الأربعاء، 7 سبتمبر 2016

مبارزة الملل

هناك جروب على فيسبوك تسأل فيه أي سؤال عن أي مواد أو خدمات استهلاكية، فتأتيك الردود فورًا حول هذا الاستفسار سواء عن أسعارها أو جودتها أو حتى وفرتها في السوق، ساحر أليس كذلك؟ لا مع ذلك، ليس تمامًا، ذات يوم أردت أن أعرف شيئا مهما بالنسبة لي فطرحت هذا السؤال "هو لو حد عايز يسافر-يعمل رحلة بس ميكونش فيه تعامل مع البشر خالص، إيه الخيارات الموجودة؟". انتظرت ساعة كاملة أو أكثر حتى حصلت على لايك واحدة، لايك وحيدة لدرجة أن الفضول دفعني لأعرف من الذي قام بعمل لايك على هذا المنشور، وأنا أقول "قام بعمل لايك" لأن اللايكات في فيسبوك غالبا ما تكون خالية من المعنى. كان اسمه فريد عبد اللطيف. كانت صفحته مشدد عليها الحراسة بداية من صورة بروفايله بجستن بيبر، إلى الصور التي لا تربط بينها أي علاقة مفهومة، مثل دبين يتبارزان على بقعة جليدية منبسطة، وصور لمشروب البيرة من زوايا مختلفة، وصورة للهرم معدلة بالفوتوشوب ليمر فوقه قطار كهربائي سريع. شعرت بالضجر لعجزي عن الربط بين هذه الأشياء فأغلقت صفحته، وحذفت منشوري في الجروب، ونسيت الموضوع الذي لم أفكر فيه إلا عندما قرأت جملة في كتاب تبدأ ب"وامّحت مجموعة البشر سريعًا".
وصلتني رسالة في الثانية من صباح هذا اليوم، وأنا في العادة أسهر، كانت الرسالة من فريد عبد اللطيف، وأول شيء لاحظته أنه غير صورة بروفايله إلى صورة الدبين، فشعرت أني أعرفه من مدة طويلة. كانت هذه رسالته: "مساء الخير، عندي طلبك"، فاستفسرت منه "أي طلب؟" لأنه رسميًا لم يقدم نفسه لي، ولأني أردت ألا أكون "الشخص الذي اهتم بشخصية الشخص الوحيد الذي عمل لايك"، قال:

  - المكان اللي عايز تروحه من غير تعامل مع البشر
  - فين دا؟ 
  - أنا شغال هناك
  - ؟؟؟!
فهم قصدي وقال:
  - حضرتك التواصل بينا بيكون فيسبوك بس.
  - يبقا حضرتك مفهمتش قصدي
  - طيب إيه طلب حضرتك؟
  - لا انسى الموضوع خلاص، أنا نسيته فعلًا وبتأقلم
  - زي ما تحب
  - «لايك»

ونسيت الموضوع فعلًا، ربما استغرقت في الكتاب أكثر مما يستحق لأسأل مثل هذه الأسئلة التي لا توجد إلا في الكتب. عدت للقراءة مجددًا، وبعد ساعة، شعرت برغبة مفاجئة في اقتحام فيسبوك للخروج من الملل، وهذه ضريبة مُعتادة أدفعها مقابل عدم اعترافي برتابة الكتاب الذي أقرأه؛ أن يُلازمني الملل، وقد يدفعني هذا الشعور لقراءة بعض الرسائل القديمة بيني وبين الأصدقاء، فذهبت إلى تطبيق ماسنجر، وقد لاحظت شيئًا استغربت أني لم ألاحظه من قبل، وهو أن كل الرسائل تنتهي إما بإيموجي ضاحك أو لايك، فشعرت بوحدة شديدة لأني لم أر رسالة واحدة مكتوبة، ولاحظت أيضًا اختفاء جلسة التراسل مع فريد عبد اللطيف، وتحققت من أنه قد حظرني بالفعل. إن كان هناك شعور يُقابل الملل فهو شعور أنه تم حظري من قِبل شخص لا أعرفه بلا مبرر، وكلاهما شعورين ليسا على قائمة حالاتى الشعورية المفضلة رغم ذلك. لم أعط للموضوع أكبر من حجمه، وقرأت الكتاب بملل يحجّمه تساؤل حول سبب حظري.
عندما وصلت لنهاية أحد فصول الكتاب، أعطيت تفسيرًا وحيدًا وهو أن يكون من طبيعة هذه الشركة المجهولة أن تحظر كل المتعاملين معها، بالطبع سيكون هذا الفعل مشينًا في العالم الطبيعي ومُهينًا لسمعة الشركة، لكن في العالم الذي أردته فهو أهم سمة قد تتسم بها مثل هذه الشركة. والحقيقة أني أعدت التفكير في الموضوع، ليس طمعًا في مثل هذا العالم المُغرق في لامعقوليته، وإنما فُضولًا، فقمت بالبحث عنه في حسابي البديل ووجدته، فتحت جلسة مراسلة، وفكرت بم أبدأ، لابد أن تبدأ رسالتي على نحو مثل: "لقيت حضرتك عاملي بلوك، مش فاهم ليه، عمومًا أنا عايز اعرف أكتر عن الشركة؟"، لكني مسحتها، وكتبت أخري: "أنا طارق إبراهيم اللي كلمتك من شويه، ممكن أعرف تفاصيل الرحلات اللي بتنظموها؟"، مسحتها أيضًا، وكتبت واحدة فكرت فيها طويلًا: "إيه الإجراءات المطلوبة وتكاليف الرحلة"، لكني مسحتها كذلك، كانت جميع هذه الرسائل تبدو منطقية وواقعية بما لا يتناسب مع طلبي، لابد أن يتم طلب غير واقعي بشكل لا منطقي. وكان هذا الاكتشاف هو نهاية الفكرة تمامًا، ورجعت لقراءة الكتاب لتبدأ مبارزة جديدة أقرأ من أجلها الكتب المملة.

السبت، 6 أغسطس 2016

الذرة الاجتماعية: لماذا يزداد الأثرياء ثراءً والفقراء فقرًا ؟

My rating: 4 of 5 stars


أكون محظوظًا لو أن الكتاب الذي أقرأه تربطني به صلة مسبقة. مثلا الفكرة التي ناقشها الكاتب هنا عن إمكانية إيجاد نسق للظواهر الإنسانية يصفها بشكل دقيق دقة علم الفيزياء ومن ثم دراستها وتطبيقها على ظواهر أخرى مشابهة، كانت تراودني كثيرًا في الفترة الأخيرة. منذ فترة كنت أحاول تخيّل صيغة رياضية تصف العلاقة بين (الشخصية- الحدث- الحبكة) في القصة، صيغة رياضية بإمكان تحويلها إلى لوغاريتم وبرمجتها، لنجعل جهاز الكمبيوتر يؤلف الروايات عند الحاجة، لم أقطع شوطًا كبيرًا في هذا الموضوع، توقفت عند الرسم البياني للعلاقة بين الثلاث عناصر. ورغم أن فكرة كهذه تجمع ما بين الجنون ومضيعة الوقت، إلا إن كل شيء قابل للتحقيق ربما، خصوصًا مع الاهتمام المتزايد بمجال الذكاء الاصطناعي. لكني سأكون تعيسًا لو أصبحت العلوم الإنسانية بهذه البساطة، وصار الحصول على الرواية بهذه السهولة المُحزنة (ستقل تعاستي لو قمت أنا بها).
هذا النوع من الأفكار هو نوعي المفضّل، وطريقة جيدة للتأمل في مدى تفاهة الوضع عمومًا.


