، عبث هنا وخرافات هناك، هل هذا مُقدَّرٌ علينا؟ هل من الطبيعي أن تواكب أزهى عصور الإنسانية أبشع حروبها على مر تاريخها. هل نحن حقا نعيش أزهى عصور الإنسانية من الأساس؟!
بمجرد ما أن تفتحت طاقات العلم للإنسان وصار هو من يتحكم في الطبيعة، قرر أن يقتل ملايين البشر وينشرالحروب في شتّى البقاع كيفما استطاع، أمريكا راعية حقوق الإنسان تُلقي في مياه المحيط ملايين الأطنان من القمح لتحافظ على سعره مرتفعا، والملايين من البشر يموتون جوعا حول العالم!

بعد كل هذه المآسي، كيف يُمكننا أن ندَّعي تطور الإنسان، وهو ما أن يتمكن من رُقيِّه المادي حتى يطمس بواعث الإنسانية داخله ويرتفع تقديره للأشياء إلى حد التأليه؟!

أُفكّر أحياناً، هل كل ما حققه الإنسان بعد هذا العمر الطويل من الاكتشافات والخبرات والصدامات مع الطبيعة، هو مجرد صناعة سيارة حديثة لمجرد تسهيل الانتقال، أو أن التكنولوجيا والعلوم تنصبُّ في موبايل جلاكسي إس فور –مثلا- هل صناعة أقوى طائرة حربية مقياسًا يصلح للإنسانية؟
حتى إنّ ربْط ذلك بالإنسانية يبدو غريبا علينا! فنحن نتحدث عن التقدم والرفاهية والاقتصاد، كلها أرقام.. لقد تحولنا من كائنات نتعامل مع أشياء محسوسة إلى أشياء مجردة، الأرقام تحول المحسوس إلى مجرد!
ونسينا جوهرنا، نسينا سبب وجودنا الحتمي..

يا صديقي نحن جميعًا زائرون على هذا الكوكب، سقطنا بطريقة ما من السماء لنجد أنفسنا على الأرض (وهو كوكب من الأساس غريب علينا)، وبعد أيام سنرحل، لا نعرف إلى أين لكننا جميعا سنفترق، ألا يجعلنا هذا أشد تماسكا. لماذا لا نفكر بطريقة أكثر تعقُّلا...
بحق السماء ما الذي نفعله؟!!

إريك فروم يفصل بين الذكاء والعقل ويرى أن إنسان القرن العشرين يتقدم بصورة مذهلة في الذكاء، وهي القدرة على التحليل والاكتشاف، لكن عقليا أصبح مريضا والمجتمع ككل أصبح عليلا، فالعقل هو القدرة على معرفة بواطن الأمور، معرفة مايحدث خلف الظواهر، وهذا ما لا تتيحه التكنولوجيا التي تجعلنا نلهث وراء المادة. فنحن لا نعمل إلا للحصول على أجر مجزي لنتمكن من الحصول على الكثير من الأشياء، حينها سيمتليء عالمنا بالأشياء، وسنضمحل أمام أنفسنا وننفصل عنها، لذلك فإننا كثيرا ما نشعر بالقلق رغم أننا نمتلك كل ما نريد، لكننا لا نلمس ذواتنا... فليس غريب أن يكون عصر القلق –كما هو معروف عن عصرنا- هو نفسه عصر التملُك.

ما فعله إريك فروم هو نقض البديهيات، وفكرة أن كل هذا القائم لا مفر منه، وأن رغم كل مكتسبات الحياة الحديثة فلابد من بعض التضحيات، فلن نصل على أيَّةِ حالٍ إلى حالة الكمال.. لكن إريك فروم هو من أضاء فكرة انفصال الإنسان عن نفسه وعن واقعه وإنسانيته، فإن كان هذا هو الحال، فلابد إذن من مراجعة حساباتنا، فالخسارة أعظم مما نعتقد والكارثة أننا لا نشعر بها، لتلذذنا بحياتنا الآلية وبخضوعنا لقوانين الحياة الرأسمالية... لهذا فليس حقا أسوأ من البديهيات..

أعتقد أنه من الجيد منح هؤلاء الذين يحملون في رؤوسهم أفكار وأيديولوجيات معينة، يجب منحهم الفرصة للتعبير عن تلك الأيديولوجيات، وفي مواجهة الرأسمالية المستعرة يقترح فروم فكرة الإشتراكية الإنسانية، وهي تختلف اختلافا تاما عن تلك التي تم تطبيقها- بصورة خاطئة، كما يرى- في روسيا وبريطانيا. فهو ينتقد انتقادا لاذعا كل هؤلاء الذين تخلوا عن الفكرة الأم للاشتراكية والتي تم طرحها حتى من قبل ماركس وإنجلز، والتي كانت في الأساس تهدف إلى بناء إنسان متكامل في إنسانيته ليكون نواة لمجتمع سليم. وينتقد حتى ماركس الذي صب كل اهتمامه بالإشتراكية في الاقتصاد وحده وإهماله باقي جوانب الحياة، هذا إن أردنا تطبيق الاشتراكية كنظام عام في الدولة. فلن يقوم مجتمع سليم بالاقتصاد وحده أو السياسة وحدها أو الثقافة وحدها، وإنه لابد من تناغم بينهم جميعا وبين شتَّى فروع الحياة، وإلا أصاب المجتمع سقم لا يقل عما أصاب الرأسمالية، وينتهي من مقارنته بين الاشتراكية الحالية (خمسينيات القرن العشرين) والرأسمالية إلى أنهما رغم اختلافاتهم فهما يتفقان في الكثير من الأمور، مثل اهتمامهم الزائد برأس المال، وأن الآلة هي ما تدير الإنسان، أو بمعنى آخر؛ الإنسان يعمل من أجل الآلة. فبالتالي يتعزز انفصال الإنسان عن نفسه. فيتوصل في النهاية إلى تلاشي الفروق الجوهرية بينهما، حتى وإن اختلفا في الظاهر ..

أقول أنه بعد أن أضاء فروم تلك النقطة وأزاح بعض البديهيات فإنه يمنحنا بعض الأمل في أن بعض الشقاء الذي يُعانيه الإنسان قد يكون بسبب الأنظمة الوضعية القائمة، وقد تكون سعادته في نظام آخر يعطي لإنسانيته حقها. من يعرف أليس من الممكن أن تكون مشكلة الإنسان هي الأنظمة الوضعية؟ من هنا يمكننا التشبث ببعض الأمل والتغلب على أفكارنا القهرية المرتبطة بالقدر ووضع الإنسان الوجودي، فنحن لم نكتشف بعد هذا العالم الإنساني الذي يتحدث عنه فروم ويربطه برسالات الأنبياء والمبشرين والفلاسفة، فقط إن وجد الإنسان عقله وتخلّى عن سيطرة ذكاءه، حينها سنكتشف هذا العالم...

لا أُنكر أنّي استشعرت ببعض يوتوبية الفكرة، لكننا لا نملك إلا هذا الأمل الذي الذي يجعل الإنسانية هي الهدف الأعظم من الحياة بلا أي أقنعة، أو بمعنى آخر: لنُجرب شيئا جديدا لم تعهده البشرية من قبل، لماذا لا نعيد اكتشاف أنفسنا على حقيقتها؟!

أيضا أتعجب من مدى تعطش القاريء الغربي لفكرة إريك فروم ودعوته الجادة لأنسنة العمل والعلاقات بين الناس ودعوته لتأكيد علاقة الإنسان بذاته وإحساسه بوجوده، وهذا واضح من تقييمهم للكتاب وتعليقاتهم، وهذا رغم الفكرة المنطبعة في أذهننا عنهم أنهم من ينامون ويصحون في سعادة وأحلام ملائكية للرفاهية التي نغبطهم عليها ونحاول احتذاءهم في طريقهم إليها، وهذا ما يؤكد فكرة فروم عن الآلية وتحكمها في الإنسان وانفصاله عن طبيعته وذاته، ولأن الغرب قطع شوطا كبيرا في العملية الآلية فيمكننا أن نطمئن لآراء فروم التي تحمس له مواطنو دولته..

منحت الكتاب أربع نجمات لأن أفكار فروم لازالت في طور الميلاد وهناك الكثير من الأفكار لم يوفِّها حقّها، وأحيانا لم تكن بالإقناع الكافي، بالنسبة للترجمة فهي جيدة جدا، باستثناء تدخل المترجم السافر في إضافة عبارات خاصة بآراءه الشخصية، وأحيانا التنويه بكتاب ترجمه إلى العربية ذكره فروم، كل هذا في وسط أفكار الكاتب بدون استخدام للهوامش أو حتى التنويه بذلك!

لكن على كل حال، سعيد لانتهاء العام بهذا الكتاب، أستطيع أن أقول أنه قد يكون من أكثر الكتب تأثيرًا فيّ.

الجمعة، 13 ديسمبر 2013

إنّهُم لا يَهتمون بِنا

تعاليْ ندهسُ بأقدامِنا عفنَ المدينةِ، نتجاوزُ الشحّاذَ الذي صار جسَدُه في لَونِ الخِرقة التي يرتديها، ينشُ ذبابًا عن ذقنِه الكثّة ثُمّ يأْكلُها معَ رغيفِ الخبزِ، وينظرُ إلينا في ازدراءٍ ونحنُ نهرب،
تعاليْ نتجاوز عن نساءٍ لم يرتدْن حمالاتِ الصدرِ فأعلنَّ سخطهِنَّ على العالمِ في مشيتِهنَّ القاسِية
تعالي نتجاوز رائحة الحي؛ رائحة الطعام يُطهى مع رائحة القمامة مع رائحةِ دخانٍ لأشياءٍ تحترق،
تعالى نهجُر كلَّ ذلك خلفَنا ونحنُ نمُرُّ على رجالِ الشرطةِ الحمقَى وهُم لا يَرونا، أو لا يَهتمّون بِنا،
تعالي نتْرُك دُخَان الحشيش الذي يتسرّب منْ فتحاتِ أبوابِ بيوتِ المساطيل،
تعالي نتجاوزهم جميعًا، حتى نصيرُ وحدَنا، أو حتى نجدُ بحراً أو جبلًا أو قمراً ينتظرُنا وحدَنا، ثُمّ نرقُص غير عابئين بكُلِّ ما يَحدُث، ولا تُخبريني أنّني مجنون، فأنتِ تضحَكين وأنتِ تقولينها!
افردي ذراعيكِ مِثلي وراقبي القمرَ معي ثم هزي قدّك، أطلِقي لنفسك العنان وابدأي معي في الصُّراخ، ألا تَشعرين بلذّة الجنون؟ دَعينا نشعُر بالتَّعبِ قليلاً ونتخلصُ مِن كلِّ المللْ، نرقُص ونهزّ أجسادَنا في نشوة، حتّى نشعُر فَجأة أنَّنا صِرنا طُيوراً تُحلّق،
حينها سنتباهى أَنّنا صِرنا مجانين، وسَنُكرر ذلك كُلّ ليلةٍ حينَ تهمسين في أُذني وأنتِ تشيرين للقمرِ مُبتسمة: "هيا بنا نرقص"!

