السبت، 9 نوفمبر 2019

المتحولون

(1)
عزيزتي رائحة كريهة
لا أصدق أنكِ اشتريتِ الجناح الذي تمنيتهِ كثيرا معي ولا أصدق أنكِ خنت عهدنا أن تبيعيني الجناح القديم، أنا أيضا أفكر أن أصير بجعة، لكنك تصرين أن بطريق أنسب لي. عمومًا أنا سعيد لك وإن كنت أعتقد أن السيد قشطة يستحق منا ما هو أفضل، يكفي أنه أطلق عليكِ رائحة كريهة.
(2)
عزيزي وجه الخراء
هل تأتي معي في رحلة؟
بالمناسبة سيد قشطة صحته بخير وأنا أعتقد أنه تحسن أكثر منذ أن اشتريت الجناحين،
عموما أنا الآن أحلق عند دائرة عرض -١٥٫٥٠٧٩٧٢ وخط طول ٥٠٫٠٨١٢٣٣
إن أحببت أن تطير معي.
وبخصوص الجناحين القديمين، هما في الصيانة.
بالمناسبة هل تحوّلت إلى بطريق؟ لأني أعتقد أنك لن تكون مستريحًا، وبصراحة بجعة أفضل كثيرًا. اسأل مجرب يا حبيبي.
عموما عندما تتحول تأكد من سلامتك الصحية، لأني أدركت أن مرضا تافها قبل التحول سيبقى مزمنًا بعده، والإمساك الذي كان يصيبني وأنا صرصارة أصبح مزمنًا معي الآن ولا أستطيع التخلص منه ربما هذا سبب رائحتي الكريهة. هل ترسل للسيد قشطة سلاماتي؟
شكرا لك
المخلصة
رائحة كريهة.
(3)
عزيزتي رائحة كريهة
أنا الآن في المواصلات. وبالمناسبة أنا على بعد ربع دائرة عرض منكِ الآن (في حالة أنك مازلت عند نفس النقطة)
تقولين أنكِ تعانين إمساكًا مزمنًا؟ قلبي معك.
لا، لن أتحول الآن قبل أن أُشفى من الزغطة.
عزيزتي اعذريني هل جئتِ بالأمس بجوار غرفتي، أشعر أني شممت رائحتك؟
(4)
عزيزي وجه الخراء
نعم مررت بها، وضعت بيضتين، لا أعرف من أين جاءوا. أن تصير بجعة، هذا أمر مثير للريبة، أقسم لك أنني لم أنخرط في رقص البجع فأنا لا زلت أتعلم، ناهيك عن أن الإمساك ليس اجتماعيا تماما. ألا تظن ذلك؟
كل الحب.
(5)
عزيزي وجه الخراء،
مرَّ أسبوعان لم تصلني فيهما رسائلك. أرجو أن تكون بخير.
لك مني كل الحب والشوق.
(6)
عزيزتي
لا أصدق أنكِ وضعتِ بيضتين، لقد حطمتني بهذا الخبر.
(7)
عزيزي أقسم لك أنني لم أنخرط في أي مهرجانات للبجع.
أنا صحيح بجعة لكن هل تظن أني نسيت أني في الأصل صرصارة.
أحبك ولا تكن قاسيا.
(8)
عزيزي،
مر شهر منذ رسالتك الأخيرة. تقدّم لي بجع يريد الزواج مني، لا يعرف أني كنت صرصارة.
أعيش في وحدة محطِّمة. سوف أتزوّجه. اعف عني إن كنت تقرأ رسائلي.
المحبة دائما
(9)
عزيزتي
مات السيد قشطة، أخبرته ببيضاتك، ولم يصدق مثلي. أعتقد أنه مات بحسرته.
هل تزوّجتِ حقا؟
(10)
عزيزي
انفطر قلبي على موت سيد قشطة.
بالمناسبة فقس البيض وخرجت صراصير. هجرني زوجي لأنه كشف أمري.
كل ذلك كان غلطة يا عزيزي. لِتبق سحلية، لأن هذا أفضل من أن تكون بطريقا أبا لسحالي.
(11)
عزيزي عم وجه الخراء
أنا أبو رجل محروقة، أنا ابن رائحة كريهة، قرأت أنا وأخي رسائلك إلى أمي،
يؤسفنا أن نخبرك أنها ماتت منتحرة.
(12)
عزيزي أبو رجل محروقة،
يا حبيبي جعلتني أتعس سحلية بهذا الخبر، بكائي لن يتوقف من الآن.
هل أنتم بخير يا أحبابي؟
يا حبيبي من أطلق عليك أبو رجل محروقة هذا، هل أنت بخير؟
(13)
عزيزي عم وجه الخراء
أنا بخير، أخي اسمه ربع شنب. 
حدث ذلك في ليلة واحدة، عندما أمسكنا بشريٌ ولعب بنا بالولاعة والمقص.
وقد أطلق علينا عم عنكبوت هذين الاسمين.
(14)
عزيزي أبو رجل محروقة وربع شنب.
إن حالكما أشبه بأمكما المسكينة.
من أبوكما؟ هل تعرفتما عليه؟
لأنه يجب أن يحمل عنكما بعض المسؤولية.
لا تتحولا أيّا ما حدث لكما.
كل الحب
(15)
عزيزي السيد وجه الخراء
أعرفك بنفسي؛ أنا السيد رؤوف/ ميكانيكي أجنحة، أرسل لك جناحين انتهينا من صيانتهما في وقت قريب وقد أوصت صاحبتهما/ السيدة رائحة كريهة أن أسلمهما إليك قبل واقعة انتحارها، والله لو عرفت نواياها لكنت على الأقل بلغت الشرطة، لكن الله يعلم بأي مصيبة ابتُليت المسكينة.
كانت أوصتني أن أحولهما لجناحي بطريق، حاولت ذلك بالفعل لكن الجناحين خفيفين للغاية، وأنت لا تريد أن تكون بطريقاً بجناحين خفيفين، لي ابن أخ ركب رأسه وتحول إلى بطريق بجناحين خفيفين، وهو الآن لا يكاد يتعثر حتى يسقط على وجهه ولا يستطيع الوقوف من دون مساعدة.
أفضل ما استطعت القيام به هو تحويلهما لجناحي نعامة، أضمن لك تحولا سعيدا بهما.
لك مني كل الاحترام
ميكانيكي أجنحة/ رؤوف أبو قيئة
(16)
عزيزي السيد رؤوف أبو قيئة
وصلني الجناحين، شكرا لأمانتك.
نعم صدمنا خبر انتحار السيدة رائحة كريهة.
لقد غيرت رأيي بشأن التحول، أريد أن أبقى سحلية، وإن كنت أفكر في التحول إلى ثعبان، قد تكون عواقب التحول في هذه الحالة أيسر، فإن لي أصدقاء من الثعابين، لن يتبرؤوا مني لو عرفوا أصلي.
اسمح لي أن أفاتحك في أمر؛ لطالما تشاركنا ألم موت السيدة رائحة كريهة، فليس أشك في نبلك وحيوانيتك.
ربما تعرف ابنيها: أبو رجل محروقة وربع شنب.
المسكينان يعانيان أمرّ ما في الحياة، تخيل أن بشريًا قام بحرق رجل أبو رجل محروقة، وقص شنب ربع شنب؟!
يعلم الله في أي بلاعة هما الآن.
إني أسمع بكاءهما في كل مرة أشم فيها رائحة كريهة، ولا أستطيع مقاومة بكائي، وهذا ليس قليل على ما يحوم حولهما من مآسي.
إني أرجو منك وكلي أمل في شهامتك وشجاعتك أن تنقذهما مما هما فيه.
ربما ترسلهم إليّ وأنا أعتني بهما.
وأنا أرسل إليك الجناحين هدية مني إليك، إن شئت تعطيهما لابن أخيك البطريق وتخلصه من آلامه.
قلبي معه.
كل التحية والتقدير لشخصكم الكريم
المخلص لك، وجه الخراء
(17)
عزيزي السيد وجه الخراء
إن كلامك هذا ينطلي على نبل حيوان أصيل، وأشكر توسمك فيّ مثل نبلك.
لكن يؤسفني أشد الأسف أني لا أستطيع، فأنا قط عجوز يعاني رهاب الصراصير من الدرجة الأولى، ومجرد الاقتراب من أحدهم قد يكون عواقبه وخيمة لكلينا (أنت تفهم بالتأكيد)، ومع ذلك سأتواصل مع ابن أخي، لكن ربما سأنتظر تحوله إلى نعامة بفضل جناحك الذي أهديتني إياه (لا يسع شكري أن يوفي حسن صنيعك بهذا الشاب المسكين)، وبمجرد حدوث ذلك سنتابع أمور ابنينا الصرصارين.
لك مني كل الاحترام والود
رؤوف أبو قيئة
(18)