الجمعة، 22 يوليو 2016

الشيخ رزق والأربعون فلاح



حول حكاية الشيخ رزق صعوبات أثنت الكثيرين عن كتابتها، حيث اعتبرها البعض حكاية يفصل فيها علماء الرياضيات والإقتصاد وحدهم، وظن فريق آخر أن حكاية بمثل هذه الأحداث تنتمي إلى فصيل الأدب بامتياز، وقف آخرون بين الفريقين معتبرينها حكاية أدبية من النوع الرياضي (هؤلاء يسمعون عن القصص من النوع المقالي). في محاولتي أردت أن أقدم الحكاية التي أغرتني كثيرًا كمحب للأدب ودارس للرياضيات، أتمنى لو أن كل من قرأها محبًّا كذلك للأدب وعلى الأقل لديه بعض الصبر على حل معادلة رياضية من الدرجة الأولى في متغير واحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

    لو سألت أحد الذين شهدوا القصة من أولها، لما توقّع أن تسير النهاية على هذا النحو، في الحقيقة لم يكن بإمكان أحد أن يتوقع نهاية الشيخ رزق، التي يصعب حتى الحكم عليها إن كانت قاسية أو مجرد صورة أخرى مزعومة لعدل السماء.
ففي إحدى أمسيات شهر يوليو فوجئ أهالي إحدى القرى أن شيخ قريتهم سيقوم بإجراء تجربة علمية لإثبات وجود الله. واجه صعوبات في البداية لشرح معنى التجربة العلمية وأبسط شرح توصّل إليه هو أن التجربة العلمية "هي تلك العصا السحرية التي ابتلعت أفاعي فرعون الزائفة"، تخيّل البعض أن تكون التجربة على هذا النحو: تحويل عصا الشيخ رزق لثعبان كبير يلتهم السحالي والثعابين المنتشرة في القرية، فأنصتوا إليه وتابعوا تجربته حتى النهاية باهتمام.

طلب منهم الشيخ رزق تدوين كل دعاء يتضرعون به إلى الله في صلواتهم خلفه، لحساب النسبة المئوية لاستجابة الله لهذه الأدعية، ومن ثم معرفة أي الأدعية هي التي لها استجابية أعلى من غيرها، وتحت أي ظرف تُستجاب، لذلك فقد اهتمّ أيضًا بجمع الظروف المحيطة بكل داعٍ، وضمن هذه الظروف الحالة المادية للمُشارك متمثلة في محصوله الزراعي، ومُعدّل التقوى الخاص به، وهو معدل قام بصياغة قانونه الشيخ مجاهد- أحد الشيوخ التجريبيين البارزين 
(1). وقد فعلوا كل ذلك عن طيب خاطر لأجل معرفة كيف ابتلعت عصا موسى ثعابين فرعون.

حصل الشيخ رزق على بيانات أربعين فلاح: المحصول السنوي، أدعية صلاة العشاء- حيث من الشائع أن الله يكون قريبًا منهم في هذا الوقت بالذات، وبالتالي فإن الأسلوب العلمي يُحتّم على الشيخ رزق أخذ أفضل وقت للمُعايرة- ثم العمود الثالث من الدفتر وهو الخاص بالاستجابة الإلهية لكل دعاء. كانت القاعدة العلمية التي اتّبعها الشيخ رزق
(2) هي أنه، إذا كان الله هو من يُحدد كمية المحصول لكل فلاح، فطبقًا لنظرية الشيخ مجاهد، التي تفترض أن هناك علاقة عكسية بين تقوى الفلاح ومحصوله الزراعي، فإن استجابة الله لدعاء الفلاح إكس تتناسب طرديًا مع محصوله الزراعي (قد تكون هذه النتيجة غريبة بعض الشيء إذا أهملنا وجود الجنة والنار).

استنتج الشيخ رزق من وراء ذلك أن غضب الله على الفلاح يتحدد بمقدار استجابته لدعائه، وهذا ما جعله يعيد التفكير في حكمة المثل القرويّ: "حظه ولا حظ القِبَط". وقد لاحظ أيضًا أن أحد الفلاحين واسمه حسن أبو العينين، كان دائم الخسارة في محصوله، وقد تحوّل من مالك أرض إلى مزارع بالأجرة، وتوقع الشيخ رزق أن حسن هذا أكثر الفلاحين تقوى على الإطلاق ومن ثم فإن استجابة دعائه بصفر. وحينما اطّلع على قائمة أدعيته في الدفتر وجدها جميعًا على هذا النحو: "يا رب رجعلي أرضي.. يا رب رجعلي أرضي". بالطبع ظل عاملًا بالأجرة ولم تعد أرضه على أية حال، وحصل هذا الفلاح على نسبة صفر في المئة من الاستجابة الإلهية. كانت البيانات المُسجلة تتراوح بين حالة حسن أبو العينين، وآخر اسمه رضوان السعيد، والذي كان أكثر الفلاحين مُستجابة أدعيته بشكل يجعل المثل القروي سالف الذكر ينطبق عليه، وكانت عينة من أدعيته تشمل: "يارب اتجوز عفاف"- وقد تزوجها بالفعل بعد أن ضمن له ثراؤه القبول عندها، وبالتالي- من الناحية العلمية- فقد استُجيب دعاؤه، كانت نسبة استجابة أدعيته حوالي خمس وثمانين في المئة، وكانت نسبة الخمسة عشر الباقية من نصيب أدعية: "اللهم حرر القدس" و"اللهم عليك بالكفار"، التي كان يتضرع بها بعد انتهائه من دعاء زواجه من عفاف. وفي حين ظن حسن أنه مُبتلى، وظن رضوان أن الله حارسه الأمين، استنتج الشيخ رزق فيما يُشبه معرفة السر الخطير، أن حسن سيصيب الجنة، في حين أن جهنم هي قدر رضوان السعيد، لتتوحد المعادلة:

نسبة الربح السنوي + نسبة استجابة الدعاء * ط + المُستقر = 1

حيث المُستقر؛ إما النار أو الجنة تدرّجًا من الصفر إلى الواحد، و(ط) ثابت مكتوب على الإنسان منذ ولادته.