موسيقى الأكتاف



استدعيتُ ربي، دائماً يأتيني، فهو محب لإجابة الأسئلة كثيراً خصوصاً وإن كانت ذات مغزى، هو أخبرني ذلك في يومٍ ما، وكانت الأمور تسير حقاً على ما يُرام، حتى صِرتُ شديد الإلحاف فتركني على سؤال ألقيته، كنت عبداً وقحاً، عذراً يا رب.. هذا جزء من الحوار الذي دار بيننا، بالطبع لن أذكره كله، فهناك أسرار يأتمنني عليها، أشياء خاصة بيني وبينه:

- ....

- لا يا رب ليس تدخلاً في مشيئتك، كنت فقط أقترح لو وضعت جوار ملائكة الأكتاف ملائكة للعزف، فالموسيقى شيء رائع حقاً يا رب، ونحن، عبيدك المخلصون، في أشد الحاجة إلى مثل تلك الأشياء، نحن أكثر مسكنة من أن يدون أحدهم أفعالنا السخيفة يا رب، كنت أفكر ليلة قبل أن أسلم جفوني للنوم؛ إن كان أحدهم حقاً يدون ما أفكر فيه الآن، وماذا سيكون عليه الحال لو كان ملاكاً يعزف سيمفونية ملائكية قبل أن أنام، بالطبع ستكون أعظم قيمة من تلك الخامسة التي أنجزها بيتهوفن، ناهيك يارب، جلالتك، عما ستتركه في نفوسنا من أثر، أخبرتك من قبل أن عمِّي كان يخيفنى من كتفي الأيسر، وقال لي ملء سبابته، احذر هذا الكتف اللعين، وكنت أهز رأسي طوعاً ورهبة، ولما كبرت وسمعت الموسيقى، وجدت أنه من الأفضل لو خلقت ملاكًا يعزف الفلوت على كتفي الأيمن وآخر لعزف الكمان على كتفي الأيسر، بهذا لا أشعر بالخوف يا رب...

- ....

- عذرًا للإطالة يا رب، هل تريد أن تسمع حكاية أخرى أنجزتها قبل يومين ورفضت أن أقصّها على أحد حتى تتطلع أنت عليها..

- ....

- ها هي يا رب:

"ما أكثر الوخزات هذه الأيام" قلتها غير عابيء بما يحدث على كتفي وأنا أستأنف السير بلا هدفٍ واضح على الطريق العاري من الناس، ولما تكرر الأمر بدا لي أنه ليس مجرد وخز متكرر على كتفى، وكان لي أن أتوقف عاجلا وأن أتحقق من الأمر بنفسي، الشمس حارقة والأفق يتراقص فوق السراب، والطيور تحلق بثقل، بياضها الناصع يزيد تأكيد احتراق العالم، ما هذا الوخز إذن؟ 
عليّ أن أعترف أن الأحلام ملّت عالمها المنغلق وها هي تقتحم الواقع بتبجح، وربما اختارت بيئتها تلك بعناية فائقة، فهل من أجواء أكثر ملائمة للأحلام من سراب قابع تحت أفق يتلوى احتراقا، وطيور بيضاء غامضة تحلق بلا هدف تحت أفران الشمس.
نسيت أن أخبرك يا رب لماذا كنت أسير بلا هدف واضح فى تلك الطريق؟ وما الذي أوصلني هناك؟ حسناً، فإنه ليس من إجابة تبرر هروبي ذلك، سوى أنه هروب، فقط هروب!
التفتُّ إلى كتفي الأيمن حيث مكان الوخز الشديد، تحسست مكانه، فوجدته خاويا، خاويا كالصحراء التى أسير فيها، وأدركت أن الوخز ما هو إلا نقصان شيء، شيء ما اعتدت عليه، فعرفت أن أحدهم، وكان رجلا طيبا يدون أعمالي الطيبة كما أخبرني عمي من قبل، قد ترك المكان وهاجر، فلا عمل لديه، فما الشيء الطيب الذي يمكننى حقا أن أفعله لأستحق ملاكا يدونه في أوراق مقدسة بحبر من الجنة، أنا تافه يارب، لذا فقد هاجر الرجل الطيب، ومن الواضح أن الآخر هاجر لما ملّ كل الأفعال السخيفة التي أفعلها، فما الذي يعنيه له أني سببت المرأة المتبجحة في سرِّي، وما الذي يعنيه له أني شاهدت فيلما إباحيا مللاً، وما الذي يعنيه له أني تركت صلاة العشاء لما شعرت أن لا جديد في الأمر وأنى كل مرة أفكر في نفس الأمور التافهة في الصلاة، كأن تلك التوافه أصبحت جزءًا من صلاتي يا رب، فتركت صلاة العشاء هربًا من تلك الأمور التافهة وتنزيهاً لجلالتك عنها، لا أكثر... ما الذي يعنيه لهما أن ... ربي.. هل ذهبت يا رب؟!
-
- ربي، هل تركتني!.. هل تعدني أن تحضر لي ملائكة للموسيقى بدلا من الملائكة التي رحلت؟ الوخز حقا يزيد يا رب.. ربي؟
-

مشاهد اعتيادية من أيام الحرب


- اقفل يا بني الشباك عايزين نعرف نحل!
(ضرب النار يستمر بالخارج، وصوت الرصاص يصير مكتوما بعد غلق النافذة)
- هو دا ضرب نار يا دكتور؟
الدكتور يفكر في عمق مطرقا:
- ياريت!
- خرطوش؟
يسير ببطئ عاقدا ذراعيه خلف ظهره، ويقول في هدوء:
- ياريت برضو!
- أمال إيه دا يا دكتور؟
- دي قنابل.. الموضوع كبر.

أمام مدخل المبنى:
- إيه الغيمة دي، هي هتمطر ولا إيه؟!
- لا دي مش غيمة، دا دخان!
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مشاهد من أحداث هندسة الزقازيق / نوفمبر- ديسمبر 2013

الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

لو أنّ اللوحة تتكلم!



نظرَ مليّاً إلى اللوحة المؤطرة بإطار خشبيّ مذهّب، وتأمل الجملة المكتوبة بإتقان أثار انتباهه:
(لا إله إلا الله) كانت (لا) ممتدة من أول اللوحة حتى آخرها لتحتوي بداخلها باقي الجملة، وكانت (الله) تعلوهم جميعاً فى شموخِ واضح ولمّا أمعن في الجملة شعر بخجل عجز عن تحديد كنهه، ولما كان وحده، والخجل الغريب هذا يضيق عليه أكثر، ترك اللوحة واستلقى على الأريكة، وكانت تأتيه رغماً عنه انعكاسات خرزات اللوحة على جانب عينه اليسرى، كانت هناك لوحة أخرى في مواجهته، هرب منها ولم يحاول أن يعرف ما المكتوب بداخلها.
ظلت (لا إله إلا الله) تتردد داخله، كأن آخر داخله يواجهه بخجله، كأن هذا الآخر يود لو يقتلع من فمه اعترافا ما، لم يكن يعرف كنه هذا الخجل ولا طبيعة الاعتراف ولا من يكون هذا الآخر! فكان الضيق يزداد عليه حتى ضاق صدره بالغرفة، وقف مرة أخرى أمام اللوحة وسار بعينيه على طول حافة كل حرف منها كأنما يود أن يقتل خجله بالملل، ثم أمعن فى الخرزات وطريقة تثبيتها وتناسق ألوانها، ولمّا ملّ من شغفه المفتعل أصدر تنهيدة طويلة مسموعة بوضوح، قتلت الآخر بداخله، أو أنهما اندمجا معا فى واحد، ونظر إلى اللوحة بطريقة مختلفة، لم تكن نظرته إلى الخرزات أو الحروف وإنما فى (لا إله إلا الله) ذاتها، ثم قال:
- واجهني، لِمَ تخيفنى؟ أنا لا أعرف ما هذا.. أنت تعرف عنى كل شيء، أخبرنى.. من ذا الذى بداخلى، من ذا الذى يقتلنى؟
ولما انتهى، خرج الصمت من قمقمه ليُعيد كل شيء إلى مكانه؛ سكون الغرفة، ال (لا) الممتدة من أول اللوحة إلى نهايتها وال (الله) الشامخة، والخرزات التى تعكس ضوء المصباح، والإطار الخشبىّ المذهب الذى يحتويهم بداخله، ثم أحس كم هو سخيف أن يتحدث إلى لوحة. ولما كانت قد تسرّبت إلى نفسه بعض النشاط ساعدته على المواجهة، فإن نشاطه هذا ما لبث أن غاص فى القلق أكثر، ولم يعْدُ عن كونه حالة عارضة ليستمر فى ذاك التيه الذى يعجز دائما عن تحديد سببه.
هُييء له أن أحدا فى الكون سيسمعه فيُشفق عليه، فتتحدث اللوحة أو ينفلق سقف غرفته على الأسرار، أو أنه يُبعث حيث يستطيع أن يُقابل كل اللذين بداخله وخارجه، لكن شيئا من هذا لم يحدث، وأحس فجأة بعداوة داخله لم يعهدها فى نفسه من قبل، فكره اللوحة وضايقه اللون الرماديّ للخلفية، لكنه تركها خلفه واستلقى على الأريكة في استرخاء مصطنع أيقظ بداخله ذاك الآخر مرة أخرى، ولما أيقن أن لا فُكاك منه سلّم نفسه إليه وإلى أفكاره وإلى انعكاسات خرزات اللوحة التي هزمته فى النهاية، وأمعن فى اللوحة التى أمامه.

الأحد، 8 ديسمبر 2013

والله بعودة يا أحلام

من أغرب الأحلام اللى مرت على ever:
مستلقي على أرض واسعة في الليل أتأمل النجوم، وفي يدي جهاز خاص أراسل به أحد النجوم، وعلى طريقة "الطيور الغاضبة"- Angry Birds، أصوّب الجهاز فتبدأ بعض النقاط الضوئية في الظهور في الفضاء بين الجهاز والنجم لتصحيح المسار الذي ستتحرك عليه الإشارات نحو النجم، ثم أبدأ في إرسالها، وبعد حين يرد عليّ النجم بومضة محسوسة من الضوء لتسقط على الأرض فأهرب بعيدًا حتى لا تلسعنى سخونتها، وأتأمل جمالها القرمزى من بعيد وأنا مشدوه..

ثم المشهد التالي الأكثر غرابة؛ لديّ قصر عظيم تحت الماء تقتحمه بعض الكائنات الفضائية تريد احتلاله وبعد صراعات وقتال وكرّ وفرّ(اتشالت فى المونتاج بعد ما صحيت) وجدت نفسي معهم بجوارهم على الشاطيء وصدورنا تعلو وتهبط من كثرة العراك والتعب، ننتظر خروج القصر من تحت الماء، ثم ينشق الماء لتظهر قمة القصر فيصيح الجميع ويهلل، وكان من الواضح أن الكائنات الفضائية انتصرت.. وعشان فرويد ياكل عيش، لا أنسى أثناء إقتحام الكائنات الفضائية كان هناك عرس بين قطين كبيرين وكان القط متحمس جدًا، لدرجة إن بعد خروج القصر من الماء وفي لفتة جيدة من المخرج تتحول الكاميرا إلى القط وهو يؤدى مهامه الزوجية فى حماس واضح وسعادة بالغة... وينتهي الحلم بهذه النهاية السعيدة!