عزيزي عم وجه الخراء
أمسك البشري منذ يومين أخي أبو رجل محروقة وحرق جسده كله حتى أصبح هيكل أسود، وأنا تمكنت من الهرب، لم يستطع أخي الهرب لأنه كان يعرج. أقسم لك أننا لا نؤذي البشري مطلقا ولا نشترك في أي مؤامرات مع أصدقائنا الصراصير.
سألتنا عن أبي في رسالتك الأخيرة.. لم تخبرنا أمي وقد ظننا أن عندك خبر.
أرسل إليك جثمان أخي ليُدفن في بلدة أمي.
كل التقدير
ربع شنب
(19)
عزيزي عم وجه الخراء
زوجني عم عنكبوت ابنته، رحل البشري -على الأرجح في رحلة، واكتسب عم عنكبوت هيمنة واسعة على المنزل وأعطاني صلاحيات، تقويت كثيرا وأصبحت لي قيادة مجاميع الصراصير. جاءني منذ يومين فأر مُنهك وأراد أن أذهب معه، قال إنه من طرفك، لم أصدقه، عجبه المنزل وطلب أن يستقر فيه معي تحت إمرتي، فوافقت.
عم وجه الخراء، الآن وقد هدأت الأمور وأصبحت في صالحي، فإني لأدعوك أن تأتي وتعيش معي وسأوفر لك كل سبيل للراحة.
مع تحياتي/ ربع شنب
(20)
عزيزي ربع شنب،
يا للأخبار الرائعة، سعيد لما آلت إليه الأمور معك، أرسل تحياتي إلى عمك عنكبوت (لكن لا تخبره أني سحلية).
الفأر الذي جاءك كان عليه أن يكون نعامة، أو بطريق على الأقل، لكني أرجح أن عملية تحوله تعثّرت. لكنه على الأرجح من طرف السيد رؤوف أبو قيئة، جاء لينقذك من يد البشري.
سأتواصل مع السيد أبو قيئة بشأن هذه الأمور.
عزيزي أنا لا أستطيع ترك أحوالي وأعمالي وأصدقائي هنا لأسكن تحت سيادة عنكبوت، تصوّر أني جعت مثلًا ولم يتوافر طعام؟ سأسبب لك حرج كبير.
تحياتي إليكم.
وجه الخراء
(21)
السيد وجه الخراء،
بعد التحية، نحن قسم المستنقعات المائية،
قمنا بالقبض على المدعو ربع شنب لتورط مجموعة من الصراصير بقيادته، بنهب مستودع عدد وآلات أجنحة خاصة بالسيد رؤوف أبو قيئة، يبلغ ثمنها ستون ألف زوكر*، وهو الآن محبوس على ذمة ثلاث قضايا: سرقة- الشروع في قتل- تكوين جماعة إرهابية.
نرجو الحضور والمتابعة حيث أن المتهم ذكر أنك ولي أمره.
تحياتي
مدير المباحث الجنائية/ برهان المتين
--
*زوكر: ذرة سكر
(22)
السيد وجه الخراء
يوم أسود هذا الذي جاءتني فيه السيدة رائحة كريهة لإصلاح جناحيها، ويوم أسود الذي قررت فيه إرسال ابن أخي لإنقاذ أقاربك الأوغاد، لقد كونوا عصابة ليسرقوني ويقتلوني. الحمد لله أن الشرطة جاءت في الوقت السليم.
تحيا المستنقعات المائية
تحيا المستنقعات المائية
تحيا المستنقعات المائية
رؤوف أبو قيئة
(23)
عزيزي الرب
أحطني برعايتك إن كنت تسمع نداءاتي الحزينة، ما الذي جنيته لأصبح في هذا الجحيم؟ 
فشلت كل مساعيّ في التحول، في البدء كنت فأرا وحلمت بالطيران وبدلا من أن أتحول إلى خفاش جعلني عمي بطريقًا، وأنت تعرف ما حدث لي. ولم يتوقف عمي بأخطائه عند هذا الحد، كنت له فأر تجارب يفعل بي ما يحلو له تجربته. 
وهاأنذا أعود فأرا مخلصا، نادمًا على ما فات.. لكن كل ما أردته أن أنتقم من عمي لكل ما فعله بي. لكنك تصر على تعذيبي، فأعود إلى هذه المصيدة اللعينة.
أعرف أنك لن ترد عليّ
تحياتي
(24)
عزيزي ماو
توقف فورا عن إكمال هذه القصة، لأنها بدأت تنحرف عن مسارها السحري لتتخذ مسارا أقرب للواقعية، لم يعد سحري فيها سوى الحيوانات المتراسلة، وخاصية التحول.
بدأت القصة بخلق عالم جديد كليا بقوانين جديدة لكن يبدو أن الحال لن يستمر كذلك.
الموقعون:
وجه الخراء
ربع شنب
رؤوف أبو قيئة
(25)
أعزائي
أتفهم هذه المخاوف، وأقدر موقفكم
لكني أرى أن الأحداث قابلة للتغيير، مثلا؛ ماذا عن خطة هرب من السجن.. هاه؟
ثم بعد ذلك تتحول عصابة ربع شنب إلى مجموعة طيور كاسرة تستولي على المدينة، ثم تقتاد البشري الذي بدوره يتحول إلى طير تابع للمجموعة.. هاه، ما رأيكم؟
تحياتي
ماو دو تشي
(26)
عزيزي توقف فورا
هذه حكاية لفيلم مصري هابط.
الموقعون السابقون
(27)
أعزائي، هل بإمكانكم أن تشيروا فقط للجزء الذي تحولت فيه القصة لهذه الحالة المزعجة -الجزء الذي رضيتم بكل ما كُتب قبله؟
تحياتي
ماو
(28)
عزيزي ماو
عندما تزوجت البجعة بدأ يظهر خط يميل إلى محاكاة الإنسان بشكل سهل التوقع، أعترف لك بهذا رغم أني بذلك ألغي وجودي من القصة، مع ذلك كانت في حكايتي بعض النقاط اللامعة التي أحببتها
ربع شنب
(29)
عزيزي ماو
أكمل القصة أرجوك، شنق الفأر نفسه يأسًا من إمكانية خلاصه، أرسل إلينا المُخلّص، نحن نتعذّب من الألم.
ربع شنب
(30)
عزيزي ربع شنب
أُرسل إليك آلة صناعة المُخلّص، فقط قم بشحنها وأدخل فيها بضعة أوامر بديهية مثل جنس المخلص (لا أنصح باستخدام مُخلِّصة وأنتم في السجن) بإمكانك تفعيل أو تعطيل وضح الكتاب المقدس، أنصح بتعطيله لأنك في عجالة من الأمر، وسوف تحتاج مفسرين في حالة تفعيله.
بإمكانك اختيار معجزتك المفضلة كذلك، أنصح أن تكون معجزته تحطيم الجدران فبمجرد أن يخرج من الآلة سوف يستعرض معجزته وتتمكنون من الهرب من السجن.
تحياتي
مؤلفكم المتواضع ماو
(31)
عزيزي ماو
قبل أن نُخرج المُخلّص من الماكينة أراد عم عنكبوت أن يأكل كيكة الذباب فطلبنا ذلك من الماكينة، وعندما خرج المُخلّص كانت معجزته أكل كيكة الذباب، وهو الآن لا يكف عن البكاء لعدم وجود المزيد منها. ما العمل؟
ربع شنب
(32)
عزيزي ربع شنب
هذه ليست ماكينة صنع الكيك، هذه ماكينة عمل مُخلّصين؛ أنت على الأرجح طلبت معجزة كيك الذباب قبل أن تضغط نوع المخلُّص.
افعل الآتي: نفّذ نفس الخطوات في الرسالة السابقة، لكن اختر المعجزة: قتل مُخلّصين. ودعه يقوم بالعمل.
ماو
(33)
عزيزي ماو
أنقِذنا!
طلبنا المُخلّص الثاني من الماكينة وقامت معركة بين المُخلّصَين، يبدو أن كلاهما يريدان فرض نوع من الدين علينا.
ربع شنب
(34)
عزيزي ماو
عقد المُخلّصان مصالحة بعد أن أذاق كل منهما الآخر هزيمة مبرحة وقد انضم تحت لوائهما جماعة من الصراصير انشقوا عني. خرجنا جميعا من السجن. تشترط المصالحة على أن يكملا القصة بدلا منك.
هذه رسالتي الأخيرة إليك، لا يمكنني الإرسال بعد الآن.
المخلص دائما؛
ربع شنب
(35)
بالتوفيق لكم جميعا.
ماو

