الاثنين، 23 سبتمبر 2013

لَــيْـــل.. نصٌ سيريالىّ مكتشف حديثاً تحت عجلات سيرفيس المحطة

لَــيْـــل

السرفيس متوقف. فى آخره يختلى عاشق بمحبوبته، تتحرك شفتاه باستمرار ناظراً إلى عينيها، غارقا فيهما، وحبيبته تبتسم فى خجل لكنها بدت مستمتعة، أرادت المزيد، وهو أيضا أراد..

السائق متذمرا، السيرفيس ليس به إلا أربعة ركاب، الكمثرى فى الخارج ينادى على القادمين، لم يكن يرى سوى أشباح تلوح فى الظلام.. لكنه أبدا لم ييأس.

أحد الركاب كان جالسا بجوار السائق، وكان ملتحياً، يكلم الكمثرى من النافذة بعدما نفذ صبره من الانتظار:

- توكل على الله وانطلق، وفى الطريق يأتى الرزق. احمد الله.

ثم قال السائق فى دهشة:

- ماذا قلت ياشيخ؟ ألم يحمد الله؟! ، (صائحاً) أنت يا ابن العاهرة لم تحمد الله! وماذا سيفيدنا الرزق إن لم نشكر. كان الشيخ ينظر إليه مستمعاً.

تمتم بحيث أن الشيخ استطاع أن يسمعه:

- قلت لأبيه أن ابنك لن يفلح وطلب منى أن أعلمه القيادة، لكنى صحت فى وجهه: القيادة لها أصول وابنك لم يتعلم الأصول، والحق أقول ياشيخ أن الرجل غضب لكنه لم يبد أى انفعال لأنه يعرف إنى من سأعلمه المهنة، لكنى أخبرتهم أن الولد خُلِق ليكون كمْثريا لا ليكون سائقا، والآن.. الآن لا يحمد الله، أنا أعرف أنه أحمق.. أتعرف يا شيخ؛ أنا أحمد الله كثيرا لكنك على الأرجح لم تسمعنى.
ثم فجأة صرخ ليمرق صوته من النافذة ليصل إلى الكمثرى- كان جالسا يلوح للأشباح لتركب:

- تعالى يا بن العاهرة. ونحمد الله على هذا العدد اليوم!

- ماذا قلت يا ريّس؟

تمتم الشيخ فى سره، وكان يفرّ حبات سبحة فى يده:

- الحمد لله على كل شيء، اللهم اهدنا.. اللهم اهدنا

ثم صاح السائق مرة أخرى:

- تعالى ويكفِنا ما رُزقنا، هل ستتدخل فى أرزاق الله، الدنيا ليل والناس نيام، ومع ذلك رُزقنا بأربعة ركاب!

صعد الكمثرى وكان شاحبا وهزيلا، عظام وجهه تبرز من خديه الكالحين، لكنه كان يبتسم وأسنانه البيضاء كان لها وقعا خاصا فى الليل، قال وكان لا يزال يبتسم:

- ماذا قلت يا ريس، لم أسمعك جيدا؟

تمتم السائق:

- هذا الولد لا يصلح حتى لأن يكون كمثرياً، عائلة هذا الأحمق كلهم مساكين.

قال الشيخ وقد اطمأن أن السيرفيس قد انطلق:

- افعل الخير وألقه فى البحر

- أنا أفعل ياشيخ، لهذا فإنى تركت هذا الأحمق يعمل معى ليعول عائلته
 ثم اقترب منه وبصوتٍ خفيض أشار إلى المرآة المعلقة:

- ألا ترى هؤلاء الأنجاس يا شيخ، أتعرف أنى انطلقت رغم قلة الركاب حتى أتخلص منهم، لو أننا مكثنا طويلا لارتكبوا فاحشة كبيرة، ونحن كلنا مساكين، ماذا لو ارتكبوها، هل يكون للرزق معنى لو أتى بفاحشة! الرزق يا شيخ مذاقه حلو حتى لو خسرت من وراء هذا الأحمق، لكنه مُر من وراء الفاحشة..

- أنت تقول الحكم

- لأنى أحمد الله، أنا أحبه حقا يا شيخ رغم أنى لا أصلى

صرخ الشيخ ومال بكل جسده نحوه:

- ماذا قلت؟!

- والله يا شيخ أحبه، ألا ترى أنى أدع أحمقا يعمل معى، وأود أن أتخلص من الذنوب التى فى سيارتى

- ولو.. الله لا يقبل عملا من إنسان لا يصلى له

- عندى سر يا شيخ، لكنى فى نصف ملابسى من الحرج

- قل ولا تتحرج، أسرارك فى بئر عميق

- لم يعلمنى أبى الصلاة، وكان يقول أن جده لم يعلمه، وأنا أعتقد أن أحدا لم يعلم جدى..