الخميس، 5 ديسمبر 2013

أرخص ليالى- يوسف إدريس

My rating: 3 of 5 stars

دى بقا مجموعة "نظرة"، قصة نظرة اللى درسناها في ثانوى.
لما انسى اسم المجموعة (أرخص ليالي) أفتكر نظرة.
القصة دي رغم قصرها فهى مثل رصاصة بحق، على وصف يوسف إدريس، إلا إن فيها حاجة:
بحس إنها مثلا هى الإعلان العالمي لحقوق الطفل، دستور الطفل فى العالم، مفيش مادة دستورية تقدر تعبر عن حقوق الطفل زى القصة دى. هى صرخة طفل عجز عن التعبير، فتولّى أمره واحد بإنسانية وأدب يوسف إدريس.

يمكن تقسيم المجموعة لجزأين: -جزء القصص فيه عادية، ينتمى –غالبا- لبدايات يوسف إدريس الأدبية، الوصف فيه إلى حد ما ضعيف.
-والجزء الآخر مكتوب بحرفية شديدة، قدرة عجيبة على الوصف، اقتناص لحظات من صعوبتها أحيانا لا أتمالك نفسى من الضحك، أو من الإندماج لدقة الوصف، لدرجة إنى بحس إن الأحداث ماثلة أمامي، ودا جزء من عبقرية يوسف إدريس، وصف هايل، والغريب إن عنده القدرة دي في أي موقف تقريبا وأي بيئة؛ فلاحين، موظفين، أطباء... لكن طبعا يوسف إدريس أكثر خبرة فى حياة الفلاحين والمهمشين بحكم بيئته الأولى، هو من فاقوس، على بعد ساعة من هنا – زقازيقنا :)

أكثر ما يميز المجموعة هى روحها الخفيفة اللى أحيانا طغت على الفكرة أو القضية، فلا تتعدى أكثر القصص عن كونها محبوكة كويس والوصف فيها مضبوط جدا، ودمها خفيف، لكن لغياب نظرة فلسفية أو مغزى ما فالقصة بمجرد ماتنتهى ينتهى تأثيرها، والآن لا أتذكر إلا القليل من القصص. وربما لاختيار يوسف إدريس لعناوين قصصه فى كلمة واحدة أثرها في النسيان: الرهان، الأمنية، الحادث، الشهادة...

لكن على أى حال استمتعت، وخاصة بقصص: أبو سيد، الأمنية، الحادث، فى الليل (ملحمة من الضحك :D).. وطبعا، قصة نظرة.
معظم القصص دى يغلب عليها الطابع الفكاهى، يوسف إدريس بارع فيه جدا.
ـــــــــــ

ولا أستطيع هنا أن أتغاضى عما صاحبني من أحداث يوم اشتريت هذه المجموعة؛ فى ميدان المحافظة: الفانتازيا المحيطة بي: احتفالات غوغائية بعيد ميلاد شخص مهم؛ رقص مثل المجاذيب وفاقدى العقول، جنون الرعاع على موسيقى صاخبة (الموسيقى بريئة منها)، طقوسهم فى الاحتفال تشبه طقوس عبادة البقر (رغم أنى لا أعرف ما هى طقوس عبادة البقر)، هذا غير الشيخ المجنون اللى ألهبته الحماسة وأخد يتراقص حتى تمادى فيه وظل يرقص كما الغواني، رغم تجاعيد عمره المديد وجلبابه المهتريء وملامح وجهه الصلدة المخيفة التى لا تشى بأى تفاعل مع الرقص، إلا إن هذا الشيخ كان يردد كلمات التقطها بصعوبة من فم مكبر الصوت البعيد (اللى عند المجاذيب) مع رقصاته الغريبة فى نشوة عجيبة، ورغم إن الجميع كان يبتعد عنه مفضلا تغذية فضوله بعيداً عن رقصه المجنون، إلا أنى، وبدافع من الكتابين اللى فى إيدى، فضّلت أن أتابع عن قرب، وألّح علىّ شعور ما بأن هذه قصة هربت لتوها من بين دفتيّ مجموعة قصصية مكتوبة باحترافية شديدة وكان الأمر بالنسبة لى قصة قصيرة أتابعها بشغف، فلا يجب أن نخشى من أبطال القصص، فكنت الأكثر قُربا منه. كانت تشكيلة عجيبة من البشر؛ المجاذيب الراقصون على خشبة مسرح متهالك يلوّحون بمديات حادة، حولهم فتيات أسرفن فى وضع مساحيق التجميل فكانت ضحكاتهن وهن ممسكات بصورة الرجل المهم تثير فى نفسى الازدراء وما أثاره أكثر عباءاتهن المرسومة بدقة على أجسادهن ما يثير لعاب الكلاب الضالة، الشيخ الراقص، ورجال الأمن الجالسين مستندين على أعقاب أسلحتهم من خلفهم سياراتهم المدرعة، يشاهدون مايحدث فى رضا تام، ينتقلون بأبصارهم إلى الشيخ الراقص فيستحيل الرضا ضحك متتابع، حتى بدت لي أسلحتهم الساكنة وديعة مع ضحكاتهم.. وذهبت أنا بالكتابين مكتفيا بالقصص التى فيهما!
ــــــــــــــــــــ

أليس من الرائع حقا أن تقرأ قصة، أو تشاهدها!

الأحد، 1 ديسمبر 2013

العالم من منظور ذبابة

  -  هو فيه إيه؟
  -  قلة أدب والله!
من أعلى المبنى يهوى حجر فى حجم الرأس على قدره المكتوب:
  -  آآآه
  -  لا حول الله، حرام اللى بيحصل دا والله
  *  ألعاب نارية يا بت
  * ألعاب إيه، دا خرطوش!
كانتا فتاتين قادمتين لينضموا للمتفرجين.
الذبابة تحط على أرنبة أنفى، ماذا تريدين ياذبابة؟!
تصعد وتحط على أنفى، الجو لزج، ورائحة الدخان المميزة تداعب أنفى، يبدو أن الذبابة تبحث عن رزقها، عيناها مرعبتين حين أركز عليهما، ماهذا الإصرار الذى فيهما، من أجل الرزق إذن..
يتطلع إلى أعلى المبنى، كان صدره يعلو ويهبط كقلبٍ مكشوف، العرق يتصبب من كل جسمه، كان متأهبا لإصابة غريمة المختبيء أعلى المبنى بطلقة خرطوش، يعدو بين المبنيين الكبيرين، التصقت فالنته الزرقاء بصدره من العرق، انطلقت من فوهة الخرطوش طلقة، لمعت فوق المبنى بجوار أحدهم وأصدرت صوتا عظيما، اختفى، لم يمت لكنه اختفى ليُعد شيئاً... ثم بعد حين ألقى حجراً أكبر، واختفى مرة أخرى، تفتت الحجر على الأرض ولم يُصب أحداً.
الذبابة تحط على أنفى، تريد شيئاً ما، لماذا لا تستمعين بالمشهد يا ذبابة!
  -  دول لو كفار مش هيعملوا كدا!
قالت سيدة تعمل فى الإدارة، من نبرتها كانت تتحسر، لكن بعضهم كان يستمتع بالمشهد، جميعهم يودون لو يقصوا الحكاية لآخرين حين يذهبوا. فجأة سمعتَ قهقهة! هل فاتنى شيء؟! يصورون كل شيء بهواتفهم، موزعون بشكل عشوائى، ساكنون مثل موتى، مشدوهين كأنهم يشاهدون مشهدا من مسرحية لشكسبير. صاحب الفالنة الزرقاء على بعد عدة أمتار يُعدّ طلقة أخرى.
تنطلق الطلقة لتشتعل عند أعلى المبنى، صوتها يضرب فى أذنى والدخان أصبح خانقا، أريد الذهاب بعيداً، وكأن إحداهن سمعتني أفكر فقالت لزميلتها بنبرة لا تخلو من الخوف:
-         بوابة الجامعة مقفولة
زميلتها تصور بهاتفها، لم تلتفت لها، بدت لى مستمتعة بالتصوير وتريد المزيد من الأحداث تملأ بها ذاكرة الهاتف، بينما زميلتها ظلت خائفة تراقب ما يحدث، وتفكر فى سبيل للخروج.
أسفل المبنى كان أحدهم يخبط البوابة الحديدية بجنون، يشدّها ويدفعها بقوة يريد فتحها، لابد أن الجميع أصبح مختنقا برائحة الدخان، لكنهم مثل موتى ساكنون يشاهدون..
صرخت إحداهن:
  -  إيه اللى ودا الهبلة دى هناك
  -  تعالى يابت
كانتا تشيران لفتاة بعيدة كانت تراقب مايحدث عن قرب ولم تنتبه لنداءهما!
ثم فجأة حدث شيء ما لم نره خلف المبنى الأيمن، واندفعوا جميعهم نحو الجهة الأخرى وانطلقت خلفهم طلقات الخرطوش، والأحجار تتعقبهم تصيب بعضهم وينجوا آخرون، اندفعت الطلقات الواحدة تلو الأخرى، والدخان يتحرك ببطء لأعلى ويتفرق ليصل لكل أنف، صوت الطلقات يتتابع ويضرب أذنى، كان الشاب لايزال يضرب البوابة ويشدها صارخا:
افتحوا البوابة حرام عليكو..
لم يرد عليه أحد. وعدسات الهواتف تسجل كل شيء..
الذبابة تحط على أنفى وتستقر، أحملها معى وأذهب بعيدا.. صوت الطلقات يخفت شيئا فشيئا ويختلط بالصراخ وصوت الحجارة، أحمل الذبابة معى ونمضى سويا نبحث عن عذر لما يحدث خلفنا، هاربين من رائحة الدخان والخوف!

الخميس، 28 نوفمبر 2013

المحاورة


- مرحبًا يا رب، تأخّرت قليلًا، أنا أنتظرك منذ عامين!

- ............

- لا، لا أريد شيئًا مهمًا يستحقُّ الذّكر أمام عظمتك، لكنّها الأسئلة يا رب، خلقتها ولم تخلقْ لها أجوبة، أتعرف يا رب، الأسئلة الآن تقتل، فلّت السيوف ولم تعد ذات شأنٍ، والآن صارت تقتلنا الأسئلة، كنت أفكّر؛ أليس من الرائع حقًا لو خلقت لكلِّ الأسئلة أجوبة، خلقتني يا رب وخلقتَ معي فتاتي، وجعلتَ لنا طريقًا نتسكّع فيه، ليت كلّ الأشياء رائعة مثل صديقتي، وليت كلّ الطرق معبدة كذاك الذي نتسكع فيه

- ............

- أحبُّها جدًا يا رب، ذات ليلةٍ اعترفَت لي أنها تُحبك مثلما تُحبني وأكثر، لكنها الأسئلة يا رب ما تجعلنا نفترق، بالأمس قتلوا شابًا لأنه سأل، فلما لم تُخلق الأجوبة، ملّوا من ضجيجه وقالوا نقتله، هل رأيت ذلك يا رب، وددت لو أحكي لك ما حدث، لكنك في غنىً عني

- ............