السبت، 26 أكتوبر 2019

شخصان

    أكره العنصرية، وأمقت من يمارسها، لكني مؤخرًا اكتشفت بداخلي شخصًا عنصريًا، يتحرك بالتوازي مع الكاره للعنصرية الذي أفتخر به، لاحظت أن العنصري بداخلي لا يؤذي أحدًا مطلقًا، لهذا تركته بدون تقويم، بل جعلت أضحك منه ومن عنصريته التي يعتقد الشخص الكاره للعنصرية بداخلي أنها مضحكة أيضًا، ولهذا عاشا متسالمين، واحد يدافع عن الملونين وأصحاب الجنس المختلف ومتواضعي الجمال، وآخر يمارس العنصرية عليهم. لقد أعجبني هذا الخليط. وأنا هنا أقص واحدة من هذه الحكايات:

   صعدت الباص في نهاية يوم عمل، وجدته مزدحم، ولاحظت أن أغلب الجالسين من أصحاب البشرة السوداء الذي يُشار إليهم عادةً -ولسبب وجيه- ب"الأفارقة"، وقفت قليلًا، قال الشخص العنصري بداخلي: "مش ممكن! تبقا بلدنا ونقف في الباصات، وياخدوا أماكنّا السود!"، وأخذت أتشوف أحدهم في انتظار أن يقوم لي لأجلس مكانه، لأنني على الأقل سوف أفتح كتابًا وأقرأ، لهذا فأنا مفيد أكثر منه، ناهيك عن لوني الذي ليس بالطبع أسودًا، وحين توصلت إلى هاتين الفكرتين عضضت على شفتي لأمنع الضحك، ونظرت إليه مرة أخرى لكن هذه المرة معتذرًا.
كنت أقف خلف مقعد يجلس عليه رجل أربعيني ممتلئ وذو جسم عملاق، وبجانبه فتىً أفريقي عاقدًا ذراعيه، يجاهد نفسه للتأقلم في مجتمع قمحيّ البشرة، بأن يكون صامتًا، لكن صمته لم يكن عاديًا، ولكنه صمتًا متكتلًا، مكبوتًا، يرهب رصاصة قد تطاله في أية لحظة، وكان الرجل بجانبه يتحدث بانطلاق وبحبوحة نحو صديقه الواقف بجواره- أمامي مباشرة، وبدا الأفريقي منزويًا أكثر، حذرًا أكثر في صمته، مطيل النظر بلا هدف إلى الشباك الذي لم يشفّ سوى عن ليل قاتم. فجأة وبشكل سحري، تحول كلام الرجلين نحو الفتى الأسود، وسأله في استظراف عن شيء بلا معنى، كان أخرسًا، يقاتل من أجل أن يبدو طبيعيًا، لم ينبس بكلمة، فقط تحرّك حركة بسيطة وهو عاقد ذراعيه لا زال، بدت لي حركته البسيطة هذه أنها استغاثة منه لنفسه بأن يتماسك، ضحكا منه ضحكة متسيّدة، متكبّرة، وهو عاد إلى النظر عبر الشباك الزجاجي، وحاجباه بالكاد مقطبين، أراد أن يرسم بهما وجهًا نافرًا، لكنهما لم يخفيا شعوره بالهلع من هذا الاحتكاك المباشر مع القمحيين. قررت في سريرة نفسي أن أشتبك مع هذين القمحيين لو عادا الكرّة مرة أخرى مدافعًا عن الشاب الأسود، وهم لا يزيدوني وفرة في الجسم أو القمح. لكنهما لم يعودا، وأخذا يتسامران بعيدًا عنه، كالذي يلقي فتات خبزٍ لعبدِ، في دعّة من وضعيهما.