ذات ليلة بعد انتهاء صلاة العشاء، وصله بريد يحمل إليه خبر وفاة عمه السكندري البعيد، وقبل أن يُكمل قلبه انقباضته الحزينة، مُكملًا قراءة الرسالة اكتشف أنه الوريث الشرعي الوحيد لعمه، وأنه قد ورث عنه عقارين بالإسكندرية. في تلك اللحظة دخل حسن إليه غرفته بوجهه الجهم البائس، حيث كان بيته مفتوحًا لكل المشاركين في التجربة مجانًا ليتمكنوا من تسجيل أي استجابة طارئة لأدعيتهم، قال له حسن: "مش هنشوف عصاية سيدنا موسى بقا يا شيخ؟"، ابتسم له الشيخ رزق، وأخبره أن التجربة على وشك الانتهاء، فأخبره حسن أنه دعى الله في هذه الليلة أن تظهر عصا موسى ليمكن إثبات وجود الله بالتجربة العلمية، ثم خرج. وتذكر الشيخ رزق شيئًا؛ أن يسجّل تحقق أحد أدعيته في الدفتر، وهو الدعاء الخاص بأن يرزقه الله من حيث لا يحتسب، وبذا فقد وصلت نسبة استجابة أدعيته إلى ما يُقارب الستين بالمئة. في أثناء صلاة العشاء في اليوم التالي وإمامة الشيخ رزق لأربعين فلاحًا مشاركًا في تجربته الطموح، سمع بكاءً مكتومًا لأحدهم أثناء السجود وكان ذلك بكاء حسن، حينها أدرك الشيخ رزق أن تجربته لا يمكنها الاستمرار أكثر من ذلك وعليه أن يخبر الجميع بمستقرهم الذي تم استنتاجه من خلال تجربته، وهي طريقة غير مباشرة لإعلان ثبوت وجود الله بالدليل العلمي.
بعد التسليم استدار الشيخ، وهو يعلم جيدا خطورة موقفه. بدأ بحمد الله "الذي تم إثبات وجوده علميًا"، وقبل أن يُكمل خطابه المهم، لمح إحداهن تلوّح له من خارج المسجد، كان من الصعب عليه أن يحدد ملامحها، لكن مع ذلك كان من الواضح أنها تقصده هو- الوحيد الذي في مواجهتها، فاستأذن منهم وذهب لمعرفة ما تريد، وحين خرج من باب المسجد استقبلته هذه السيدة متهللة وبشوش، وهي الست ألطاف الخاطبة، والتي قصدها الشيخ رزق منذ عدة أيام للتوسط عند أحد الأثرياء للزواج من ابنته، وقد قبل أخيرًا بعد علمه بحكاية الميراث، قالت الست ألطاف:

- والله ما قدرت استنى يا شيخ رزق، أول ما الحاج رمضان قالي جتلك الجامع جري.

لم يكن لخطابه المشهود والذي سيلقيه لاحقًا أي تأثير كابح على فرحته، فتلألأت أسنانه البيض، وشكرها من كل قلبه، وطمأنها:

- حلاوتك محفوظة يا ست الكل.

ضحكت الست ألطاف وانصرفت. ودخل المسجد وفي قلبه يرقص هذا الخبر السعيد، وأثناء مروره بين صفوف الأربعين فلاح، تذكر شيئًا مهمًا ألجم فرحته على غير توقّع، فعليه تسجيل هذه الزيجة ضمن أدعيته التي تحققت، وبما أن نتائج التجربة لم يُعلن عنها بعد فإنه من الواجب تسجيلها للحفاظ على نهج علمي سليم كما تعهّد. وما أن جلس حتى تناول الدفتر وسجل هذه الاستجابة الجديدة، ارتفعت بعض الصيحات مكبرة مهللة، ومبارِكة ممن استرقوا النظر وفهموا مضمون الزيارة الطارئة، ارتفعت النسبة المئوية لاستجابة الله لدعوات الشيخ الرزق إلى خمس وثمانين بالمئة وهي النسبة الأعلى مع رضوان، انقشعت تلك السعادة العابرة، وأدرك بحسّه العلمي أن مستقره هو الجحيم مع رضوان، راجع مُعدل تقواه، ثم تذكّر علاوة شهر يوليو التي ستصرفها الأوقاف كقذيفة غير متوقّعة تؤكد شكوكه، ولأجل إنقاذ نفسه من تلك الهاوية، قام بحلّ المعادلة بأكثر من طريقة وكانت كل الحلول تؤكد أن المستقر = الجحيم. وفي لحظة مكثفة من الشعور بالضياع، قرر أنه سوف يتخلى عن ميراث عمه ولن يُقدم على هذا الزواج، وبذا فإن دعواته في هذه الحالة- عمليًّا- لم تتحقق، بل إنه سيرفع معدل تقواه من خلال رفع معدل الزُّهد، ويُحوّل مسار مُستقره إلى الجنة. ارتفعت صيحة يائسة كأنها تتمسك بقشة أخيرة للحياه، كان مصدرها حسن:

- الله يخليك يا شيخ رزق، عايزين نشوف عصاية موسى.

انتبه له الشيخ رزق، وانتبه لهم جميعًا، وألقى خطابه المشهود والذي سوف لن ينساه أحد، ولكن قبل أن يبدأ طلب من أحد الحاضرين أن يجلس إلى جواره، وكان ذلك الشيخ مجاهد صاحب المعادلات الرياضية الشهيرة وصاحب قانون حساب معدل التقوى ورائد المدرسة التجريبية، وقد دعاه الشيخ رزق ليشهد هذا اليوم المهم في تاريخ التجريبية الدينية، فتقدم له الشيخ مجاهد زاحفًا على أليتيه حتى انسحبت جلبابه وبانت أفخاذه، وكان واضحًا أن بدانته لن تسعفه في الوقوف ثم الذهاب ثم الجلوس، لذلك فقد اختصر الطريق إليه بالزحف. حياهم جميعًا فردوا تحيته، وقدمه الشيخ رزق إليهم فحيوه مرة أخرى بحرارة. قال الشيخ رزق: "أهلي وإخواني وأحبائي، إن ما أنا مُقدم عليه الآن لن تتوقف عليه حياتنا فحسب، بل أيضًا الكثير من طموحاتنا وأحلامنا، أريد أن أبشركم أننا بحمد الله استطعنا بفضله وفضل النظريات التجريبية أن نثبت وجود الله بما لا يدع مجالًا للشك"، فكبّر كل من في المسجد، وسجد الشيخ مجاهد حتى ارتفعت أليتاه إلى السماء بشكل ملحوظ. استأنف الشيخ رزق: "وبالفعل النتائج التي حصلنا عليها تثبت ذلك، وبفضل الله تعالى أيضًا توصّلت إلى قانون معدل الزهد والذي سوف يكون عاملًا مهمًا في مسيرة البحث التجريبي"، ربت الشيخ مجاهد على ظهره مباركًا، وعلت صيحة نافذة الصبر من فلاح كانت نسبة تحقق أدعيته قرابة عشرة بالمئة:

- يعني هنشوف عصاية موسى يا شيخ رزق؟

إخواني وأحبائي، بارك الله لكم، إن صيغة ”عصا موسى“ ما هي إلا تشبيه بلاغي، بمعنى إنه لا وجود لها لكنها الطريقة المُثلى للتأكد من وجود الله بالطريقة العلمية، حيث أننا نستخدمها كـIdeal state أو الحالة المثالية لكنها افتراضية...

قاطعه الشيخ مجاهد قائلًا:

- نعم، وهذه إحدى أفكار المدرسة المنبرية التي نستعين بها أحيانًا في تجاربنا، لكننا لا نحبّذها كثيرًا...

فعلت صيحة غاضبة من فلاح نسبة تحقق أدعيته خمسة في المئة:

- يعني إيه الكلام دِه، يعني مش موجودة في الحقيقة؟ هو احنا هنصدقك ونكدب ربنا؟!