- لا حول ولا قوة إلا بالله، ولماذا لم تذهبوا لشيخ يعلمكم

- كنا طيبين يا شيخ، وكنا نفعل الخير، ونحب الله كثيرا، لكننا نخجل من الجهل، وأنا الآن لا أصدق أنى أخبرتك يا شيخ

- هناك أمور لا خجل منها، هل تريد أن تُعذّب خالدا فى النار لأنك خجلت من أمر كهذا؟

- ماذا أقول ياشيخ؟

- لا تقل شيئا، أعطنى رقم هاتفك وفى الغد تقابلنى فى المسجد الكبير وأعلمك

صاح السائق:

- ماذا؟ هل تريد أن تعلمنى ويضحك علىّ الصبية والعيال؟ لا يا شيخ، الله رحيم!

- لا تقلق، سأعلمك فى مكان لا يراك فيه أحد

هنا استيقظت سيدة عجوز، وقالت بوهن:

- هل وصلنا المستشفى؟

رد عليها الكمثرى:

- لا يا حاجة، نامى وأنا أوقظك حين نصل

ثم دعت الحاجة بحنوٍ بالغ:

- إلهى يستر طريقك يابنى ويوفقك ويحشرك مع حبيبه

التفت السائق إلى الشيخ، وقال:

- هذا الولد يا شيخ لا يصلى أيضا والآن سيدخل الجنة بدعوة السيدة الطيبة. ابن العاهرة.

صاح الشاب من نهاية السيرفيس:

- هنا يا ريّس

انتبه السائق لصوته واختلج، وقال:

- اللهم ارحمنا من ذنوبنا، ثم رأى خديّ الفتاة القانيان فى المرآة، كانت فى نشوة وسعادة بالغة، رغم صمتها العذرىّ، وقد بدا على الشاب أنه قضى وطره، وكان مستريحاً. تمتم السائق فى سره:

- العالم أصبح مليء بالأنجاس، اللهم ارحمنا.

لما هبطا من السيارة، صاح الكمثرى وهو يلاعب حاجبيه:

- ياعم، أعطنى خد واحد، أعطك عمرى التعيس كله

لكنهما اختفيا فى الطريق المظلم ولم يلتفتا إليه.. كانا مستمتعين حقا

ضحك السائق:

- ألم أقل لك ياشيخ، هذا الأحمق أضاع دعوة السيدة، برذيلته هذه

- الصلاة عفة

- أود أن تعلمنى ياشيخ، لكنى فى النهاية مجرد سائق، نكرة

- الله لا ينظر إلا لقلوبنا

- لهذا أحبه والله ياشيخ

ثم صاحت السيدة العجوز:

- أخاف أن تفوتنى المستشفى، الراجل عيّان وهقطعوله رجله

صفق الكمثرى على يديه وقال فى شفقة:

لا حول ولا قوة إلا بالله. اقتربنا ياحاجة لا تخافى، ربنا يشفيه.. لا حول ولا قوة إلا بالله

قال السائق:

- كلنا مساكين ياشيخ

صاح الكمثرى نحو السائق:

- توقف عند المستشفى!

داس السائق على المكبح، وتوقفت السيارة أمام مبنى كبير، يضيئ جدرانه ضوء أزرق خافت، كان أحدهم يسير على عُجالة لكنه اختفى، أمسك الكمثرى ذراع السيدة العجوز وساعدها فى النزول، ذهبت وكانت لا تتوقف عن الدعاء لهم جميعاً، وكان السائق مستريحاً لهذا..

- أنزلنى عند محطة البنزين القادمة... قال الشيخ للسائق

- حاضر يا شيخ

وقبل أن يهبط، أكد على السائق:

- لا تتردد ولا تتحرج، اتصل بى وفى الوقت الذى يناسبك

- كله بأمر الله يا شيخ

- بارك الله فيك

ثم سار مبتعدا حتى تلاشى فى الظلام

سأل الكمثرى السائق، وقد خلا السيرفيس:

- ما هذا يا ريس، ماذا يريد منك الشيخ؟

- وأنت ما دخلك يا ابن العاهرة، لماذا تحشر أنفك فى وسط الكبار، هذا الرجل المبروك شيخ وأنا سائق كبير، لماذا يتدخل كمثرى أحمق مثلك!

- أردت أن أعرف فقط يا ريّس 

- أحمق مثل أبوك!

- هل سنعمل لدور آخر؟

- لا، نحمد الله على الأرزاق

- لكن لم نكسب سوى خمسة جنيهات فقط!

- لا نعترض على الأرزاق

ثم تمتم بصوت خفيض:

- يجب أن أتعلم الصلاة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...