- حقًا يا رب تريدُ أن تسمعَ مني! أنا ممتن لكرمك.. هم رأوه من بعيد، فأشاروا إلى ذاك صاحب الأسئلة الصاخبة، ولمّا كان يسير وفي يده كتابان، لم ينتبه، فصوّبوا نحوه فوهة البندقية فأصابوا صدره، وقع الكتابان ثم لحق هو بهما، وصار مثل نائم يا رب، والدم يسيل من جنبه في هدوء، لم يُرد أحد أن يوقظه، فقط تجمعوا حوله وتناقلوا أسئلته.

- لماذا لا تموت الأسئلة يا رب؟ لماذا خلقتها أبدية؟ ولماذا لا تموت مع أصحابها فلا يموت آخرون يبحثون لها عن أجوبة؟

- ............

- حقًا يا رب! هناك أجوبة.. أين يا رب؟
-

الثلاثاء، 26 نوفمبر 2013

ثلاثية غرناطة، وهم العظمة

My rating: 1 of 5 stars


"تخل عن مقدساتك، تخل عن ثوابتك ولو قليل منها، واشرع نوافذك المغلقة لتهب عليها الريح، ألا قد يكون الدفء يوما من إعياء أو مرض؟!"
ـــــــ
تعال هنا أيها الغريب، يا من تجول الجودريدز طولا وعرضا بحثا عن تلك المراجعة التى تشفى غليلك، التى تقول لا بصوت عالٍ، أنت مثلى.. غريب.. طوبى للغرباء.

هذه المراجعة لمتذوقى الأدب، للذين يرون فيه –لذاته- القداسة وحدها.


ــــ
بعد عشر صفحات من الملاحظات على هذه الرواية، وبعد عمليات انتقاء وتفحيص وتمحيص وحذف وتثبيت، ها هو ذا الريفيو يكتمل..

إذن
Let’s party


*المراجعة*
///
** فى هذه المراجعة سأهتم بأدق التفاصيل وأشياء تبدو للوهلة الأولى عادية لكن بتجميعها فى صورة واحدة تظهر مدى ضعف وسخافة الرواية
///

كنت أظن أن عبقرية الرواية التى ظهرت فى التقييم 4.34 هى الإتيان بشيء جديد، فالعبقرية ليس لها معانٍ أخرى غير هذا. لكن واضح أن عبقرية ثلاثية غرناطة هى إجادة وإتقان الشيء المعتاد، وللأسف ما هو أسوأ!

فى البداية وبصفة عامة فأنا أعتبر الروائي الجيد هو كمخرج جيد، فلابد لهذا الروائى أن تكون له نظرة سينمائية من نوعٍ ما، فهو يدير شخصياته يحركها ويعطيها الإشارات لتعمل بالطريقة التى يرتئيها..

بالنسبة إلى رضوى عاشور وروايتها، فإنى دائما خلال قراءتى للرواية كنت أتذكر مسلسل "القاصرات" هذا المسلسل المعتوه، الشخصيات الناقصة، الحوارات الساذجة، اللغة التى لاتمت لروح الصعيد بصلة... وحتى لا يكون كلاما فى الهواء، فإنى سأتحدث عن الرواية من عدة زوايا:

- الحبكة الروائية
- الحوار
- الحكاية والشخصيات
- الشعور واللاشعور
- البطل اللحظى والمربع الشعورى


الحَبكة الروائية:

الفرق بين الحكاية والحَبكة الروائية: الحكاية هى التتابع الزمنى بين الأحداث وهى المسؤولة عن إثارة فضول القاريء فى تتبع أحداثها فهى تتطلب قاريء فضولى. أما الحبكة فهى العلاقة بين المسبب والنتيجة، مثال لتوضيح الفرق:

"مات الملك ثم ماتت الملكة بعده" هذه حكاية، أما "مات الملك ثم ماتت الملكة بعده حزنا عليه" هنا تم إدخال الحبكة والكاتب الجيد هو القادر، ليس فقط على صنع الحبكة، ولكن أيضا على إقناعنا بها والتأثير علينا بها. وفى حين أن الحكاية تتطلب قاريء فضولى فإن الحبكة تتطلب ذهنا متقد.

جملة كهذه تصلح

هنا الحبكة أسخف من محاولة مبتديء يتعلم مباديء الكتابة، فهنا الترتيب الزمنى أنه أكل العسل ثم بعد ذلك أخد يتقافز كالأبله، لكن كيف انبعث هذا الشعور بحب التقافز فجأة؟ لماذا يتقافز؟! رضوى عاشور جعلته أشبه بأبله ساذج! ورضوى لم تقصد أن تصوره بهذه السذاجة بالطبع، لكن ضعف أسلوبها لم يسعفها فى توصيل فكرتها.

وهذا مثال آخر (من نفس الصفحة!)


فهى فى وداعِه تبكى، رغم أنهما لم يتفوها بكلمة ولم يقتربا من بعضهما، هو يرقص ويتقافز كالأبله وهى تغنى ليل نهار(عموما رضوى أحبت أن ترسم صورة كأنها من الجنة مثلا!) وفى ساعة رحيله، ورغم أنها لم تتفوه بكلمة خلال وجودهما معا، إلا أنها بكت وقالت- وها نحن نسمع صوتها للمرة الأولى: ستنسانى!!
المفروض أن حالة الافتقاد هذه ناشئة عن علاقة وطيدة وتبادل للعواطف، وهذا مالم نره خلال فترة تواجدهما معا.

مثال آخر على سوء الحبكة:


فهو قد تطلع إلى العمائر فبكى ثم ضحك! ما الذى تذكره جعله يبكى، وما الذى أضحكه فجأة!!
وهنا:


كان ناقص يقول "ويا ترى يا دار لما بيتفسحوا بيروحوا فين، وياترى لما بيجوعوا بيتصبروا بأى حاجة ولا بيقضوها دليفرى من سوق الفطاير اللى على أول الشارع.." وإلخ من العبث، وإلخ من حالة القيء الروائى!!!

الحوار:

(هو يدير حوارا جيدا. هو روائي جيد)
أستطيع من بين مئات الروايات أن أحكم على رواية ما من خلال قطعة حوار.

هذا كل ما فى الأمر فالشخصية لا تتشكل إلا حين تتحدث.
انتبهت لشيء فى حوارات الشخصيات هنا، فرضوى تسرف فى استخدام الفعل قال/ قالت، فتبدو الشخصية فى حوارها بلا شعور واضح أو انفعال ما، ويبدو الأمر كأنه مجرد ترديد كلام محفوظ. ولاتستحدم الصفات التعبيرية، مثل: قال متذمرا/ احتج/ صاح غاضبا/ قال موبخا/ أطرقت فى حياء.. إلخ.. ، لكن كل الكلام عندها قال وقالت..هذا يجعل الجمل الحوارية باردة ومتشابهة وخالية من الشعور، كما أنه يحمّل الحوار ما فوق طاقته، لأن عليه أن يعوض هذا النقص. انظر مثلا إلى حديث حسن إلى الشيخ إبراهيم:


فيه جمود، رغم صعوبة هذا الحوار إلى حد ما وتطلبه التغلب على الخجل أو الخوف، لكنه ينطلق من مكانه إلى الرجل ويقول له مباشرة: اسمى حسن تربيت فى بيت جدى، أعمل خطاط، زوجنى ابنتك. فيرحب الرجل، وينتهى الأمر.... "اسمى حسن" ذكرتنى بمقولة أحمد حلمى: اسمى رضا :D

مثال آخر على التمادى فى استخدام أفعال قال وقالت


ورغم أن تلك اللحظة تعج بالمشاعر وردود الفعل سواء فى نظرات الخجل أو تعابير الوجه، والاشتياق والعتاب، إلا أن كل التعبير الظاهر عليهم هو (قال) و (واصلت).

أخرى:


بغض النظر عن أن لغة هذه الجملة الحوارية ثقيلة على القاريء ثقل الطود العظيم، والكلمات تقطع قراءتها كأنك تقطع أميال من الصحارى القفر (ليت للعرسان أخوين أصغر منها يطلباننا للزواج)، إلا أن رضوى تصر على استخدام الفعل قال وقالت، لا تلمح لانفعالات الفتاتين لتناسب الموقف، أو ضحكات فيما بينهن، لكنها تظهرهن كأنهن واقفات يرددن كلمات لقنتها إياهن الكاتبة!
ــــــــــــــ

الأدب هو الفن الذى يظهر الأشياء التى نراها بطريقة مغايرة لما نراها ومع ذلك يظل يحتفظ بنفس الصدق لكن رضوى تنقل ما تراه كما تراه بلا أى لمسة فنية أو أدبية انظر إلى هذا الحوار فى اعتياديته:


(وشكرا على الزيت يا أم هشام) هذه الجملة تندرج تحت بند الجمل الاعتيادية الفجة، معدومة المدلول الفنى، الخالية من اللمسة الأدبية، فأن تخصص لها مكانا فى الحوار ذاته هذا خطأ فنى، لأنها تعمل على تشتيت الذهن بلا داعى فكان الأولى أن تنتهى من هذا السطر، ثم تقول- إن لزم امر يعنى-"ثم شكرتها على الزيت ومضت" لأنها فى الأساس جملة عابرة وغير مؤثرة، فبالتالى وجب أن تكون فى وضع غير مؤثر

ومثال آخر على هذه النقطة:


رغم أن علىّ ليس على علاقة وطيدة بأبوي خوسيه إلا إن رضوى تردد ما فى حياتنا- نحن- على ألسنة شخصياتها التاريخية، بلا حتى أى لمسة فنية.

عزيزتى رضوى، ليس معنى أن فى حياتنا العادية نقول على سبيل تمضية الوقت "وأبوك وأمك عاملين إيه" أن تضعيها فى روايتك كما هى كأنها مثلا ستدعم الواقعية!!
ــ
فى هذا الحوار:


يرد حسن مباشرة بأنه حكى للطفل حكاية مفزعة (وهذا مفهوم من سياق الحوار)
ورغم أن حسن يعرف أن هذه الحكايات تعود على الطفل بأثر سيء فهو يرد مباشرة على استفسار مريمة بأنه حكى له حكايات الجان، كأنه لا يأبه بتأثيرها أو أنه حكاها عمداً، تهيأ لى بعدها أنه يقوم وهو يضحك ضحكات شريرة متقطعة وهو يردد "خوفت الواد.. خوفت الواد نياهاهاهاهاها" :D




فى رد فعل مريمة على قرار مثل هذا- قرار الترحيل، كل ما تقوله هى مقولة الأطفال "مش عايز اروّح= لا أريد الرحيل" ومرة أخرى تغفل رضوى عن رصد الافتعالات المعقدة داخل نفوس شخصياتها، وتبدو لى مريمة شديدة السذاجة وأن حدثا جللا مثل هذا لم يستطع أن يخرج من داخلها شيء صادم ناتج عن الرحيل من الوطن، والذى هو فى الأساس أصل حكاية الرواية (الرحيل) فتعجز عن أن تقتنص منهم مشاعرهم الدفينة. رضوى عاشور دائما تظلم شخصياتها بضعفها الأدبى. ومرة أخرى أشعر بخيبة الأمل من رد فعل شخصيات سخيفة عاجزة فى مواقف أنتظر منها الكثير.