هنا علت صيحات الاستنكار والتي كان من الصعب السيطرة عليها من الشيخين، حاولوا تهدئة الجموع الغاضبة، لكن بدا أن الأمور في طريقها إلى الانفلات عندما صاح أحدهم لم يمكن الاستدلال على هويته: "دول كفار، ولاد الكلب دول ملحدين". كان كل فلاح قد أحضر معه عصا ليتم التجربة عليها وتحويلها إلى ثعبان، وما أن حمت الأمور وأصبحت خارج السيطرة تمامًا، وكان من الصعب هروب الشيخ رزق أو زحف الشيخ مجاهد، أخرج كل فلاح عصاه وهوى بها على الشيخين التجريبيين، لم تهدأ الأمور إلا بوصول الحاج رمضان والد الفتاة التي تقدم لها الشيخ رزق، وبدافع صلة النسب المُنتظرة رأى أن يدافع عنه، هو الذي سوف يمثّل شرف ابنته مستقبلًا، فأحضر معه الرجال لإنقاذ الشيخ رزق، فدخل المعركة واستطاع فض الاشتباك بالقوة التي معه، لكن بعد أن ترك الضرب المبرح كدمات بارزة في وجه الشيخ رزق وتورّم في الخد الأيسر للشيخ مجاهد، وكانا معًا ينزفان، يترنحان من الألم. تمتم الشيخ رزق بلا وعي بمن حوله: "مش عايز تركة عمي، ومش هتجوز بنت الحج رمضان.. الجنة يارب، الجنة يارب.."، أنصت له الحاج رمضان بغيظ شديد، فأمسك عصاه وهوى بها على رأسه: "خد يا كافر يا بن الكلب"، فتشجع الجميع واستأنفوا الضرب.

بعد عدة أيام قُدِّما للمحاكمة بتهمة الخروج عن النظام المألوف والعُرف الاجتماعي الرصين وإنكار إحدى القوانين البديهية في الكون (وهي ظاهرة أكل العصيّ للثعابين)، وقد كان واضحًا أن القاضي يميل إلى المدرسة المنبرية من خلال أسلوبه وبيانه حيث تكرر لفظ "الإيمان" بدلًا من "مُعدل الإيمان" في حيثيات الحكم. وقد حُكم عليهما بخمس سنوات سجن مع الشغل، وفي خلال هذه الفترة سيقوم الشيخ رزق بتأليف كتابه الضخم "النظرية الرهان على طريق الجنان"، وهو كتاب لم يقرأه أحد باعتباره كتاب سحر وتحضير جان. وانطوت صفحة المدرسة التجريبية إلى الأبد.

ـــــــــــــــ

(1) قام الشيخ مجاهد بتجربته في ظروف مشابهة لتجربة الشيخ رزق، إلا أنه- بدلًا من الثعابين- استخدم حيلة البراق الذي يطير إلى السماء لإقناع فلاحين قريته بالاشتراك في التجربة، وقد مات حماران جرّاء هذه التجربة، وهذا ما لا يجعلها تامة المُشابهة مع تجربة الشيخ رزق، الذي لم يُزهق في تجربته روح أي ثعبان.

(2) صورة ضوئية لمخطوطة عُثر عليها يُظن أنها كُتبت بيد الشيخ رزق نفسه

  • يَذكر أنصار المدرسة المنبرية يوم المُحاكمة بالمشهود والنصر العظيم إذ أنه قضى على رأس المدرسة التجريبية وذراعه الأيمن المارقين.
  • المدرسة المنبرية معروفة فحسب بهذا الاسم عند أنصار المدرسة التجريبية، في حين أنهم يطلقون على أنفسهم اسم الفئة المُختارة، وقد تم تعيين خطيب ينتمي لهم لمسجد القرية.
  • لم يتعرض الشيخ مجاهد في تجربته لما تعرض له الشيخ رزق من مآسي، حيث كان لموت الحمارين وقع أقسى على قلوب الفلاحين من فشل تجربته العلمية.
  • شخصيًا- كنت أتمنى أن يعلم حسن أن حاصل مستقره يساوي الجنة طبقًا لنظرية الشيخ رزق، لكن الظروف- كما اتضح- لم تُسعف الشيخ رزق أن يزف إليه هذا النبأ السعيد، لربما خفف ذلك من صيحاته اليائسة وأدعيته التي لا تتوقف ولا تُستجاب.

الأحد، 3 يوليو 2016

صلاة للخمر


     في بلدتنا الفقيرة خمارة قديمة لا أعرف مكانها لأنني لم أكن لأجرؤ على الاقتراب منها وقد منعني أبي بشدة أن أقترب من المنطقة المحيطة. لكني قررت أن أشرب زجاجة جن كاملة وحدي، بحثت عن الخمارة بتكتّم شديد، قابلت جمعًا من الشبان المرحين وقت صلاة العشاء، كانت ضحكاتهم الصاخبة والمحركة لمشاعر الحرية تدفعني نحوهم لأسألهم بإحساس الأخوة:
- ها يا أصحاب، ليلتكم سعيدة، من تعرفون هنا قد يبيع الجن؟
- بيرة؟ - سأل أحدهم.
أومأت برأسي. اقترب مني وربت على كتفي، بينما كان رباط الأخوة ما زال يجد طريقه في قلوب الآخرين المتابعين بتحفظ، وصف لي طريقًا ملتويًا يمر عبر طريق زراعي ضيق وأماكن مظلمة، لكنه وصفه ببساطة.
- وضحت كدا؟ - سألني بعد أن انتهى.
فقلت له أنني لم أرغب في وصف أبسط من هذا، ضحك وتمنّى لي ليلة سعيدة أيضًا، ثم ذهب مع رفاقه الذين سوف يعاودون مرحهم الصاخب بعد حينٍ على الأرجح. أمسكت في ذهني أول الطريق ثم بسطته أمامي وسرت عليه كما وصف.

مشيت على حافة قناة مائية بحذر متشبثًا بالوصف الدقيق، وابتلعني ظلام.
عند نهاية القناة كان عليّ أن أعرج يمينًا حيث يتوفّر شارع أكثر اتساعًا لا يكلفني مشقة الحذر.
رأيت أمامي نورًا ينبثق من شارع جانبي، آنسني، وفكّرت أنه ربما يكون حفل زفاف. خرجت من جوف الظلمة وعند المفترق نظرت يَمنة ويَسرة، واكتشفت أنه بوابة سرادق عزاء؛ حيث هناك فارق طفيف بين زينة حفل الزفاف وأضواء سرادق العزاء. عدت إلى الخريطة في ذهني ولم يكن علي اختيار أحد الشارعين، بل يجب عليّ فقط اجتياز الطريق بطوله. كان للمقرئ صوت جميل وحزين بما يكفي، لكنه بعث فيّ القلق من شيء مجهول. عند نهاية الشارع فوجئت بساحة كبيرة تضيق بالمعزّين، وحركة نشيطة بين الوافدين والمُغادرين، وسلامٌ لا يكف بالأيدي والعناق عند مدخلها. كانت الساحة عارية، لا يغطّها سوى سلاسل المصابيح بين أزواج من الأعمدة الباسقة، مكتظة بالكراسي الممتدة في أزواج من الصفوف المتقابلة، لمحت أبي على أحد الكراسي ممسكًا مسبحة، حينها وجدت أنه يجب عليّ أن أؤدي واجب العزاء كما يفعل الرجال في مثل هذا الظرف، كنت أرتدي شورت وشبشب. وقفت في نهاية طابور الوافدين وتبعت حركتهم البطيئة نحو مُستقبلي العزاء، وحينما أصبحت في مواجهة ابن المرحوم، قبضت على يده وتمنّيت للفقيد الرحمة والصبر على رحيله، قلت ذلك بصوت عالٍ مكلوم بحيث أنه كان في نفس مستوى صوت المقرئ الحزين، وبدا أنّ كلماتي كان لها صدىً أبعد من الحزن في نفس ابن المرحوم، حيث أنه انتبه لي بشدة مضيقًّا ما بين عينيه الحزينتين، ونظر إلى ساقيّ العاريتين.
على مسافة أربعة كراسي مني اشرأب أحدهم برأسه قائلًا:
- أيوه كدا يا أحمد، ربنا يهديك
ورجع إلى موقعه حيث اختفى بين صف الرؤوس كأنه لم يكن. لم أفهم رسالته، نسيت موقع أبي، وبدأت أشعر بعدم الراحة، وتساءلت "ماذا إن كان صاحب الرسالة الغامضة هو أبي؟"، شعرت بالضجر وغادرت بسرعة العزاء عائدًا لخطّتي الطموحة؛ شراء زجاجة جن. كان صدى صوت المقرئ هو ما بقي معي من المأتم وأنا أسير في شارع بالكاد يصله شيء من وهج المصابيح البعيدة. وقبل أن أخرج منه، استوقفني صوت مألوف:
- استنى يا أحمد
نظرت خلفي، وبسبب العتمة، رأيته أجزاءً غير مترابطة؛ جزء من الرأس وساقه اليمنى فقط، وحينما اقترب مني ظهرت ابتسامة ثم رأس صلعاء يلمع قوسها الخارجي. أصبح في مواجهتي هذا الشخص الغامض.
- نعم؟
- نوّرت
- متشكر، مين حضرتك؟
- مش عارفني؟
- معلش مش واخد بالي، مش بنزل كتـ...