الاثنين، 14 أكتوبر 2019

الغريب

      كان يريد أن يحوز الأفضل من كل شيء حتى لو كان في ذلك تناقضًا صريحًا، وبلاه ذلك بمرض الحيرة وتأذى الكثيرون بسببه. كان داء الحيرة هذا يجعله يتوقف أمام النادل، الذي يجيء للمرة الثالثة أو الرابعة ليسجّل طلبه، لكن في كل مرة يطلب منه بضع دقائق إضافية ليقرر فيها أي صنف سيطلب من قائمة الطعام -التي قرأها بالفعل للمرة الثالثة أو الرابعة. كان أحيانًا يضع في حسبانه الطعام الذي سوف يأكله غدًا ليستثنيه من القائمة، أو يستثني الطعام المتشابه المصنوع من نفس المكونات. في المرات الأولى كان النادل يتصرف بذوق ومهنية، لكن بعد ذلك بدأ يتصرف كإنسان طبيعي ينفد صبره، ويحدث أن يتأخر في العودة إليه، فكان يظن أن النادل يعطيه فرصة أكبر لحرية الاختيار، لكن في الحقيقة كان يصيح في المطبخ أمام زملائه محاولًا إطلاق غضبه المكتوم بأناقة أمام الزبائن. حين جاء في المرة الأخيرة، وكانت عيناه حمراوتان ويده متدلية بنوتة الطلبات، بدلًا من أن يرفعها أعلى صدره كما يفعل دائمًا ومنذ الصباح، لم يتكلم، نظر فقط إليه بكراهية لم يخش أن يلحظها. ورغم كل هذه المدة ظل مترددًا، ويبدو أنه شعر بضيق النادل، وتأخره في تسجيل طلبه، وفي ظل تردده قرر أخيرًا أن يطلب، فجاء طلبًا عشوائيًا اختاره بسرعة وارتباك حيث نقل عينيه بسرعة بين أصناف الطعام حتى استقرتا على صنف لم يفكر فيه، وكان نفس الطعام الذي سيأكله غدا، سجله النادل وذهب سريعًا من دون أن يسأله عن أطباق إضافية. زفر بقوة ناحية الطبق الأبيض أمامه وشعر بالضيق والخسارة، وفكر لوهلة أن يهرب إلى مطعمٍ آخر، لكنه شعر بالإرهاق، وألقى قائمة الطعام جانبًا. تأخر النادل في إحضار الطعام، ففكر أن يصفق كما يفعلون في الأفلام، لكنه لم يذكر أكان ذلك يحدث في الأفلام الحديثة أيضا على حد السواء مع الأفلام القديمة. أدار وجهه ناحية اليمين فرأى امرأة جالسة قبالة زوجها السمين ينتظران وجبتهم، كانت تنظر إليه من أعلى وأسفل كأنه غريب عن المكان، ما أن التقت نظراتهما حتى حوّلت عينيها، متحدثة إلى زوجها، أدار نظره بعيدًا. وكانت في الجهة المقابلة أربع فتيات يجلسون في دائرة حول الطاولة، لم يمعن النظر فيهن كما يفعل الغرباء، فقط حاول أن يبدو متأقلمًا لا مباليًا، ورغم هذا ظلت صورهن وضحكاتهن في مخيلته وهو ينظر إلى الطبق الأبيض، وعلى وجه الخصوص الشعر الناعم لإحداهن، وسلّى نفسه بتخيله يلمسه، كما يفعل مع القطط أحيانًا. جاء النادل بوجبته، وقد تخلص من غضبه وكراهيته، ابتسم له ابتسامة مصطنعة، قال:

- تطلب حاجة تانية يا فندم؟

- شكرًا شكرًا، أشكرك

حينما يكرر الشكر، فهو على الأرجح يفكر في طلب إضافي ويحاول كسب بعض الوقت ليفكّر فيه، لكن ضاعت الفرصة واستدار النادل دون أن يقرر. قبل أن يتناول الملعقة نظر إلى شعر الفتاة مرة أخرى واستأنس بحديثهن البعيد المليء بالسلام والدفء، رغم ذلك اكتسى وجهه صرامة مفتعلة، لمحته إحداهن، وبدا له أن نظراته كان مُرحبًا بها بينهن، وعلى عكس المرأة المتزوجة، نظرت إليه بلطف، كأنه ليس غريبا، لكنها في الحقيقة كانت تشعر بالسعادة مع زميلاتها، وحدث أن نظرتها المفاجئة إليه صُبِغت بهذه السعادة، وكان يتنسّم أي بادرة محبة في الحي الذي يزوره للمرة الأولى وسيزوره كثيرًا فيما بعد. وبينما يمضغ الطعام ببطء لا يعتاد عليه في المنزل، تخيل نفسه يقول للمرأة الكبيرة: "بصي، بنات زي القمر وحبوني ازاي"، وتخيّلها عاجزة عن الرد، فجعل ينظر ناحيتها، ونظرت إليه في نفس اللحظة وهي تأكل، ولم تبدو شريرة كما ظهرت المرة الأولى، بل كانت وديعة، ليست من النوع الذي يأكل بأريحية في الأماكن العامة، ولكنها بدت مستمتعة بوجبتها، استنبط ذلك في ثوانٍ معدودة قبل أن يدير وجهه، شاعرًا أنه ظلمها، وشعر بالألفة ناحيتها، ولكن ذلك لأنه غريب بالفعل ويرغب في كسب محبتهم، وقد كانوا غرباء أيضًا، لكنه لا يستطيع إدراك غربة الآخرين حين يسيطر عليه الشعور بالغربة. جاء النادل بعدما فرغ من الطعام مباشرة، ففكّر أنه ربما كان يراقبه طوال الوقت، ونظر بعيدًا من حيث جاء. تناول الفاتورة، وجد سعرًا مبالغًا فيه، رفع رأسه إلى النادل وبعض بقايا الطعام ملتصقة بشفته السفلى، واستفسر منه: "السعر في المنيو غير دا!"، أخبره النادل بالضريبة والخدمة. مسح فمه بمنديل وأخرج محفظته، وأعطاه النقود. وقف وجمع أشياءه من على الطاولة، ونظر ناحية الفتيات نظرة أخيرة كأن الطاولة تمتد إلى هناك. غادر المكان عائدًا إلى محل سكنه القار في مدينة السادس من أكتوبر.