أستطيع أن أقول أن رضوى عاشور فى روايتها تدير مستودعا للصور المستهلكة:


هل سمع أحدكم عن (بؤلة)؟!
ـــــــــــــــــــــــــ
الحكاية والشخصيات:


- فى تعليم علىّ اللغة العربية، رضوى تخبرنا (بالتفصيل) أن جده قال له اكتب حرف كذا وكذا وكذا، ثم يعيدهم، ثم بعد مسافة معينة يكتب الحرف المقابل باللغة العربية، تقريبا رضوى عاشور سجلت هنا الحصة كاملة، كأنها تدون (أو تؤرخ) ماحدث، حتى أنها أظهرت كأنه تعلم اللغة كلها فى هذه الحصة، ومرة أخرى لا وجود للمسة الأدبية، وليس لديها حس بأهمية بعض التفاصيل وعدم أهمية تفاصيل أخرى!

ـــــ
وهنا:


الرجل كان لديه كبرياء وأنفة من أنه يكون عبداً وهو أصلا سليل عبيد أى أن الموضوع ليس بقسوة الأسر مثلا، ليس هذا فقط بل إن سيده كان يعامله بطريقة لائقة وهو أقل الأسياد قسوة على عبيده، لكن احتراما لكبرياءه العجيب يترك زوجته وأسرته ويهرب لأنه غير قادر على تحمل هذا العذاااب.. لكن كبرياؤه لم يمنعه من ترك أسرته!!

- علاقة علىّ بوردة: رأيتها مختلقة ولم توظفها رضوى بطريقة تخدم روايتها، فكان كل ما تذكره أن على كان يحب أن يراها، لكن هى كانت أشبه بشيء جامد أو غير موجود، لم تستطع إظهار العلاقة كعلاقة حب حتى ولو من طرف واحد، فلم أشعر بوجود شخصية وردة، ولا حتى لها ملامح معينة تم تصويرها (هذا مهم لفهم عاطفة المُحب)، وارتبط حبه لها بالبوابة التى كان يراها عندها، حتى ارتط لدى حبه لورده بحب البوابة!!!

- الزمن فى الرواية مفكك، فتحدث قفزات زمنية بعيدة لا تُلمح لها رضوى، حتى أنى لم أعرف عمر (نعيم) إلا حين مر على جماعة من الناس وأشارت رضوى: "منهم من تجاوز السبعين مثله.."
كما شعرت بغرابة (لها علاقة بالزمن) فى علاقة على بفضة أُم صديق طفولته!!


- بتصفح مجموعة الملاحظات التى كتبتها عن الرواية لم أجد سوى صورة واحدة جيدة فقط، أسرتنى للحظات، وتخيلت لو رساما ينقلها: صورة سليمة تجلس بجوار الظبية تملس على ظهرها بيد وبيدها الأخرى تمسك كتابا تقرؤه.
- الفصول 24,25,26 من الجزء الأول كانت جيدة، فقد أحسنت إلى حد ما تصوير أزمة سليمة ومحاكم التفتيش وجورها.


سيكولوجية الشخصيات/ الشعور واللاشعور:

رضوى تغفل دائما الجانب اللاشعورى فى الشخصية، فتعبر الشخصية عما يدور بخلدها بسذاجة ودائما عاجزة عن رصد العواطف والاختلاجات المعقدة، التى هى أساس الرواية الحقيقية.. وهذا أوضحه جزء "الحوار"

هنا:


تصر رضوى على أن تبدى مريمة مأخوذة باللوحة بطريقة مكشوفة لا مجال فيها للخلجات النفسية، لدرجة أنها أدخلت هذا الشعور وسط حوار كهذا (رأيت لوحة مصورة بعرض الجدار فيها وعل جريح، وصيادون وكلاب)، وهى فقط تريد أن توصل فكرة أن اللوحة أثارت فى نفسها نوع من القلق أو أنها ظنت أن اللوحة مثل الرؤيا تفسر مستقبلهم!
لكن أليس الخوف يكون أقسى إن ظل يعتمل داخلها بدلا من العلن! أساسا هذا هو أصل الخوف وبيئته المناسبة، النفس لا الحوار.
هذا غير إنه من الغريب أن لوحة ترى مثلها لأول مرة، لا تثير داخلها دهشة من دقة تفاصيلها وحيويتها، فهذا هو دور الانطباعات الأولى.. وبدلا من ذلك فهى تذهب نحو القلق!
رضوى عاشور كانت ضعيفة فى فهم سيكولوجية الشخصيات.
وهنا:


كدت وأنا أقرأ هذه الفقرة، أن أصرخ فى وجه رضوى: حرام عليكِ اعط فرصة للصمت، الحزن الصامت، العيون التائهة فى ذكرى الفقيد، حالة فقدان معنى الحياة والشعور بالتيه، كل هذا يلزمه استجماع لا شعورى وتدفق عاطفى مأساوى، مش تروح تداعب صديق زوجها وتقوله: ألن تودع صاحبك إلى قبره!!!



حين كان نعيم يهدهد الطفل، والمفروض أنه فى نشوة مابعدها نشوة فقد سرق طفل وظن أنه يمتلكه، وشخص فى مقام نعيم وفى هذه النشوة لايجب أن يكون الحوار بتلك السذاجة ولا أن يرد بهذه البساطة المعلنة، حيث لاتظهر نشوته. مثلا يمكننا أن نفترض حالة أخرى كهذه:

"أخذ نعيم يهدهد الطفل ويبتسم له رغم فمه الأهتم ولم ينتبه لفضول مريمة، بل كان مأخوذا بضحكات الطفل"
كل ذلك أضاعه الرد السخيف "وجدته" ولا دور حينئذٍ لشعوره العاطفى المعقد ناحية الطفل. ومرة أخرى رضوى عاجزة عن فهم سيكولوجية الشخصية.




- ثم ما هذا بحق الجحيم؟ يقتل الجندى ويسرق حصانه ثم يختلى بحصانه ويسأله: هل كان صاحبك طيب يا حصان؟؟!! ما هو مدلولها وما تعبيرها؟ وإيه علاقته بحالته الحالية (الهرب والقتل والخوف). شعور بالسذاجة!!

- يقول إى إم فورستر فى كتابه أركان القصة فى معرض حديثه عن الحَبكة الروائية:

".. ونحن نعتقد أن السعادة أو البؤس يوجدان فى الحياة الخفية التى يحياها كل منا فى السر والتى يتوصل إليها الروائى (عن طريق شخصياته)، ونحن نعنى بالحياة السرية تلك الحياة التى ليس لها أى دليل ظاهر، وهى ليست تلك الحياة التى تكشف عنها كلمة عابرة أو تنهيدة، كما يظن عادة. فالكلمة العابرة أو التنهيدة تعتبر دليلا كالحديث أو القتل تماما والحياة التى تكشفها تخرج عن نطاق السرية إلى دائرة العمل"

رضوى لم تقم بتطبيق هذا، ولم تُسند إلى أبطالها هذا النوع من التعابير، وكانت تعبيراتهم سطحية ومباشرة عن طريق الكلمات أو رد فعل ظاهر، لكن لاتتحدث عن مكنون الشخصية. نظرتها للأمور عامةً شديدة السطحية.


البطل اللحظى والمربع الشعورى

- البطل اللحظى: شيء ما أدعوه بالبطل اللحظى، وهو عبارة عن الجو العام المحيط بمشهد قصير ما، المسيطر عليه، على الكاتب أولا أن يعرف بخبرته ومهارته ما طبيعة هذا البطل، هل هو خجل، خوف، حب، يأس.. إلى آخره من المشاعر والحالات، ومن ثم يضفى على مشهده التعابير اللازمة التى تدعم هذا الجو العام (البطل اللحظى) لكن عامة رضوى عاشور عاجزة عن تحديد هذا البطل وتحديد متطلباته الكتابية.
هنا مثلا



شعرت باختلاق رد فعل سليمة، ولم تستطع رضوى رسم حالة من الخجل على المشهد، رغم أن الأمر كان يجب أن يكون أبسط خصوصا وأنه بين امرأتين.

المربع الشعورى: أسلوب رضوى فى الوصف أحب أن أمثله بمربع. فلوصف –مثلا- حالة من الحزن فإن المربع هذا يخرج منه على مسافات متفاوتة، بالونة تحمل اسم "حزن" و ثانية (داخل المربع) تحمل اسم"بكاء" وأخرى تحمل "دموع"، أما المربع نفسه فليس حيا أى أنه لايصدر هذه المشاعر من نفسه.
مثال:


هذا المشهد الهام: مشهد الرحيل، ليس فيه إلا أن واحدة تبكى، والبكاء حالة عامة لمواقف عديدة، وأخرى تضحك، وهذا أعمّ، وثالثة تثرثر وهذا طبيعى، فالمشهد إذن لا يميز حالة الرحيل ولا يعطيه ثقل برصد مشاعره الخاصة..
فيمر مرورا عادية لا يترك أثرا فى نفس القاريء.
ــــــــــــــــــ
كل هذه الأمور البسيطة ياصديقى لا تمر على أديب حقيقى ولو كان مبتدئاً.. وها أنذا قد أنهيت الرواية ولم تؤثر فيّ شخصية من شخصياتها ولم تترك لدى انطباعاً محددا... بالمناسبة هل حقا قال أحدهم أنه بكى فى هذه الرواية!

ــــــــــــــــــــ
فى النهاية فإن هناك طريقة يسيرة لتحديد ما إذا كان الكتاب جيد أم لا، فقط أسأل نفسى، هل بإمكانى قراءة هذا الكتاب مرة أخرى أم لا؟
- أنا: مستحيل.. مستحيل

وإذا توقفنا أمام سبب شهرة هذه الرواية بطريقة تستوقف النظر فلا سبب سوى أنها رواية تاريخية تتناول موضوعا حساسا (سقوط الأندلس) وهذا الموضوع العاطفى المدرّ لدمع الكثيرين يجعل من يقرأ هذا النوع من الروايات يتعاطف مع كل كلمة يقولها الكاتب وكل حركة تقوم بها الشخصيات، ويتحول الموضوع من قراءة عمل أدبى إلى معزفة على أوتار العاطفة، والحنين للماضى!

ورغم ذلك، فإنى على استعداد أن أقرا -مثلا- لوكليزيو، هذا المجنون شديد الملل، مرة أخرى ومرارا، لأن هناك دائما من يعرفون الأدب الحقيقى..

وأخيراً: فإنه وكما قال أحد الملحدين مرة على الفيسبوك- الفئة التعيسة منهم: أنه لا يعترف بمفكر له دين، ثم ختم منشوره بسمايل كهذه :) دليل على ثقته القصوى فى كلامه.

فإنى أقول:
أنا لا أعترف بأديب أو كاتب يعترف بثلاثية غرناطة كرواية :)

.....
هذا كل شيء :)

الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

هيروشيما و نغاساكي مأساة القنبلة الذرية

My rating: 5 of 5 stars


الليلة الأولى \ الكابوس:

(المكان بعيد مظلم، يحيطه سياج لا يسمح بالهرب، بداخله سيدة تحول بين

أطفالها الثلاثة وبين ضربات سيف رجل عازم على قتلهم جميعاً، كان ذراعه هو

أكثر ما يشى بالحركة وبالحياة أما وجهه فهو فى جموده أقرب إلى وجه رجل

ميت، لم يكن يتكلم أبدا ولا يبدى سببا للقتل!