قاطعني، وقد تبدلت نبرته:
- انت مشيت بسرعة ليه وازاي تعزّي بشورت؟ دا ذوق؟
- معلش أنا آسف بس عندي مشوار مهم... انت مين؟
انطفأت أضواء المصابيح، وصار صوته هو الدليل الوحيد على وجوده.
- يعني لا عندك ذوق وخمورجي، وكمان مش عارفني!
- حضرتك مين؟
صفعني على وجهي، وانقطع حسّه.
صحت لأصحح إحدى غلطاتي التي أغضبته: "بابا"، وأنا لست متأكدا من شخصه.
شعرت أن سرّي الذي أخفيته طويلًا قد افتُضِح الآن أمام أبي، وأمام الجميع.

وقفت في الشارع تائهًا في ظلمته، كنت خائفًا، وتلاشى تفكيري في زجاجة الجن، صرت خجلانًا من الشورت والشبشب، وأخشى أن أخرج بهما إلى الطريق ويراني الناس. كنت غارقًا في أفكاري وشكوكي حتى أمسكَت يد بساعدي وسحبتني معها، لم أسأل، ولم أستبين شخصية من يسحبني، توقّعت أنه أبي أو أنه من طرفه، فامتثلت لعقابه.

وجدت الساحة تعج بالناس وقد امتلأت عن آخرها، نظروا إليّ وإلى الشورت والشبشب، شعرت بالعار ينصبُّ على رأسي منصهرًا، وبحثت بطرف عيني عن الرجل الأصلع بينهم، فوقعت عيناي على ثلاث صُلع؛ تجمعوا حولي، وتحدّثوا إليّ، كانت لكلماتهم وقع المواساة. أجلسوني في مقدمة الصفوف بجوار المستقبلين. كان صوت المقرئ حزينًا كما هو، وأكثر بُطئًا، وأنا لم أفهم شيئًا مما يحدث، وقد عاودتني زجاجة الجن كفكرة مُخلّصة.

الثلاثاء، 26 أبريل 2016

المِرآة


(إلىّ، مِن صاحب اليمامات البِيض)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نبَتتْ بِداخِلي زَهرةٌ جَميلَة

كانَتْ تَكْبُر

حتّى أَصبَحَتْ أَكبرَ منِّي

فاقتلعتُها

ورَميتُها حيثُ لا أراها مُجدّدًا

الآن أنا مُستَريح

لأنّ صَدْري مُقْحَلْ

..........................


كُنتُ أَظُنُّ أنّني غَير مَوجُودٍ،

لَيسَ لي جَسَد،

حتّى نفخَ فِيَ رّبُّ اليَماماتِ البِيض

مِن رُوحِه

فأَصبَحتُ مَوجُودًا

ولِي جَسَد

لَكِنّي رأيتُ في المِرآة

أنّي حقيرْ

الاثنين، 25 أبريل 2016

صورة في البُحيرة

بعدَ حادِثةِ احتراقِ وجهِها

تزيّنتْ، وجاءَتْ لِمَوعدِنا الغرامِيِّ

تظَاهرتُ بأنَّ لا شيء قد تغيّر

أشَحتُ بوجهِي بعيدًا

عندَ البُحيرةِ السَّاكِنة

وأنا أُحدّثُها عن مَقطوعةٍ

نَسيتُ اسمَها لمُوزارتْ

أَخبرتني فِيما بعدْ

أنَّها كانت تتأمَّلُ حَرقَدَتي

بينَما أتحدّثُ عنِ المَقطوعةِ المَنسيَّة

قُلتُ لها: زِينتُك جَميلة.

لمْ تبكِ أبدًا وأنا أُخبرُها أنَّ زينتَها جميلَة.

الثلاثاء، 19 أبريل 2016

الأدب في خطر

My rating: 2 of 5 stars


يناقش هذا الكُتيّب موضوعًا حسّاسًا يمسّ صميم -لن أقول دراسة، فهي كلمة بغيضة، ولكن- التعامل مع الأدب، لا أعرف يقينًا ما الذي يجري في أروقة الكليات الأدبية (المُنتِجة للنظرة الأكاديمية)، لكني متأكد أن الأمور ليست على ما يُرام. في رأيي أن هذا الموضوع سيُثار دومًا طالمًا وُجدت هذه الهوة السحيقة بين ما يُسمّى "أدب النخبة" و"الأدب الشعبي" أو "أدب العامة". حيث هناك أدب المتخصصين المشتغلين أكاديميًا في مجال الأدب، الذين يرجحون أسلوب العمل الأدبي على موضوعه (الشعر بالتحديد)، وبين الذين يتنازلون عن مزايا الأسلوب الناضج لصالح الموضوع وحده، وكأن السّجال الدائر بين الفريقين يحتّم على كليهما الانضواء تحت رايته دون الأخذ في الاعتبار ما للفريق الآخر من مزايا. ذلك على وجه التحديد هو ما أوصلنا لمنطقة معزولة بين الطرفين تتطلب بشكل عاجل، نوع من الأدب يراعي فيه نضوج الأسلوب، حيث ذلك أمر لا يمكن التفريط فيه تحت أي ظرف مهما وصلت معه الحكاية. الأسلوب هو طريقة الأديب في التعبير ومن ثم مرآة صدقه، ولأن الرواية الجيدة هي رواية حقيقية واقعية (مهما وصلت غرائبيتها)، فلا يجب التفريط في الأسلوب. يأتي بعد الأسلوب الموضوع، ولأن الموضوع يمس ذائقة القاريء وعاطفته وميوله، فلا يجب أيضًا تحديد هذه المنطقة بحدود، ويمكن للكاتب أن يكتب عن أي شيء، إنها المنطقة الحرة، هي ممثلة "الحرية" في عالم الأدب. فكما كان يجري في الأنظمة الشمولية من تحديد للأطروحات والمواضيع الفنية والأدبية بغرض خدمة شموليتها ويوتيوبيتها، فلا يجب ممارسة هذا الأمر في المجتمعات الحرة الديمقراطية، حتى أني أجد مناقشة موضوع الرواية هو نوع من التجريح في حرية الكاتب وفي ذائقة آخرين طالما التزم الصدق المطلوب في العمل الجيد. كل ما نملكه هو تناول أسلوب الكاتب، وبحث ما إذا وصل بأسلوبه إلى الحقيقة والواقعية المنشودين، أم أنه يبتذل ولا يصدق نفسه وفنه ويرجو من الآخرين تصديقه، هؤلاء في الغالب يراهنون على الفريق الذي يرجح الموضوع على الاسلوب، وهؤلاء لديهم بالفعل قائمة بالمواضيع المفضلة التي يحبون القراءة عنها، وهذا مفهوم من ناحية أنهم يتمتعون بنوع من الكسل الذي لا يعرف متعة الاكتشاف، وليس لديهم الإيمان الكافي بأن الأسلوب له فعل السحر على تطويع أي موضوع أيًّا كان.
عمومًا أرى الفريق الأول يحفظ بعض ما تبقى للفنون السردية من مجد، في حين يحفظ الفريق الثاني ما للشعر من صدق وموضوعية.
أراه شيئًا مثيرًا للسخرية أن أجد بعض مواضيع الكتاب صعبة على الفهم ومعقّدة، وكأنها تتوجه إلى النخبة التي تنتقدهم.