كان الزحام شديدًا، والوجوه متبلدة أمام مقاود السيارات، وجوه يستحيل أن تكون قرأت بيت شعر واحد في حياتها، وعلى الجانب الآخر كان شرطي المرور يدفع السيل المروري المحتبس بذراعه كالمجداف بعزم ونشاط، فتنطلق المركبات من عنق الاختناق المروري طائعة ممتنة. أخذ يرقب ذلك باعتباره حالة من حالات الكرم التي تسترعي الاحترام، وأخذ ينتظر اللحظة التي سوف يُوقف فيها هذا التدفق بإشارة من يده، ‏تلك اللحظة التي سينتهي عندها معين الكرم، ويعود فيها الشرطي إلى دوره المألوف الهادئ. وأكثر من هذا كان متحمسًا لأن يشهد أول سيارة لن تحظى بتجديفة من ذراع الشرطي، ولكن بإشارة صارمة بالتوقف، وتنبأ أن تكون سيارة صغيرة متواضعة، وجهز ابتسامة لها، اختلطت مع ابتسامته لشرطي المرور وهو يجدّف بلا توقف.

التقفه الباص المتجه إلى السادس من أكتوبر؛ ينجذب دائما مع رقمه ١٠١٣، حتى لو لم تكن وجهته السادس من أكتوبر فإنه يشعر حين يراه أنه فوت فرصة ركوبه، ويقاوم هذا الشعور بأن يتذكر وجهته الأصلية.

لمح مقعدًا شاغرًا فسار إليه ببطء مقاومًا حركة الباص في الاتجاه العكسي، ثم بعدها توالى الركاب ليزدحم الباص بالواقفين، ثم دخل شاب ثلاثيني قوي متوسط الطول، شعر رأسه قليل ولكنه مصفف بعناية، في مشيته عرجة خفيفة، وفي يده اليسرى تورم، ظهر حاملا يده اليسرى بيده اليمنى. أخذ يتباكى وهو يحكي مأساته وصدغاه يتشنجّان مضيقًا عينيه الدامعتين، فصّل قصة عجزه وعدم مقدرته على العمل، وراح يسأل الناس المساعدة.

تأثر الناس وكان أغلبهم فلاحين. أخذ يجمع الجنيهات وهو يمشي بين المقاعد في طريق ضيق مكتظ اجتازه بقوة خفية شعر بها من احتك به، لم يتوقف عن التباكي وهو يحكي مأساته ليكون جمعه الجنيهات شيئًا هامشيًا غير مؤثر في مأساته. عاد إلى المقدمة في بطء وهوان، احتك بالواقفين بقوة أقل لكنه نفد بسهولة.

توقّف عن البكاء. ووقف ينظر متأملًا في حزن إلى الخارج من خلال باب الباص، كان يهز رأسه بين الفينة والأخرى كأنه توصل إلى نتيجة مؤثرة بعد تفكير، وكان يبدو أنه مهتم أن يرى الناس ذلك. وصل الباص إلى إحدى المحطات، وطلب من السائق أن ينزله، قالها كأنه لا يريد أن ينزل ربما لفقدانه الأمل، وكان راغبًا في أن يحافظ على شفقة الناس. راقبه من خلال زجاج الباص وهو معجب بأدائه التمثيلي وقدرته على صنع قصة مختلفة عن آخر مرة رآه فيها.

وصل الباص قبالة محل سكنه. بينما يعبر الطريق إلى الجهة الأخرى فكر في يومه وشعر أنه كان طويلًا وشعر أيضًا أنه ربما يكون ساذجًا، وقرر ألا يكون ساذجا المرة القادمة، وانتعش بالأمل لهذا القرار.

السبت، 21 سبتمبر 2019

الثائر

مثل فلاح أصيل، كان يريد أن يأخذ الأفضل من كل شيء حتى لو كان في ذلك تناقضًا صريحًا، وبلاه ذلك بمرض الحيرة وتأذى الكثيرون بسببه، فهو جبان لا يجرؤ على التظاهر ولا يستطيع تخيل نفسه بين أيدي رجال الشرطة الأشرار، وحين يستطيع، فإنه يلعن اليوم الذي قرر التظاهر فيه، وعلى الجانب الآخر، فهو جالس بعيدا عن الأعين يمارس حياته بطريقة روتينية هادئة، مبتعدًا عن كل ما يضر أمنه، ولا يجرؤ أن يقرّ هذا مبدئًا لحياته فهو يحيّي الثوار ويجلّهم، ويرقبهم في أمل ورجاء ويتمنى الاستمرار، وفي الوقت ذاته يفكر في طريقة آمنة للوصول إلى عمله غدًا من دون أي أذى، وسيحكي عما جمعه من أخبار لزملائه في حماسة وثورية.

الجمعة، 20 سبتمبر 2019

التحرير

أردتُ أن أسألَ إنْ كنتَ حقًا أقفُ في ميدانِ التحرير،
أخذتُ أبحث عن وجهٍ من المشاةِ حولي
لكن بدا لي أنّ وجهًا واحدًا لن يعرف.
دسستُ هاتفي في جيبي، مُكذّبًا جوجل مابس،
وانطوى ميدانُ التحريرِ مكانًا لن أستطيعَ التعرّفَ عليه أبدًا.