تحايل على ذراعيها المفرودين أمام أبناءها وبضربة قاطعة شق جسد أحد

أطفالها بحد سيفه القاطع فهوى نصفيه على الأرض مثل قطعتى لحم كبيرتين، صرخت

أمه بجنون وتملكها فزعها المختزل، انتصب ذراعيها كقطعتى حديد هلعاً على

طفليها الآخرين، وبضربة أخرى انفصل رأس طفها الثانى عن جسده فهوى جسده على

الأرض بجوار رأسه، كان يرتعش ويطفر دماً. نظرت إليهم، إلى أشلاء

أبناءها، فأحست بإغماءة وبثقل على رأسها وبعجز عن الرؤية، هنا وصلت حد

الجنون حتى كادت أن

تنسى ابنها الأخير، أحاطته بذراعيها وهى تصرخ صرخات متقطعة، عيناها مثل

جمرتين، والرجل وجهه ميت، ذراعه فقط الذى يتحرك ويضرب، وبضربة شديدة مرّ

السيف وسط جسد ابنها الأخير حتى انفصل نصفاه وهوى بجوار قطع اللحم الأخرى،

وفى عجزها وجنونها شق سيفه جسدها حتى سقطت نصفين ،وكان الدمع يتحدّر من

عينيها وذراعيها يغطيان أشلاء أبناءها..)

وينتهى أبشع كابوس رأيته فى حياتى، انتهى وأنا لا أعرف من يكون السيّاف

ولماذا كان يقتل بتلك البشاعة، رأيت هذا الكابوس فى الليلة التى أعقبت

قراءة أول صفحات الكتاب...

لما استيقظت أحسست بوغز فى جنبى ولأول مرة أشعر أنى أريد أن ألتهم الواقع

وأمتزج به وأن أحتويه، أريد أن أكون جزءا منه، لأن الخيال أحياناً يكون أقسى

من احتمالنا...
ـــــ

هنا.. فى هذا الكتاب كان خيالا أقسى من الاحتمال، القنبلة الذرية فاقت كل الخيال...
ــــــــــــــــــــــــــ


لشدة ضراوة القنبلة الذرية وقسوتها، كنت دائما أعتقد أن اليابان دولت غُلبت

على أمرها وانجرت نحو حرب لم يكن لها فيها دخل، أو أن كل خطيئتها أنها كانت تدافع عن أراضيها.

لكنى فى الحقيقة كنت مخطئاً واكتشفت أن مسئوليتها عن سقوط القنبلة لا يقل عن

مسؤولية الولايات المتحدة، فدولة ظلت تمارس استبدادا على جيرانها، وتحتل

دولا وجزر مجاورة، حتى استولت على بعض أراضى الصين وجزر جنوب شرق آسيا،

ومارست جورا لا يقل عن جور هتلر فى أوروبا، وظلت تستنفد كل طاقات شعبها

ومواردها من أجل زيادة أراضيها وإشباع جشع حكامها العسكريين، حتى أنها لم

تقبل الاستسلام بعد استسلام ألمانيا، كل هذا الجور كان لابد أن يجرها ويجر

الإنسانية معها نحو هذا المستنقع!

وأعتقد أن المؤلف، وهو يابانى، لم يغفل هذه النقطة، ألا وهى الحكومة

الاستبداية ودورها فى وصول اليابان إلى تلك المرحلة، وكيف أنها أوهمت الشعب

بالإنتصارات المتوالية وهى فى الحقيقة هزائم، من أجل استنفاد طاقات الشعب

لإشباع رغبات العسكريين والإمبراطور (الإله!)، حتى أنها لم يكفها طاقات الشعب

اليابانى فلم تتردد فى إجبار الكوريين، وهى قد احتلت كوريا، أجبرتهم على

التجنيد وأرغمتهم على أعمال لا يحب اليابانيون العمل بها، وعملوا فى مناجم

الفحم والمقاولات، وخلال حرب المحيط الهاديء هاجر نحو 400 ألف كورى إلى

اليابان، بل أنها لم تكتف بذلك فاليابان فرضت على كوريا ثقافتها وأجبرتهم

حتى على تغيير أسماءهم إلى أسماء يابانية.

يقول المؤلف:

" إن الحرب التى بدأتها الحكومة اليابانية واستمرت 15 سنة عذبت وقتلت

وجرحت وأتعبت الكثير من الصينيين والكوريين والشعوب الأخرى فى جنوب شرق

آسيا، وكذلك لأمريكا وإنجلترا وهولندا وغيرهم. وأول من ذاق هذا العذاب هو

الشعب اليابانى والأطفال اليابانيون ولم تنته الحرب إلا بعد أن قام الصينيون

والأمريكيون والإنجليز بالانتقام وبقتل وضرب وجلب العناء لليابانيين"
ــــــــــــ

ومعروف أن اليابان لم تتخلص من استبداد وفساد الإمبراطور والحكومات

العسكرية، إلا بفرض الديمقراطية الأمريكية عليها، ليبدأ عصر آخر من الإزدهار

اليابانى، على حساب أبشع حادثة بشرية!


**إذا تعرض الإنسان لآشعة مقدارها 700 راد فهى تميته، و600 راد يكون نصف ميت

تعرضت هيروشيما لقوة إشعاعية مقدارها 6000 راد، ونجاساكى 7000 راد!
ــــــــــــــــــــــ

أهم ما فى منهج الكتاب هو الحيادية المعتدلة من الكاتب والشمول، فهو مثلا

لم يكتف بسرد مآسى الحرب النووية- وكان هذا يكفيه كمواطن يابانى، ولكن

الكتاب يوضح مسؤولية جميع الأطراف.. كما أنه يجمع بين اللون الأدبى المتمثل

فى سرد قصص المعاناة، والعلمى فى بيان آلية القنبلة الذرية، وأيضا توضيح

الجانب السياسى المتحكم الرئيسى فى المصائر، وهى تأريخ لفترة من أهم الفترات التاريخية الفاصلة..
ــــــــــــــــــــــ

هذا الكتاب من الكتب القليلة الممتعة والقيمة فى آن

حوار مع صديقي الملحد

My rating: 2 of 5 stars


ماذا أقول يا شيخ؟!

الإلحاد
باختصار وعلى طريقة السى شارب (لغة برمجة)
If (you == god)
{
(لو أنت مؤمن بوجود إله)
يبقا لازم تؤمن بأن الله بعث الرسل وأنزل عليهم كتب وتؤمن بالمعجزات... وفى النهاية أنت متدين، انتهى الأمر!.. ماذا تريد أنت من هذا الكتاب؟ هناك احتمالان؛ إما أنك تريد أن ترضى هذا الشغف البشرى فى سماع المجادلات التى لا تنتهى كصراع بين ديكىّ الحلبة، ففى الحقيقة كلا الطرفين يفعل كل ما بوسعه بطرقه المشروعة وغير المشروعة لإثبات وجهة نظره والانتصار لها، أما الاحتمال الثانى أنك انتبهت لجزء الكفر فى داخلك، وتريد أن تطمسه بأى طريقة كانت، وكل واحد منا داخله شيء من الكفر، لم يصل أحد إلى هذا الإيمان الكامل، قلة قليلة نقرأ عنهم فقط وصلوا إليه!
}
Else if( you!= god)
{
(إن لم تؤمن بوجود إله)
يبقا طبيعى كل مايمت لله بصله فهو هراء بالنسبة لك، سواء كتب سماوية أو معجزات أو رسل، فأى نوع من تلك المجادلات هى فى الحقيقة قائمة على حقيقة راسخة ألا وهى وجود إله متحكم بهذا الكون فلن يجدى إذن الحديث عن الإعجاز لشخص فى الأساس ينكر وجود الله، وبالتالى فهذا الكتاب ليس للملحد وليس للمؤمن (وكلاهما فى الحقيقة مؤمنان، كلٌّ بإلهه)، الكتاب للمتشكك المسكين، الذى جعل الكتاب ضمن أعلى الكتب تقييما على الجودريدز انتصاراً لجزء الإيمان داخله، رغم أن الكتاب مليء بالثغرات من السهل الدخول منها وتفنيد الأدلة ليس على أساس إلحادى لكن على أساس منطقى عقلى؛ دالاً على قصور أدلة مصطفى محمود لا أكثر، أو سوء استخدامه لها..
}

الإلحاد أيام مصطفى محمود كان فى زمن النفوس فيه تنتشى بذكر الخلافة وتثمل لذكر الأمجاد الغابرة، ومن الناحية الاجتماعية (إن أردنا دراسة إجتماعية للإلحاد) فيجب مناقشة الموضوع بطريقة مختلفة تماما خصوصا فى ظل وصول الإسلاميين إلى الحكم والإحباط الذى غزا النفوس ومن ثمّ مواجهة الواقع للخيال، وتلاشى الخيال اللذيذ تحت وطأة الواقع المرير، كل تلك الاعتبارات لابد أن تدخل فى الدراسة. أما الدراسات من نوع الحديث عن إثبات أنّ القرآن من عند الله أو الحديث عن الإعجاز أو نظرية التطور وعلاقتها بالأديان، فكل تلك الأمور مبنية كما أسلفت على سؤال واحد: هل أنت مؤمن بوجود إله؟! والإجابة على هذا السؤال لا يحتاج إلى كتب!

ــــــــ
فى النهاية: فإن الذى لا يؤمن بالله عن طريق كتابه فأى إيمان بعده؟! وأى كتاب أقدر على بث هذا الإيمان؟!
ــــــــــــــــــــ
ختاماً: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله
END;

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

قصتى مع مكتبة طلعت سلامة من البزوغ إلى التأزُّم



قصة وطن آيل للسقوط، ونداء الغوث المبحوح



القلق والحزن أحيانا يدفعان صاحبهم لأن يُعيد التفكير فى ثوابت ظنها دوما غير قابلة للتزحزح أو حتى الجدال، دفعنى هذا القلق لأعيد التفكير فى معنى الوطن..

هذا القلق الذى يدفعك للتساؤل ماذا سيحدث غدا؟ هل سيظل الحال كما تمنيت أن يظل عليه، أم أن الأمر قد انتهى وقد حزم الماضى الهاديء أمتعته للرحيل؟ لكنى فى الحقيقة لم أكن حتى لأفكر فى هذا الرحيل، فسُكر الأواصر بيننا كانت دائما أقوى من أى تفكير فى رحيل.

دفعنى هذا لأعرف أن الوطن لا يُقاس بالمساحات، ولا بعدد البحار ولا الأنهار، عرفت أن الوطن قد لا تتعدى مساحته مساحة منزل صغير، طالما أننى حين يضيق بى العالم ألوذ به فهو وطن، طالما أن البهجة أراها فيه فهو وطن، طالما أننى أكبر فيه يوما بعد يوم، لا بحساب الزمن بل بحساب الفكر، فهو وطن، وطالما أنه المكان الذى أشعر فيه بالحرية وأنا واقف أتأمل، فهو إذن الوطن..

وطنى يطل شمالا على بحار العلوم والأديان، وجنوبا على التاريخ والفنون، يحده شرقاً دفاف الأدب والفلسفة، وغربا أتجول لأكتشف أسراراً أخرى مجهولة تأبى التصنيف..

ذاك هو وطنى..