فقه اللذة والبائيّة والحائي

My rating: 2 of 5 stars


هذا الشعر بالنسبة لي، هو قنبلة من الألفاظ، تترك أثرًا عميقًا في مستودع ألفاظي، ومن ثم في طريقتي في التعبير عن نفسي، وهذا مهم، بل رائع أحيانًا. لكن الوجدان فيه بلا موقع تقريبًا، أي أننا أمام معجم أكثر من قصيدة شعر. لذلك أحب قراءته على صوت الموسيقى حيث إنها تعوّض هذا الجفاء الوجداني، وتمهد الطريق لألفاظه أن تصير مألوفة.

السراية الخضراء

My rating: 5 of 5 stars

هناك طريقة لطيفة أتبعها لتسهيل التعاطي مع الحبكة ودراستها، وهو تحويلها لرسم بياني بين الشخصيات والزمن، حيث تمثل القفزات في المنحنى مقدار الطفرات في الأحداث، فيمكننا اعتبار ميل الشخصية على الزمن هو الحدث نفسه، وبهذه الطريقة يمكننا تتبع الأحداث وتطورها وعلاقتها بالشخصيات وتزامن التطور لكل شخصية مع الأخرى في مرحلة زمنية ما.
طبعًا هذه الطريقة لا تقيس قوة الحبكة وإلا كانت إهانة للأدب، لكن فقط دراسته.
لو رسمت منحنى الحبكة لهذه الرواية ستجد انحناءات وطفرات كلها في مدى زمني قصير، فيها من التكثيف والتركيز شديد الدهاء بما تحتويه نوفيللا بهذا الحجم الصغير، كل قفزة في المنحنى تمثل اندهاشة غير متوقعة، لتنتهي الرواية عند حد من الدهشة، تجعلني أعجب من مقدرة ماشادو دي أسيس على اتخاذ قراره المبكّر بالتوقف هنا، عند الصفحة 55، لأنها فقط اكتملت، هذا رجل لا يضعف أمام الحشو، والأماني الكاذبة أمام حجم الرواية، ولكن واضح، وأستطيع أن أشعر بذلك، إلى أي مدي شعوره باللذة بعد أن أهدى روايته تلك نقطة النهاية. هذه رواية عبقرية في أسلوبها الساخر وكأنها تؤكد لي من جديد على أن الساركازم في الأدب ربما هو معادل لعظمة النص، بما يحتويه من نقد بليغ قصير وخاطف، مما لدى أديب حقيقي يتمتع بهذا القدر من اللماحية والذكاء وسرعة البديهة. رغم أنها كُتبت في فترة مُبكّرة نوعًا إلا أنّها رواية متقدمة جدًا، بالنسبة لي تحتل موقعًا مميزًا في أدب الواقعية السحرية.
ختامًا، شكرًا للعزيز هاني عبد الحميد، فمصادفة من نوعٍ ما لم تكتف بصديق نبيل وحسب، بل أيضًا بصديق يتمتع بذائقة أدبية رفيعة.

الجمعة، 12 فبراير 2016

إعدام قاسم

في اليوم الذي سبق إعدامه طلب قاسم من القاضي أن يرى حفيديه، كانا يافعان، لهما نفس الطول وملامح الوجه، حيث أنه أنعم النظر في أحدهما -ماجد- مقتنعا أنه بذلك ينظر في الوقت ذاته إلى الآخر -عصفور- الذي كان مشغولا بأكل العسلية، بكى قاسم من خلف القضبان، لم يجد أفضل من أن يخبر ماجد أنه بريء، شعر أن ذلك واجب عليه قبل موته كأنها تركة لزم تسليمها إلى أحفاده، ربما لو لم يُحكم عليه بالإعدام لأخبرهما ببراءته تلك بنفس الحماس، فهي تتيح له مقدارا كبيرا من الخطابة التي يحبها. قال ماجد: وأخي؟
مسح قاسم الدموع من جفنيه وقرر أن ينظر لحفيده المجنون الذي لم يكن يشعر بشيء من حوله، ولا أن جده سوف ينمحي وجوده من العالم بشكل نهائي غدا فقط، لم يكن يدرك كل هذه الأمور المعقدة، فقط العسلية.
بعد أن جفف قاسم دموعه، سأل عصفور إن كان يعرف أن جده بريء، واستخدم ضمير الغائب كإحدى حيله في الخطابة وتسليط الضوء على نفسه بتواضع. قال عصفور: أعرف كل شيء.
قال ماجد لجده:
- إنه لا يريدك أن تقاطعه وهو يأكل.
سأل الجد:
- هل هناك ما يكفي من العسلية؟
- نعم.
- وأنت.. أعتقد أنك تعرف كيف تسيّر أمورك؟
- كل شيء بخير يا جدي
- أتعرف، أرى الحياه بشكل مختلف عما قبل، والجيد أنها ستنتهي غدا، إنها لحظة مكثفة   يا ولدي من البراءة، أتمنى أن تشعر بها. لكن بلا إعدام، بلا أية إعدامات.