الخميس، 29 أغسطس 2019

الممثل

شاب ثلاثيني قوي متوسط الطول، شعر رأسه قليل ولكنه مصفف بعناية، في مشيته عرجة خفيفة، وفي يده اليسرى تورم، يدخل الباص حاملا يده اليسرى بيده اليمنى. أخذ يتباكى وهو يحكي مأساته وصدغيه يترجرجان تشنجًا مضيقًا عينيه الدامعتين، فصّل قصة عجزه وعدم مقدرته على العمل، وأخذ يسأل الناس المساعدة.
يتأثر الناس وأغلبهم فلاحون. يجمع الجنيهات وهو يمشي بين المقاعد في طريق ضيق مكتظ يجتازه بقوة خفية يشعر بها من يحتك به، ولا يتوقف عن التباكي وهو يحكي مأساته ليكون جمعه الجنيهات شيئًا هامشيًا غير مؤثر في مأساته. يعود إلى المقدمة في بطئ، يحتك بالواقفين بقوة أقل لكنه ينفد بسهولة.
يقل تباكيه لتصبح نهنهة. يقف في المقدمة ناظرًا متأملًا في حزن إلى الخارج من خلال باب الباص، ويهز رأسه بين الفينة والأخرى كأنه توصل إلى نتيجة مؤثرة، وكان يبدو أنه مهتم أن يرى الناس ذلك. يصل الباص إلى إحدى المحطات، ويطلب من السائق أن ينزله، قالها كأنه لا يريد أن ينزل ربما لفقدانه الأمل، وكان راغبًا في أن يحافظ على شفقة الناس. أراقبه من خلال زجاج الباص وأنا معجب بأدائه التمثيلي وقدرته على صنع قصة مختلفة عن آخر مرة رأيته فيها.

الأربعاء، 28 أغسطس 2019

سيل

‏أخذت أرقب شرطي المرور وهو يدفع السيل المروري المحتبس بذراعه كالمجداف، فتنطلق المركبات من عنق الاختناق المروري طائعة ممتنة.
أخذت أرقب ذلك باعتباره حالة من حالات الكرم التي تسترعي الاحترام، وأخذت أنتظر اللحظة التي سوف يُوقف فيها هذا التدفق بإشارة من يده، ‏تلك اللحظة التي سينتهي عندها معين الكرم، ويعود فيها الشرطي إلى دوره المألوف الهادئ. وأكثر من هذا كنت متحمسًا أن أرى أول سيارة لن تحظى بتجديفة من ذراع الشرطي، ولكن بإشارة صارمة بالتوقف، وتنبأت أن تكون سيارة صغيرة متواضعة. وجهزت ابتسامة لها، اختلطت مع ابتسامتي لشرطي المرور وهو يجدّف بلا توقف.

السبت، 3 أغسطس 2019

احتفاء


       خرجت من طريق جانبي إلى ساحة تكتظ بالناس يشاهدون عرضًا على مسرح مُقام، لم أهتم، وعدلت سير الحقيبة على كتفي رغم أنه كان معدولًا، وبعد أن اجتزت الناس تغيرت نبرة العارض على المسرح، وقال: "تعالوا بينا نحيي أحمد، اطلع يا أحمد"، توقف التنفس عندي ولفّتني موجة باردة بدأت من رأسي، رغم أني قد لا أكون المقصود، لكن النبرة كانت تخترقني كأنها تحمل جيناتي مع اسمي، ثم صاح "يلا يا أحمد، يلا يا أحمد"، وانهال الجميع من وراء ظهري عليّ بالتصفيق والتحايا: "يلا يا أحمد يلا يا أحمد"، بينما كنت أتظاهر أني أسير إلى وجهتي، حتى جذبني أحدهم ووجهني نحو المسرح، وكان يضحك في وجهي لأنه رأى عدم انتباهي شيئًا مضحكًا.

ارتكزت في وسط المسرح. ظلوا يبتسمون لي ويهنؤني ويمدحوني، ويصفقون بلا توقف. وأنا استقبلت كل ذلك بصدق وللحظة شعرت بالامتنان، بعدها نزلت من المسرح وسرت في ذات الطريق الذي اجتُذِبت منه، وهم أكملوا عروضهم، وعند أول الشارع قرأت لافتة: «عروض "لا نهتم بك كما جعلناك تظن"»، نظرت خلفي ووجدتهم منغمسين في أحد العروض ويضحكون بلا توقف. عدلت الحقيبة على كتفي التي كانت على وشك السقوط واختفيت من المشهد.

الجمعة، 7 يونيو 2019

الحالة الحرجة للمدعو ك

My rating: 5 of 5 stars

كنت أؤجل اكتشاف الأدب الخليجي لأجل غير مُحدّد كواجب عليّ أن أزوره وأطمئن على تواجده، للرابطة اللسانية بيننا (والأدب العربي الغير مصري عمومًا- يا للخسارة، أعرف!)، حتى ظهر اسم هذه الرواية في تايملايني على تويتر، وكانت الآراء شبه متفقة بإيجابية على الرواية، واكتشفت أنني تأخرت، لا في قراءتها، ولكن في التعرّف عليها. وقررت قراءتها فورًا.
في البداية حينما ذُكرت كلمة "غترة" فقد ظننت أني بشكل رسمي، قد قرأت أدبًا خليجيًا، وشعرت بشعور الفاتح، وسعدت أن أدبًا حداثيًا بهذا النضج يجد مكانه في هذه المنطقة المثقلة بماضيها وتقاليدها وتراثها الأدبي.
والآن وبعد انتهائي من الرواية لا أجد منها ما ينتمي للبيئة سوى النذر القليل، وأن البيئة ليست ما يشغل الرواية، بل ما هو أبعد- إلى حدود إنسانية بعيدة، فكان خير للأدب الخليجي والأدب العربي عمومًا.
***
الرواية بديعة، مرهفة، وآية من آيات الذكاء في استنباط ما وراء الحواجز الإنسانية. لا أذكر عدد المرات التي ضحكت فيها للتطابق المدهش الذي بيني وبين أحد الشخصيات -لا سيما ك.- وشعرت بالغيرة أنه فهمني أكثر مني! أو وصفًا شديد التعقيد صيغ بأسلوب سهل كأنه ليس معقّدًا أصلًا.

● لا أعرف تصورًا واقعيًا لأدب كافكا أفضل مما قُدِّم في هذه الرواية، بل أعتقد أن وظيفته في هذا أكثر تعقيدًا، فبدون أن يتحوّل إلى حشرة عملاقة، استطاع أن يجد طريقه إلى الطبيعة النفعية السوداوية في العلاقات، كان مقنعًا جدًا، صادقًا بشكل مفجع. طبعًا بدون انتقاص شيء من قيمة كافكا، فكافكا في النهاية حكّاء يحب الخلق، وكتابة قصة عن حشرة عملاقة لهو أمر مثير لشهية رجل يشتغل في الخيال. العلاقة النفعية طبعًا ليست شيئًا متجذّرًا في العلاقات الأسرية، لكن كيميائيًا هناك نسب في هذا المركب المعقد.