هل تذكر أنت أول كتاب قرأته؟

أنا أيضا لا أنسى هذا اليوم، يوم مررت على هذا المكان الذى لم أعرف أنه بعد حين سيصير وطن، لم أكن أنوى شراء كتاب لأننى لا أقرأ، لكن كان هناك شعور ما بضرورة التغيير، لابد أن أغير من رتابة هذا الحال، فكل شيء يتغير من حولى؛ فهناك ثورة، هناك مفاهيم تغيرت، عيون مُغمضة تفتحت، باختصار كان لابد لى أنا أيضا أن أتغير، ومع ذلك فإنى لم أدرك هذا وأنا أدخل لأول مرة (منذ عامين ونصف العام، بعد ثورة يناير) مكتبة عم طلعت.. مكتبة طلعت سلامة.

أعتبر نفسى محظوظاً لأننى اخترت حينها عن طريق الصدفة رواية لإرنست همينجواى، وكانت ضمن إصدارات مكتبة الأسرة العزيزة، ومن عشقى لهذه الرواية قرأتها مرتين، مرة فى بداية كل عام، وقد أقرأها فى كل عام مرة، فهى لها مذاق مختلف عن كل الكتب، أشعر بأنها شيء حي يكبرنى ويفهمنى.. هى أكثر من كتاب، هى من علمنى القراءة...

بعد أن أنهيت الرواية وجدت نفسى أريد أخرى، فذهبت إلى عم طلعت، وملامح وطن جديد تتشكل، واهتمام بأشياء أخرى أكثر سُموّاً توجد، واخترت كتابى الثانى وكانت رواية مترجمة أيضا، بعد قراءتها لم تعجبنى ومع ذلك فإنى قد أدركنى الحب، وتخطيت مرحلة التعارف، وصرت زائرا دائما لمكتبة عم طلعت، وصرت نهما على القراءة، ولم أعد كما كنت.. أنا الآن تغيّرت..

سقطت اهتماماتى القديمة، وأدركت أنه قد فاتنى الكثير، وقد كان على أن أعوض هذا، كانت أولويتى أن أبتعد عن الغث، ولا أولى اهتماما زائداً بالكتب الشعبية واسعة الانتشار، الأكثر مبيعا، وماشابه هذه المُسميات.. وكانت قبلتى هى الإبداع الإنسانى، من فلسفة وتاريخ وعلوم وأدب.. لذلك فإنى كنت أقرأ ما كان يحلو للبعض تسميته (غريباً) وكانت مكتبة الأسرة وهيئة الكتاب هى مصدرى الأول، وعم طلعت دائما وأبدا محتضنهما الوحيد فى المحافظة، وكلّنا- قراء المحافظة، نلجأ إلى هذا المكان للحصول على هذه الكتب، فقط يُمكنك أن تتخيّل كيف سيكون عليه الحال لو أن مكتبة عم طلعت غير موجودة، أو أن مطعما مثلا موجود بدلا من المكتبة، قد أكون حينها- حين قررت التغيير- اخترت المطعم لأتناول وجبة جديدة، وأشبع هذا التغيير وينتهى الأمر، لكنى حين قررت التغيير، كانت مكتبة عم طلعت موجودة وفى انتظارى..

مكتبة طلعت سلامة هى من معالم محافظة الشرقية سواء للقراء أو حتى لمن لا يقرأ، فمن يستطيع من أبناء المحافظة أن يمر صباحا ولا يجد عم طلعت يفك أربطة الجرائد ويرتبها كى يقرأها العابرون من موظفين وطلبة خرجوا لتوّهم من محطة القطار، من ذا الذى يقدر أن يرى هذا المكان فى يوم ما خواء، يرى اللاشيء، أن يكون مكان الكتب موقفا للسيارات -كما يخطط أعداؤه- تقف فيه السيارات لتبتلع الركاب داخلها وتنطلق ولا تخلف خلفها سوى الغبار، وقد كان هنا كتبا؛ هنا يحيا كل البشر فى كل الأزمنة وكل الأمكنة، هنا يغامر الإسكندر ويجول ديوجين بمصباحه، ويفكر أرسطو، هنا يهرب هيبا من الزمن والماضى إلى الشك، وأينشتاين يقيم قانونا آخر للجاذبية، ويُحاكم سقراط، هنا تشيخوف يعرف الإنسان كما لم نعرفه، وميلتون يبنى صرحاً ملحميا للخيال، هنا تبزغ الاشتراكية، وتنهار السوفيتية، هنا حكايا الحروب وآمانى السلام، هنا هنا.. عند عم طلعت، كل شيء هنا..

لا أريد أن أرى غبار السيارات هنا أو أرى التراب، أريد أن تبقى مكتبة عم طلعت خالدة كخلود المعرفة..

لكن كما كان فى الجنة إبليس نصّب نفسه عدواً للخير فعلى الأرض أباليس، وكما تخفّى إبليس الفردوس فى صورة ثعبان، فأباليس الأرض تخفّت فى أكثر الصور لؤما وبراعة، فى صورة إدارىّ بائس..

ففى حين أن مكتبة عم طلعت لا زالت الآن تستقبل زوارها، وقراءها، ومحبيها، يقفون منحنيى الظهور تحت وطيس الشمس، ليتصيدوا خبراً من هنا وكلمة من هناك، وليعرفوا آخر الإصدارات، فإن أفاعى الأرض أو بوضوح أكثر، أفاعى محافظتنا -الشرقية- القائمين على إدارتها، يجلسون على مكاتبهم يملؤون أقلامهم حبراً أسوداً ويخطون جريمة على ورق أبيض، جريمة لا تغتفر فى حق الوطن، فماذا يُنتظر ممن عٌيّنوا من رؤوس الفساد قبل أن تقوم الثورة، هؤلاء الذين لم يصلهم نور الفكر والثقافة وإلا ما أوصلونا إلى الحال الذى نحن فيه من جهل وفساد!

فبهذا الحبر الأسود ومن تلك الوجوه المكفهرة التى لا تتذوق طعم الوطن إلا إن كان رشوة أو إن كان ذبحا فى أحلام أبناء هذا الوطن، يحاولون الآن إغلاق مكتبة عم طلعت. يوم عرفت الخبر وأنهم فعلا أجمعوا أمرهم على إغلاق المكتبة، تلك المكتبة الموجودة منذ عشرات السنين، أصبحت عاجزا عن كل شيء وأصابتنى حالة من الغيبوبة النفسية، وصرت غير قادر على القراءة ولا حتى رؤية الكتب، فكأنى أريد أن أبادر بالرحيل، وكانت صورة واحدة فى ذهنى التى أصابتنى بهذه الحالة؛ مكتبة عم طلعت المغلقة أو التى أقاموا عليها موقف السيارات، لم أكن أتخيل يوما أن تختفى مكتبة عم طلعت..

لمن لا يعرف عم طلعت أعتقد أنى أعرفه، رغم أنه يحاول أن يبقى على حدود بينه وبين زواره. مبدأ عم طلعت أنه لا تعدى على حقى ولا تعدى على حقوق الآخرين، عم طلعت الأكثر التزاما بكل الخطوط، كل الناس عنده تقريبا سواسية، لا يعرف التملق، هو رجل (دُغرى)، لهذا فعندما تصادم مع أحد تلك الأفاعى يطلب رشوة لتجديد رخصة المكتبة تصادمت ثوابت عم طلعت مع هذه الأفعى، فأبى أن يتعدى أحدهم على حقه فحاربوه بالخسّة والدناءة وهددوه بإغلاق المكتبة، وهم مع تهديدهم ووعيدهم له، فإنهم أيضا يهددوننا ويتوعدوننا، ولا يعرفون كيف تمثل هذه المكتبة لنا، لا يعرفون أنهم الآن بالنسبة لنا عدوّ يحارب وطن. فى المحافظة مئات المطاعم ومحلات الملابس والأحذية، وأكثر من دار سينما، لكن لايوجد سوى مكتبة حقيقية واحدة، هى مكتبة طلعت سلامة..

فى الحقيقة أنا عاجز عن إيجاد مبرر واحد مقنع لإغلاق مكتبة فى أى مكان فى العالم..

سمعت يوما أن الدكتور الببلاوى كان فيما مضى حين كان وزيرا للمالية مؤازرا للثقافة وأنه أنقذ دور نشرٍ كثيرة من الإفلاس، لذلك أوجه ندائى للدكتور حازم الببلاوى بأن يوقف ما سيحدث قبل أن يحدث.. ويكفى من التجارب البكاء على الماضى لأننا لم ننتبه*..

وما يحدث هو أفضل مثال عما وصل إليه الحال الإدارى من فساد ينخر فى جسد مكتسبات الوطن ليحرمه منها، ولا مفر إن كنا نريد إصلاحا أن نعالج هذا الفساد ويُحاسب كل من شارك فى تعاسة حال هذا الوطن..

مكتبة عم طلعت الآن موجودة، لكن إن لم تتوقف سخافات الأفاعى، وإن لم يصدر التصريح، فستكون غدا المكتبة ماضيا فى طى النسيان، وسيأتى غيرى من تنبعث من داخله بواعث التغيير فلا يجد من يسمعه، سيذهب لشراء حذاء، أو قميص، أو يتناول وجبة جديدة.. لكنه فى الحقيقة لن يتغير وبلدنا لن تتغير..

وفى النهاية فإن البلد الذى يغلق مكتبة بعد ثورته الثانية، فإن ثوراته فى عين الواقع عبث، وسيشهد عليها بأنها بدلا من أن تشيد الفكر والثقافة، أنها هدمت صومعتهما.

أنقذوا مكتبة طلعت سلامة.


********



*كان مقررا أن يُنشر المقال فى إحدى الجرائد، لكن تعذّر ذلك بسبب تعديه الحد الأقصى لعدد الكلمات

السبت، 28 سبتمبر 2013

ذُعـر

من شرفة منزلنا تناهى إلى أذناى صراخ أطفال من غرفة الطابق الثانى للمبنى المُقابل، لما انتبهت أكثر وأصخت السمع أكثر، علا الصراخ أكثر وأكثر، كأنهم فطنوا إلى وجود أذنين تستنجد بهما من الهول الواقع عليهم، اختلج قلبى، وقفت عند سور الشرفة وأنا أحاول أن أتصيد نظرة من هنا أو هناك.. لا رؤوس تظهر ولا حراك، لا شيء سوى الصراخ! هل يستخدموا الحضانة لتعذيب الأطفال؟!
زاد توترى، فكنت أمشى ذهابا وجيئة بعرض الشرفة، أحاول إيجاد حل لوقف هذه المذبحة، وكان صراخهم يعلو ويزداد، والشارع المنبسط خالٍ من المارة، هل اتفقوا جميعاً على قتلهم؟ لماذا لا ينقذهم أحد؟ هل أنا وحدى الذى ينتبه لصراخهم؟
ثم كانت تلك الصرخة المُفزعة التى أوقفت تفكيرى فاندفعت ونزلت الشارع الخالى وأخذت هاتفى معى.. ثم توجهت إلى المبنى- الطابق الثانى، حيث توجد الحضانة، توقفت أمام باب مغلق فى مواجهة باب مُشرع خرجت منه سيدة تبدو هادئة، سألتها وصوتى يمتليء بالتوتر والجزع: ماهذا الصراخ، وأين الأطفال؟ انتبهَت إلى تفكيرى، فلمعت عيناها وضحكت بهدوء: دول بيعيطوا لوحدهم كدا, محدش قربلهم، أصله أول يوم لهم فى الحضانة!
بعض الهدوء تسرب إلىّ، إلا أن الصراخ الذى سمعته من شرفتى وجدته هنا أكثر قُربا وهولاً، فطلبت منها مقابلة المشرفة للاطمئنان بنفسى فأشارت إلى الباب المغلق المواجه، فطرقت عليه، ودخلت، وجدت فتاة جالسة على المكتب قابلتنى بابتسامة، فسألتها مباشرة: ما هذا الصراخ؟
فأجابت أيضا مُبتسمة بأن الأطفال مذعورون من يومهم الأول فى الحضانة، لا أكثر، فطلبت منها أن أراهم (ولا أعرف لماذا تذكّرت لجان تفتيش الأمم المتحدة فى تلك اللحظة) .. دخلت الغرفة ووجدت طفلين ملتصقين بالحائط وأبواق الهول والذعر تُطلق صراخهم من رؤوسعم، لايرون شيئا من دموعهم المنهمرة، وطعم الملح فى أفواههم الفاغرة المتصلة بمخاط أنوفهم... بينما بقية الأطفال يلعبون فى الغرفة الواسعة، لا يبالون، ينزلقون على المزالج، يتداعبون، يقفزون.. حاولت عبثاً أن أهديء من روع الطفلين، إلا أن ذعرهم كان أعظم.. التفتُّ إلى المشرفة التى كانت تبتسم وشرحت لها كيف كان صراخم من شرفة منزلنا والذى لم أسمعه من قبل، فتفهمت وأومأت: يومهم الأول..