ثم بكى، وكان بكاءً مصطنعًا، حيث أن التكثيف بدا وكأنه يعود للتبخير مجددًا، والمجانين يشعرون بهذه الفروقات الطفيفة، فقال عصفور متأففًا:
- أريد أن أعود لمنزلنا
سارع قاسم في تجفيف جفونه، والتقط رأس عصفور وقبلها بشكل درامي مُبالغ، حتى انفرطت حبات السمسم من بين أصابع عصفور، وكان هذا هو المشهد الذي اختتم به لقاءه الأخير مع الحفيدين.
جاء الشرطي بإشارة من قاسم، حيث أُخبر بمنحه حرية غير مشروطة للقاء أحفاده، صفد يديه وخرج به، اكتفى ماجد بتوديع جده بنظرات مؤثرة، في حين لم يتغير موقف عصفور.
في طريق العودة، أراد ماجد أن يناقش موضوع العسلية في شيء من الحزم؛ قال لأخيه:
- ألم أخبرك أن العسلية مُضرة، ستسمن.
فلطمه عصفور على وجهه، ثم أخذ برأسه يغربلها، كأنه ينفضها من هذه الفكرة، صرخ ماجد محاولًا التفلّت من بين يديه:
- طيب، طيب يا بغل.
في اليوم التالي طُلب منهما حضور إعدام جدهما، كانت الفكرة مرعبة، ليس لارتباطهما الواهي بجدهما المجرم، ولكن لأن فكرة مشاهدة أحدهم يموت، كانت تفوق احتمالهما، لكن كان عليهما الحضور، فذلك هو طلب جدهما الأخير، والذي لن ينفّذ فيه حكم الإعدام بدونه، لذلك فإعدام جدهما يتوقف على حضورهما. لذا فقد ذهبا.
توقفا أمام منصة الإعدام، وتلا ضابط سجل تهمه:
"قتل عاملين بمصنع الزجاج/ سرقة رواتب العاملين بمصنع الزجاج/ اغتصاب فتاتين قاصرتين/ إتجار بالمخدرات..."
واستمر في تلاوة باقي سجل إجراماته، في حين كان قاسم يقف منتصبًا مشدودًا كالوتر.. أدار رأسه المغطاة بكيسٍ قماشي أسود إلى الجهة اليسرى حيث وقف حفيداه، لم يكن عصفور يأكل العسلية، حيث مُنع من الدخول بها، باعتبارها مواد غير لائقة في حضور لحظة الإعدام، وكان الشرطي الذي جرده منها يضحك لغرابة الموقف؛ أن يأكل عسلية وهو يشهد إعدام جده.
بعدما فرغ الضابط من تلاوة سجل إجراماته، صاح قاسم قائلًا: "جدّكما.." إلا أن العسكري لم يمهله حتى يكملها فنُفِّذ فيه الحكم بالإعدام، وهوى مُعلقًا من رقبته يتأرجح.
خرجا الأخوان، وبمجرد أن استلم عصفور عسلياته، حتى بدأ في التهامها، طلب منه أخوه واحدة، لكنه كان يفكر بأسى في جده الراحل، حتى انتُشل من تفكيره العميق بجذبة من يدي أخيه تغربل رأسه وهو يُعنّفه:
- ستسمن، ستسمن.
شاهد الضابط ذلك ولم يستطع منع نفسه من الضحك.

الأحد، 17 يناير 2016

المسخ والمخاض

هذا يحدث عادة.. أن أصير غير مرئيٍّ، وأنا في الغالب لا أصير غير مرئيٍّ بإرادتي، وإنما هو شيء يفوق الإرادة، بحيث أنه شيء أشبه بالمخاض، بقوة دفعه وألمه وقوته المصيرية.
بالأمس عرفت أن ابن عمي قد زارنا وأنا موجود في البيت، وجد الباب مفتوحًا لأن أمي غالبًا ما تترك الأبواب مفتوحة حينما تخرج تحسبًا لتحولي، لكن هذه المرة بالذات اخترت اللامرئية بإرادتي الحرة دون أية آلام، بل كانت التجربة لطيفة. جاء ابن عمي هذا، ولما وجد الباب مفتوحًا ولا أحد في المنزل، دخل وأعدّ لنفسه فنجان قهوة، وجلس يشاهد التلفاز إلى حين عودة أحدنا. نعم نادى باسمي، لكني كنت قد تحوّلت، منذ تلك اللحظة التي سمعت فيها دبيب أقدامه تخطو نحو باب المنزل، ذهبت إليه، وبطبيعة الحال لم يرني، نادى عليّ مرة أخرى مُشرئبًا ناحية باب غرفتي المفتوح، فرفعت عنقي إليه ناحية أذنه وقلت "نعم"، لم يسمعني، نادى مرة أخرى، فصنعت من راحتي يديّ مكبرًا للصوت، وقلت "نعم" بصوت لا أجرؤ على رفعه في حالتي المرئية.
بعدما لم يجد مجيبًا، جلس يحتسي القهوة ويشاهد التلفاز، ثم تابعت طريقي إلى الحمام وأنا أضحك. أستطيع أن أتحول إلى اللامرئية، لكن هذا لا يعني أن بولي يتحول معي، لكنه يحتفظ- رغما عني- بقوامه كاملًا، وإثر ارتطامه بقاعدة الحمام، أحدث صوتًا، كتم ابن عمي صوت التلفاز ليُرهف السمع، ثم نادى عليّ مرة أخرى، فصحت من الحمام: نعم.
لم يسمعني، فكنت أضحك وأنا أتابع التبول الذي استمر أطول من المعتاد نظرًا لاحتباس البول في الفترة التي استغرقتها في التحول. كان قلقًا طوال الوقت، وللمصادفة، قرر أن يرحل في اللحظة التي مررت به عائدًا من الحمام. ظننت أن ذلك شيء مضحك فاكتفيت بالابتسام وأنا أتابع عملية رحيله؛ حمل حقيبة ثقيلة، أطفأ التلفاز، ثم غادر بعد أن ألقى نظرة خاطفة ناحية ستار الحمام، ثم أغلق الباب خلفه. حملت فنجان القهوة ووضعته في حوض المطبخ، فقط لتبدو الأشياء على طبيعتها. في اليوم التالي أبلغتني أمي بحضوره. هي لم تخبره أنني كنت متحولا إلى الصورة اللامرئية، وإنما قالت "لا أعرف" بطريقة مستهينة، هذه هي طريقة أمي في غلق المواضيع الشائكة، فأخبرها أنه سيعاود الزيارة مجددًا في عصر ذلك اليوم.
أغلقت أمي نافذة غرفتي وخرجت، وكانت على وشك أن تقول شيئا، حيث أن غلق النافذة جاء بشكل ارتجالي تقريبا بلا تخطيط، لكني عرفت أنها تود أن تقول لي: لا تتحول. لكنها لم تجد الصيغة المناسبة لذلك. ربما كان فقط عليها أن تقول: "لا تتحول بإرادتك"، لكن من الواضح أيضًا أن هذا مُهينًا لكلينا، فاكتفت أمي بغلق النافذة بشكل مُحبَط.
حين جاء ابن عمي أراد أن يجعل من هذا الحادث شيئًا مضحكًا، جلست إلى جواره وحاولت أن أضحك، لكن صوتي لم يكن مسموعًا، كنت أخرسًا، وعندما تحدث عن صوت الماء في الحمّام، جاءني المخاض لأن الضحك كان مكتومًا أكثر من اللازم، كانت أمي تتابع بقلق، حيث كان عليها أن تضحك وتتابع تحوّلي معًا، أعرف أن ذلك أمرًا شاقًا، لكن ذلك لم يكن شيئًا بجوار آلام المخاض، حيث دُفعت إلى الحالة اللامرئية رغمًا عني، وحين أتممت التحوّل، كان ابن عمي يقول أنه خاف أن يقترب من الحمام فلم يُعِد فنجان القهوة إلى المطبخ، وجدت أن ذلك أكثر شيءٍ مضحك، فقهقهت بأعلى صوتي ممسكًا بطني من ألم الضحك، بعد أن خرج ذلك الجنين العملاق من فمي.