● كنت أريد أن أنتقد كراهيته لكل ما حوله خصوصا في علاقاته داخل الشركة، وكأن هناك مغالاة في الكراهية، لاغية كل الأواصر الإنسانية ولو بسيطة (ليس الحب، ولكن التقاطعات الإنسانية)، فتذكّرت أني في مرحلة ما من حياتي العملية كنت أكره عملي والشركة التي أعمل فيها والزملاء الذين أختلط بهم يوميًا، ولا أرى أي أواصر إنسانية تربطني بهم، وربما نسيت هذه المرحلة أثناء إطلاق هذا الحكم، لكني أطلقته وأنا في وضع أفضل وأكثر رضا، فتنبّهت إلى أن بعض الأحكام التي أطلقها ربما منبعها هو إسقاط مباشر على خبراتي أنا في الحياة بما فيها من محدودية وضيق أفق وقلة تمرّس، بغض النظر عن تجربة الكاتب الخاصة، فتعلّمت (أتمنى!) أن أكون أكثر حذرًا في إطلاق أحكام عن التجارب الإنسانية الخاصة.

● أعجبتني جدا شخصية الجد؛ وجودها كان هام أيضا لتحرر نوايا ك. من عدوانيته المطلقة للمجتمع، فالعلاقة المتبادلة بين ك. والجد أكدت كراهيته للافتعال والتصنع، المتفشيين في كل ما حوله، في مقابل الصدق والصراحة، حتى لو صاحبتهما فظاظة وقسوة، فذلك أفضل من علاقته مع أهل خطيبة أخيه العائمة في التصنع الاجتماعي.

طبعًا الرواية تشع ذكاءً وألمعية لكنها مع ذلك ليست إلهامًا متصلًا، وقد أغض البصر عن بعض ملاحظاتي عندما تكون محصلة قراءتي لها استمتاعًا ودهشة، لكني أحاول أن أكتب كل ملاحظاتي على الكتب التي أقرأها في المراجعة وكل ما يخطر على بالي، إن أتيح لي ذلك، لأن هذا غالبا ما يبقى لي من الكتاب بعد قراءته، فبعد شهر أو أكثر سيتلاشى هذا الكتاب من رأسي، وبقاءه معي يتحدد بذكرى عنه أو بشيء كتبته مرتبط به:

● بالحديث عن رسم الشخصيات وكيف أنه أتقنها، وكيف أنني أحببت شخصية الجد، كانت شخصية الأب عكس ذلك؛ كانت سمته الرئيسية التي حددت شخصيته: "لا تبالغ" وكان هذا تقريبًا رد فعله على كل شيء، فأدركت أن الكاتب يريد أن يبني "براند" الشخصية على هذه الكلمة، وهذا لا يجعل قبولها في نفسي -على الأقل- ذا صدى، فالبراند لا يُبنى بالشعار وحده، ولكن هناك مقدمات تاريخية، فأنت مثلًا عندما تذكر أمامي كلمة "نوكيا" فأنا أدرك الكثير ما يختصر الكلام، ليس في قوة كلمة "نوكيا" في حد ذاتها ولكن لأن المقدمات التاريخية تحمل على رأسها اسم البراند. فلا تتوقع أنك عندما ترسم شخصية وتحدد بضع كلمات تكررها أني سأقنع بالأفعال التي في هذه الكلمات.
● في مواقف قليلة كان مبالغًا في الوصف، مثل زيارته للطبيب في صباه مع أبيه؛ وصف ميكروسكوبي لكل شيء، لجلسة الطبيب، لوضعية ذراعيه.. إلخ، وصف يؤدي بدوره إلى وصف، مثل لعبة الماتريوشكا الروسية، بشكل لا فائدة منه سوى إفراغ طاقة أدبية زائدة، يبدو أن الكاتب حضرته الكلمات والأحداث بتدفق بشكل من الصعب التخلي عنها، هي لحظات تحتاج بعض الشجاعة من الكاتب أن يلقيها جانبًا رغم ما فيها من صنعة وحبكة. قرأت في مقال يتحدث عن ليوناردو دافينشي أن من أسباب تفوقه ونبوغه أنه لم يهتم بالأشياء قدر اهتمامه بالرابط بينها، وهذه هي المشكلة في مواقف كهذه؛ اهتمام زائد بالأشياء بدون وجود دور فاعل لها في حركة الأحداث.

هذه بضع ملاحظات مرت عليّ أثناء قراءتي الرواية، ووجدت أنها ربما تكون ذا قيمة في تقييمي للكتاب.

لكن مجملًا، هذه واحدة من أجمل الروايات التي قرأتها إلى الآن.

الخميس، 6 يونيو 2019

شكرانية

تغدينا سويًا على أجنحة العصافير الصغيرة 
طار طبق إلى السماء، إلى الأم المهاجرة الثُكلى 
بعد حينٍ سقط الطبق وعليه عصفورة أكبر 
أكلنا حتى شبعنا، شاكرين النعم.

الأحد، 12 مايو 2019

القارئ

    قابلته ذات أصيل في أحد المقاهي، كان ملثّمًا ويرتدي جلبابًا أزرقًا، وأنا سألته: "أتيت من الصحراء الغربية؟"، ساعتها نظر إليَ مستنكرًا، رفض شرب أي شيء وشربت أنا الشاي. تحدّث معي كثيرًا، وفي النهاية أخبرني أني سأموت غدًا، وأنا شكوت له أني لا زلت صغيرًا، وأحب الحياة، وتعرفت على فتاة أخيرًا، وطلب فنجان قهوة وأنا انتظرت حتى جاء النادل، قلت "هل هذا آخر كلام؟"، قال "نعم، هناك لوائح"، وأنا طلبت قراءة اللوائح، ثم كشف عن وجهه، حدقت فيه طويلًا، وقرأت اللوائح، ثم أعاد لثامه بخفةِ مَن أمامه العمر كله، وأنا شعرت بالوهن كدنوّ الأجل، جاء النادل بالفاتورة وأنا حاسبت، غادر المقهى، لم أنظر خلفي لأتابعه، ظل شبح وجهه أمامي، حملت كتابًا كنت أحضرته معي للقراءة في المقهى، وغادرت. عند المفترق، نظرت يمنة ويسرة، لم أجد له أي أثر، وبدأت أجهز لمراسم موتي المبكّر؛ اتصلت بها وأخبرتها أني أحبها وأريد تقبيلها، رفضت لأنها ظنت أني تحت تأثير الشهوة، وكنت حقًا تحت تأثير الشهوة التي سأفتقدها بعد موتي، لكني غضبت لأنها لم تفهم أني سأموت غدًا. عندما تقابلنا، وكانت تتكلم معي كأننا فعلنا شيئا فاحشًا في الحلم، سألتني عن ديوان لوركا الذي أعطته لي وطلبت أن أقرأه، كذبت وقلت أني قرأته ولم يعجبني، ولم يعد من مجال لفتح حوارٍ بعدها، حاسبتُ وغادرنا المقهى وافترقنا، ولم أنظر خلفي، ومن خبرتي في العلاقات تأكد لي أن هذا آخر لقاء بيننا.