اعتذرت لها وخرجت..

الاثنين، 23 سبتمبر 2013

لَــيْـــل.. نصٌ سيريالىّ مكتشف حديثاً تحت عجلات سيرفيس المحطة

لَــيْـــل

السرفيس متوقف. فى آخره يختلى عاشق بمحبوبته، تتحرك شفتاه باستمرار ناظراً إلى عينيها، غارقا فيهما، وحبيبته تبتسم فى خجل لكنها بدت مستمتعة، أرادت المزيد، وهو أيضا أراد..

السائق متذمرا، السيرفيس ليس به إلا أربعة ركاب، الكمثرى فى الخارج ينادى على القادمين، لم يكن يرى سوى أشباح تلوح فى الظلام.. لكنه أبدا لم ييأس.

أحد الركاب كان جالسا بجوار السائق، وكان ملتحياً، يكلم الكمثرى من النافذة بعدما نفذ صبره من الانتظار:

- توكل على الله وانطلق، وفى الطريق يأتى الرزق. احمد الله.

ثم قال السائق فى دهشة:

- ماذا قلت ياشيخ؟ ألم يحمد الله؟! ، (صائحاً) أنت يا ابن العاهرة لم تحمد الله! وماذا سيفيدنا الرزق إن لم نشكر. كان الشيخ ينظر إليه مستمعاً.

تمتم بحيث أن الشيخ استطاع أن يسمعه:

- قلت لأبيه أن ابنك لن يفلح وطلب منى أن أعلمه القيادة، لكنى صحت فى وجهه: القيادة لها أصول وابنك لم يتعلم الأصول، والحق أقول ياشيخ أن الرجل غضب لكنه لم يبد أى انفعال لأنه يعرف إنى من سأعلمه المهنة، لكنى أخبرتهم أن الولد خُلِق ليكون كمْثريا لا ليكون سائقا، والآن.. الآن لا يحمد الله، أنا أعرف أنه أحمق.. أتعرف يا شيخ؛ أنا أحمد الله كثيرا لكنك على الأرجح لم تسمعنى.
ثم فجأة صرخ ليمرق صوته من النافذة ليصل إلى الكمثرى- كان جالسا يلوح للأشباح لتركب:

- تعالى يا بن العاهرة. ونحمد الله على هذا العدد اليوم!

- ماذا قلت يا ريّس؟

تمتم الشيخ فى سره، وكان يفرّ حبات سبحة فى يده:

- الحمد لله على كل شيء، اللهم اهدنا.. اللهم اهدنا

ثم صاح السائق مرة أخرى:

- تعالى ويكفِنا ما رُزقنا، هل ستتدخل فى أرزاق الله، الدنيا ليل والناس نيام، ومع ذلك رُزقنا بأربعة ركاب!

صعد الكمثرى وكان شاحبا وهزيلا، عظام وجهه تبرز من خديه الكالحين، لكنه كان يبتسم وأسنانه البيضاء كان لها وقعا خاصا فى الليل، قال وكان لا يزال يبتسم:

- ماذا قلت يا ريس، لم أسمعك جيدا؟

تمتم السائق:

- هذا الولد لا يصلح حتى لأن يكون كمثرياً، عائلة هذا الأحمق كلهم مساكين.

قال الشيخ وقد اطمأن أن السيرفيس قد انطلق:

- افعل الخير وألقه فى البحر

- أنا أفعل ياشيخ، لهذا فإنى تركت هذا الأحمق يعمل معى ليعول عائلته
 ثم اقترب منه وبصوتٍ خفيض أشار إلى المرآة المعلقة:

- ألا ترى هؤلاء الأنجاس يا شيخ، أتعرف أنى انطلقت رغم قلة الركاب حتى أتخلص منهم، لو أننا مكثنا طويلا لارتكبوا فاحشة كبيرة، ونحن كلنا مساكين، ماذا لو ارتكبوها، هل يكون للرزق معنى لو أتى بفاحشة! الرزق يا شيخ مذاقه حلو حتى لو خسرت من وراء هذا الأحمق، لكنه مُر من وراء الفاحشة..

- أنت تقول الحكم

- لأنى أحمد الله، أنا أحبه حقا يا شيخ رغم أنى لا أصلى

صرخ الشيخ ومال بكل جسده نحوه:

- ماذا قلت؟!

- والله يا شيخ أحبه، ألا ترى أنى أدع أحمقا يعمل معى، وأود أن أتخلص من الذنوب التى فى سيارتى

- ولو.. الله لا يقبل عملا من إنسان لا يصلى له

- عندى سر يا شيخ، لكنى فى نصف ملابسى من الحرج

- قل ولا تتحرج، أسرارك فى بئر عميق

- لم يعلمنى أبى الصلاة، وكان يقول أن جده لم يعلمه، وأنا أعتقد أن أحدا لم يعلم جدى..

- لا حول ولا قوة إلا بالله، ولماذا لم تذهبوا لشيخ يعلمكم

- كنا طيبين يا شيخ، وكنا نفعل الخير، ونحب الله كثيرا، لكننا نخجل من الجهل، وأنا الآن لا أصدق أنى أخبرتك يا شيخ

- هناك أمور لا خجل منها، هل تريد أن تُعذّب خالدا فى النار لأنك خجلت من أمر كهذا؟

- ماذا أقول ياشيخ؟

- لا تقل شيئا، أعطنى رقم هاتفك وفى الغد تقابلنى فى المسجد الكبير وأعلمك

صاح السائق:

- ماذا؟ هل تريد أن تعلمنى ويضحك علىّ الصبية والعيال؟ لا يا شيخ، الله رحيم!

- لا تقلق، سأعلمك فى مكان لا يراك فيه أحد

هنا استيقظت سيدة عجوز، وقالت بوهن:

- هل وصلنا المستشفى؟

رد عليها الكمثرى:

- لا يا حاجة، نامى وأنا أوقظك حين نصل

ثم دعت الحاجة بحنوٍ بالغ:

- إلهى يستر طريقك يابنى ويوفقك ويحشرك مع حبيبه

التفت السائق إلى الشيخ، وقال:

- هذا الولد يا شيخ لا يصلى أيضا والآن سيدخل الجنة بدعوة السيدة الطيبة. ابن العاهرة.

صاح الشاب من نهاية السيرفيس:

- هنا يا ريّس

انتبه السائق لصوته واختلج، وقال:

- اللهم ارحمنا من ذنوبنا، ثم رأى خديّ الفتاة القانيان فى المرآة، كانت فى نشوة وسعادة بالغة، رغم صمتها العذرىّ، وقد بدا على الشاب أنه قضى وطره، وكان مستريحاً. تمتم السائق فى سره:

- العالم أصبح مليء بالأنجاس، اللهم ارحمنا.

لما هبطا من السيارة، صاح الكمثرى وهو يلاعب حاجبيه:

- ياعم، أعطنى خد واحد، أعطك عمرى التعيس كله

لكنهما اختفيا فى الطريق المظلم ولم يلتفتا إليه.. كانا مستمتعين حقا

ضحك السائق:

- ألم أقل لك ياشيخ، هذا الأحمق أضاع دعوة السيدة، برذيلته هذه

- الصلاة عفة

- أود أن تعلمنى ياشيخ، لكنى فى النهاية مجرد سائق، نكرة

- الله لا ينظر إلا لقلوبنا

- لهذا أحبه والله ياشيخ

ثم صاحت السيدة العجوز:

- أخاف أن تفوتنى المستشفى، الراجل عيّان وهقطعوله رجله

صفق الكمثرى على يديه وقال فى شفقة:

لا حول ولا قوة إلا بالله. اقتربنا ياحاجة لا تخافى، ربنا يشفيه.. لا حول ولا قوة إلا بالله

قال السائق:

- كلنا مساكين ياشيخ

صاح الكمثرى نحو السائق:

- توقف عند المستشفى!

داس السائق على المكبح، وتوقفت السيارة أمام مبنى كبير، يضيئ جدرانه ضوء أزرق خافت، كان أحدهم يسير على عُجالة لكنه اختفى، أمسك الكمثرى ذراع السيدة العجوز وساعدها فى النزول، ذهبت وكانت لا تتوقف عن الدعاء لهم جميعاً، وكان السائق مستريحاً لهذا..

- أنزلنى عند محطة البنزين القادمة... قال الشيخ للسائق

- حاضر يا شيخ

وقبل أن يهبط، أكد على السائق:

- لا تتردد ولا تتحرج، اتصل بى وفى الوقت الذى يناسبك

- كله بأمر الله يا شيخ

- بارك الله فيك

ثم سار مبتعدا حتى تلاشى فى الظلام

سأل الكمثرى السائق، وقد خلا السيرفيس:

- ما هذا يا ريس، ماذا يريد منك الشيخ؟

- وأنت ما دخلك يا ابن العاهرة، لماذا تحشر أنفك فى وسط الكبار، هذا الرجل المبروك شيخ وأنا سائق كبير، لماذا يتدخل كمثرى أحمق مثلك!

- أردت أن أعرف فقط يا ريّس 

- أحمق مثل أبوك!

- هل سنعمل لدور آخر؟

- لا، نحمد الله على الأرزاق

- لكن لم نكسب سوى خمسة جنيهات فقط!

- لا نعترض على الأرزاق

ثم تمتم بصوت خفيض:

- يجب أن أتعلم الصلاة


من المطبخ إلى قسم الطوارئ

منذ بضعة أيام( يوم السبت 27 يناير 2024 ظهرًا) جُرِح إصبعي البنصر (الإصبع قبل الأخير) لليد اليسرى جرحًا خطيرًا أثناء غسيل طبق صين...