الأحد، 3 يناير 2016

أعظم استعراض فوق الأرض

My rating: 4 of 5 stars

بعيدًا عن النبرة المُتسلّطة لدوكنز، ورغبته الزائدة عن الحد في اعتراف الجميع بالتطور، إلا أن تفويت كتاب مُبسّط عن التطور مثل هذا الكتاب خسارة كبيرة، فليس فقط الطريقة البديعة التي يمارس بها التطور سلطانه هي محفّز قوي للقراءة عنه، لكن أيضًا هناك كم مدهش من المعلومات التي تم إهمالها بجُرم أنها معلومات تطورية.
أيضًا كون هذا الكتاب هو المدخل الأول الحقيقي لي في هذا العلم، فقد بدأته متحفّزًا بأسئلة ظننت أنها مُعجزة ، لكن مع الوقت أدركت أن مثل هذه الأسئلة ليست مُعجزة كما ظننت وإنما هي نتاج جهل وعدم معرفة لا أكثر، وفي المقابل تظهر أسئلة أخرى أكثر نضجًا لن يجبّها سوى معرفة جديدة بالطبع، وهكذا فإن التنطع والمكابرة أحيانًا الذين يقابلهما التطور يكون في الغالب من جهل وقلة معرفة مدعومًا طبعًا بالنعرات العقائدية الجاهزة دومًا بغض النظر عن أي معرفة مطلوبة. فمثلًا سؤال مثل "إن كنّا قد تطورنا من الشامبانزي، فلماذا إذن لازال هناك شامبانزي لم يتطور؟".. أعتقد بعد قراءة هذا الكتاب يجب أن أقلق على كل أسئلتي التي أظن أنها مُعجزة!
إذن لماذا التطور مُدهش؟ التطوّر ملموس في كل شيء وأعتقد أن التطور البيولوجي هو أحد صوره، هذه فكرة راسخة طبعًا لا تحتاج نقاش؛ فكرة اتجاهنا نحو التطور أو أن عجلاتها ستفرم من يعارضون قانونها. لكن صور ممارستها أيضًا يجعـ... مثلًا هناك الحشرات التي تنتخب أزهارًا معينة فقط لأن لونها أو رحيقها متوافق مع مزاجها، هي بذلك تعمل على تدجين الأزهار باختيار تفضيلات معينة، يقول دوكينز أن الأزهار التي نستمتع بجمالها ورائحتها الآن هي في الأصل نتاج انتخاب الحشرات لها، ومن حسن حظّنا أننا والحشرات نتشارك نفس المزاج الجمالي! هذه العملية لا تختلف كثيرًا عن التدجين الاصطناعي الذي يقوم به البشر للأبقار والكلاب لتكون أكثر ملائمة لحاجاتنا اليومية والترفيهية.. هذه من أكثر الصور البديعة في العلم والبيولوجيا، بإمكانها أن تفسر سبب شغفي بالعلم، في الحقيقة أنا أبحث عن مثل هذه الأشياء المدهشة، والعلم حقًا حقًا مدهش بما فيه الكفاية.
المثال أعلاه هو مثال عمّا يُسمّى بالتطور المتشارك، وهو يتم بالتشارك بين نوعين مختلفتين في علاقة نفعية متبادلة، فالحشرات تقدم وسيلة "مواصلات" ليست مجانية لنقل حبوب اللقاح، وفي المقابل فالأزهار تقدم الرحيق المطلوب لنقل هذه "البضاعة"، ليس هذا فحسب، ولكن هناك "عقلانية" في إدارة هذه العملية ربما نحن البشر لن ننتبه إليها بسهولة؛ وهي أن الأزهار تقدم كمية محسوبة فقط (ليس وجبة كاملة من الرحيق)، فبهذه الطريقة تضمن ألا تشبع الحشرات فتبحث عن زهورٍ أخرى، وبذلك تضمن وصول حبوب اللقاح لمستحقّيها!.. كل هذه الدقّة.
وهناك أيضًا التطور بالانتخاب الجنسي وهو الذي يتم عن طريق انتقاء الإناث (غالبًا الإناث) لذكور لهم مواصفات السوبر ذكر، وبذلك فهي تقوم بانتقاء الفرع القوي، أما ما دون المواصفات، فإن عجلة التطور كفيلة به!
(مثالين عن هذا النوع من الانتخاب.. واضح إني مهتم بالموضوع من فترة!..:
https://goo.gl/jt3eYg
https://goo.gl/zJ5Ob7

أما الانتخاب الطبيعي، فهو يتم بين الفريسة والمفترس، مثلًا؛ هناك نوع من الأسماك القابعة في قاع البحار المظلمة، تصطاد فريستها عن طريق إنارة بيولوجية مُعلّقة فوق رأسها، ونوع من الطعم تظهره لفريستها، بالطبع الفريسة تنجذب للمفترس الذي لديه أدواته الأقوى فبالتالي –وبلا وعي- تنجذب نحوه، لتكون هي السبب المباشر لبقاء هذا النوع الأقوى، أي أن الفريسة بشكلٍ ما تنتخب المفترس!
الانتخاب هو آلية التطور.. والكتاب فيه تجارب ثرية ومدهشة عن "التطور أمام أعيننا" بحيث أننا لسنا بحاجة لملايين السنين لإجراء تجربة عملية للتأكد من التطور، هناك مثلًا السمك الذي أظهر تكوينات لونية على قشرته الخارجية بمجرد انتقاله لبيئة تختلف في تكوين قاعها عن تكوين بيئتها الأصلية لتتجنب أعين المفترسين، تمامًا مثل السحالي التي لها لون جلد مشابه للون بيئتها بشكل عجيب.. هذه مثلًا إحدى صور الانتخاب، فالسحالي التي لم تستطع أن تخفي نفسها عن أعين المفترسين بجلدها ذو اللون المبهر الفاضح، كان مصيرها أن كانت وليمة لمفترسيها وانتهى أمرها، ومن استطاع أن ينجو هو فقط الذي تمكن من المراوغة بلون جلده المُخادع، وهكذا وعلى مر آلاف السنين، تنفصل السحالي التي لها لون جلد فاضح في جانب المفترس، في حين تتزاوج السحالي التي لها جلد مٌموّه لتنجب المزيد ممن لهم قدرات متطورة على التموه، لتكون النتيجة ما نراه الآن من تطابق عجيب بين لون جلدها ولون بيئتها..

في التجربة التي تم فيها فصل السمك عن بيئتة الأصلية (مع توفير مفترس مناسب له) أنتج هذا السمك نفس التكوينات والبقع على جلده بما يُشابه لون وحجم الحصى المستقر في قاع البحيرة الجديدة تمامًا عليه، وأصبح فيما بعد مختلفًا عن أقرانه في بيئته القديمة، فكلٌ أصبح مُتكيّفًا مع الظروف التي وُجد فيها.
في الختام، هذا الفيديو يجمع بين قريبين بعيدين بينهما حميمية مؤثرة. :)
https://www.youtube.com/watch?v=vOVS9...

من المطبخ إلى قسم الطوارئ

منذ بضعة أيام( يوم السبت 27 يناير 2024 ظهرًا) جُرِح إصبعي البنصر (الإصبع قبل الأخير) لليد اليسرى جرحًا خطيرًا أثناء غسيل طبق صين...