في البيت وجدته ينتظر ومعه اثنين ملثّمين، وكانوا يشربون القهوة. لوهلة ظننتهم لصوص، حتى نظر نحوي الرجل الذي قابلته في المقهى، سقطت من يدي المفاتيح، وشعرت بالموت ورائحة قديمة تزكم أنفي. دعوني لأجلس معهم، وأفهمني أن هؤلاء جاءوا للتنفيذ، ثم أشار لي ناحية باب غرفتي، وفهمت أني سأموت على فراشي، عندما انفتح الباب وجدت صديقتي جالسة تتزيّن أمام المرآة مرتديةً قميص نوم أبيض واستطعت أن أرى صدرها العفيّ وأردافها الممتلئة، وأشار لي كمن يقدم هدية من العيب رفضها، وأنا رفضت، وزعقت فيهم وأفهمتهم أن هذا غير لائق، وأن عليهم أن ينفذوا الإعدام بدون إضافات، كانت صديقتي ميتّة- أفهمني- وقوانين الموت تختلف، وكشف واحد آخر عن وجهه وقرأت فيه قوانين الموت، للحظة شعرت برضا جامح أنه ليس عليّ ادّعاء المُثل، نظرت إليها وأنا أشعر بالخجل والرغبة. أصبحنا وحدنا بعد أن أُغلِق الباب علينا، استلقت على الفراش وابتسمت بغنج وقالت: "قبلني"، هممت بها، ثم انفتح الباب واندفع ثالثهم، سحبني من ذراعي وخرج، صرخت مدافعًا عن نفسي: "لم نفعل شيئًا"، كشف عن وجهه وقرأت حظي.

الثلاثاء، 16 أبريل 2019

نسيان

استيقظت هذا الصباح، أردت تشكيل تعبيرٍ طرأ في رأسي كومضة، لكني اكتشفت أني نسيت الكلمات الرئيسية المكونة للتعبير، نسيتها تمامًا، حاولت البحث عن مترادفات قريبة من خلال الإنترنت، لكن كل ما اكتشفته لم يسد حاجتي من التعبير وفكرت عبثًا أنه تم حذفها من الإنترنت، استعنت بصديق موسوعيّ متخصص في المعاجم وتاريخ اللغات وحاولت شرح ما أردت التعبير عنه، لكنه عجز عن فهمي، وأتى بكلمات جعلت من تعبيري مسخًا. شعرت بالضيق والحاجة للبكاء، نصحني بالذهاب إلى طبيب نفسي وقال أنه بالفعل عرض جميع الكلمات المحتملة الموجودة في المعاجم الكبيرة، ولابد ألا يخرج منها تعبير أيًّا كان حجمه وطبيعته، فنبهني حديثه عن المعاجم إلى أنه من الممكن أن يكون التعبير الذي أبحث عنه موجودًا في لغات أخرى، فجربت اللغة الإنجليزية التي أتقنها بالفعل، لكن فكرتي كانت بالعربية ولا يمكن ترجمتها في شكلها المجرد، بدأت أتدرب على تشكيل تعبيرات بسيطة، مثل "الشمس مشرقة"، ثم أقوم بتطوير التعبير مثل "الشمس مشرقة على أجنحة العصافير"، وكررت نفس الطريقة مع التعبير الذي أردته، لكنه لم يتحرك خطوة واحدة للأمام، وظل التعبير في رأسي على أمل أن أجد له الكلمات المناسبة، حاولت مجدّدًا بعد عدة أسابيع من قراءة المزيد من الكتب والمقالات وتصفّح المعاجم، لكني فشلت، وصار اليوم الذي استيقظت فيه وفقدت فيه الكلمات، يومًا أسودًا في ذاكرتي، كأنه اقتُطِع من حسابات الفلك، ومن عمري، وكلما تذكرته شعرت بخيبة أمل كبيرة، ورغبت بالهرب من التفكير فيه، كأنه دينًا عليّ، متمنيًا أن أنساه إلى الأبد، لكنه كان يظهر في وجهي في المرآة وفي مقدمات الكتب، والمكتبات، ورسائلي إلى أصدقائي، وفنجان القهوة، ومع كلِّ صباح، وأصبح شبحًا يطاردنني، وفكرت أن أزور طبيبًا نفسيًا، لكني خشيت أن أقع في مصيدة المرض النفسي.
مرت عدة أشهر توقفت فيها عن القراءة نهائيا وعن معظم أنشطتي الفكرية، وصرت أعمل لساعات إضافية، أصبحت أشاهد يوتيوب أكثر من أي وقت مضى، ابتعدت عن أصدقائي القدامى، ودفنت نفسي في وحدة طويلة. ولم أعد أشعر بحاجة إلى التعبير وصارت أيامي كلها متشابهة، فارغة، وقابلة للنسيان بسهولة.

الاثنين، 7 يناير 2019

مأوى

أخرج من العمل بعد الحادية عشرة.
درجة الحرارة حوالي ٦ مئوية، أو درجة استحالة المشي ليلا في الشتاء.
يكتشف زميلي أن سيارته محجوزة بين سيارات الجراج، فيتركها.
نهرول إلى أول الطريق، يلحق هو بميكروباص
وأنتظر في الاتجاه المعاكس.
أتجمد ولا أشعر بوجهي.
‏أجري كي أقرّب المسافات.
أشتري شيكولاتة من السوبر ماركت الدافئ.
أنتظر قليلا، يشك فيّ صاحب السوبر ماركت فأدفع ثمن الشيكولاتة.
أخرج إلى الطريق، أشعر ببعض الدفء تحت شجرة.
آكل الشيكولاتة. يتخطاني السائقون بلا مبالاة ولا شفقة.
توقفت سيارة صغيرة، رميت ورقة الشيكولاتة.
أركب في المقدمة محاولا إخفاء شعوري الغامر بالدفء.
أدفع للسائق مبلغا أقل من أجرته لأن محطتي على مسافة أقصر. 
لا أشعر نحوه بالامتنان. 
أحاول أنا آخذ حقي من الدفء.
أدخل الشقة.
أجري في كل مكان في عجالة كأنني متأخر عن شيء هام.
أرتدي ملابسي المنزلية وأندسّ تحت أغطيتي.
وأرتجف بلا توقف.
———
[12:35 AM]  ‏

حرفيًا لا أستطيع أن أتوقف
[02:16 AM]

توقف الارتجاف عند الواحدة والنصف.
واستيقظت كأنه يبدأ من جديد.
وكنت جائعا بشدة

٧ يناير ٢٠١٩

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...