الجمعة، 27 يناير 2012

عنوان الظل



عنوان الظل

     عندما جلسنا فى الشرفة نحتسى الشاى عند العاشرة صباحاً تقريباً, كانت سحابة رمادية حبست آشعة الشمس قد تزحزحت قليلاً, فتحررت آشعتها وهامت نحونا بغزارة فأشرقت الدنيا من جديد, وتراجع مستطيل الظل العريض, الذى يكسو الشارع, أمام اندفاع النور حتى اختفى تماماً إلا من ظلال قصيرة للأبنية المحيطة.
وعندما همّ بالتحدث إلىّ هرول صبى صغير خارج الورشة الموجودة أسفل الشرفة كأنه يحاول اللحاق بمستطيل الظل المنحسر وقد عقد ذراعيه خلف رأسه وأثنى ظهره واشتد صراخة, ثم خرج خلفه المعلم عنوان, كان ضخم الجثة, كث الشعر, غليظ الصوت, ملأ الزيت والشحم أفروله حتى تغير لونه تماماً. خرج من الورشة ممسكاً بسبيكة معدنية بحجم كف يده, دفعها فى وجه الصبى الباكى صائحاً فى وجهه بكلمات لم أتبينها, كان الصبى ينظر إليه فى خوف ويتراجع بظهره إلى الخلف, ماسحاً بكم قميصه المتسخ المتهدل دموعه, اقترب منه المعلم عنوان وذراعه نافذة إلى السماء كالسارية المائلة يحمل فى قمتها السبيكة المثبتة بخمس أصابع, وفى هذه اللحظة خرج الحاج عبده من الكشك, مرتديا جلباباً أبيضاً مقلماً بينما كانت رأسه الصلعاء, إلا من شعر فودِه الأبيض, تعكس بعض آشعة الشمس كالمرآة, وفى يده اليمنى جريدة دفعها صوب المعلم عنوان صائحاً فى وجهه بصوت ضعيف أخرجه بصعوبة:

- كف عن ضرب الولد حرام عليك...
- الولد كسر تلك القطعة, ثمنها خمسمائة جنيه.
- تقوم تموته ضرب!
- هل أكافئه؟!
- لا, لكن....

ثم لمح الحاج عبده شخصاً ما آت نحوه, وانهال المعلم عنوان بضرب الصبى الذى تكوم عند جدار المنزل المقابل وهوت السارية المائلة, وألقى الصبى بنفسه على الأرض مدافعاً عن نفسه بذراعيه المعقودتين خلف رأسه وأثارت قدماه العاريتان, المتسختان بالزيوت والشحوم, التراب, فارتفع التراب حتى وصل إلى سقف الشرفة فغطيت فنجان الشاى بالطبق الأبيض الصغير, وحجب عنّا المعلم عنوان جزء من جسد الصبى ولم أتمكن من رؤية رأسه لكنى سمعت صراخه بوضوح, وأخذ صراخه يشتد:

- الحقنى ياعم عبده..
واعترض الحاج عبده طريق الرجل باسماً:
- أستاذ عطا, كيف حالك ( وأمسك بيده اليمنى وهزها برفق إلى أعلى وأسفل).
نظر الرجل إليه بشبه ابتسامة:
- إزيك ياحاج عبده؟
- الحقنى ياعم عبده والنبى....
- نحمد الله, ماذا فعلت فى موضوعنا؟
- موضوع إيه ؟
- هيموتنى ياعم عبده....
- الموضوع اللى كلمتك عنه الأسبوع الماضى.
- آه, والله أنا كلمت رشدى بيه وهو قال "هيشوف".
فتهدلت ملامح وجهه:
- هيشوف إزاى يعنى, دى زينب هى اللى بتصرف على البيت..
- والله أنا عملت اللى اقدر عليه.
- آه طبعا, كتر خيرك, إنت عملت اللى عليك وزيادة.
- الحقونى...

وأخذ يده وهزها برفق لأعلى وأسفل, ثم رحل الرجل, وعاد الحاج عبده إلى الكشك مطرقا, ثم أختفى عن أعيننا, بينما كانت يدىّ المعلم عنوان تنهالان بالضرب على الصبى, لا ينفذ منها سوى الصراخ والتراب.
    ثم لمحت فتاة تسير فى أول الشارع ترتدى جونيللا سوداء قصيرة وفانلة بيضاء بينما كان شعرها البنى الكثيف يتدلى على صدرها النصف عارى, ورفعت حقيبتها البيضاء إلى وجهها القمحى اللامع وأسبلت جفنيها وحاولت الابتعاد عن التراب المعترض طريقها, بينما كان شابان غريبان, أحدهما طويل القامة نحيف, يرتدى قميص أسود وبنطال يكاد ينزلق من خصره حتى ظهرت ملابسه المنقطة, و الآخر بدينا له كرش ملحوظ, يرتدى قميص أحمر, وبنطال لايختلف عن الآخر, كانا يتبعانها يلقيان بين الحين والآخر نحوها بكلمات لم تلتقطها أذناى, وأحيانا يهمس أحدهما للآخر فيضحك هذا الآخر ويعود أحدهما ليلقى بكلمات أخرى. بدا عليها بعض الاشمئزاز.

    وعندما لمحها المعلم عنوان توقف عن ضرب الصبى, واعتدلت قامته, فرأيت جانب وجهه العريض وقد تحول لونه البنى إلى رمادى, وتسارعت أنفاسه, وأخذ يمسح جبهته المتعرقة بكم قميصة المشدود إلى معصمه. راقبها بنظراته, بينما ظل الصبى منكفئ على الأرض يبكى, يلملم دموعه الهاوية, محاولا سحب مخاطه السائل من أنفه, يتحسس جروحه المتفرقة فيتأوه ويزداد بكاءه, وكفّ التراب عن هياجه. وحين أتمت رأس المعلم عنوان مائة وثمانين درجة كاملة, سمعت تنهيدة صديقى, فانتبهت له وسألته:
                                                                          
- هل كنت تريد أن تقول شيئا ؟
- نعم, لماذا غبت عن العمل بالأمس ؟
فابتسمت له, وتناولت كوب الشاى الذى أصبح باردا ورفعت عنه الطبق الأبيض وأخذت رشفة, ثم عادت السحابة الرمادية تغيم على الجميع....

***

الخميس، 19 يناير 2012

مأساة كلب


دخلت قاعة المحاضرات وعدد الحاضرين لا يزيد عن العشرين طالبًا وطالبة في انتظار الدكتور الذي دائمًا ما يتأخر عن موعد المحاضرة، ظلت الطالبات داخل القاعة يتسلين بالأحاديث المتفرقة التي تتعلق بتوافه البنات، أما الطلاب فقد خرجوا إلى الطرقة منهم من يدخن ومنهم من يشرب الشاي أو القهوة ومنهم من يقضي بعض الملل ذهابًا وإيابًا في انتظار الدكتور الذي يجلس في مكتبه!

وبعد ساعة من موعد المحاضرة وصل الدكتور، ودخل ما تبقّى من الطلاب القاعة. دخل الدكتور مسرعًا كعادته يرتدي بزّة قصيرة تلف جسده الممتلئ وقامته القصيرة نسبيًّا، ثم دخل بعده بقليل المعيد الذي يحضر المحاضرات ليُلم بأطراف المادة، وجلس على يساري، في المقعد (البِنش) الثاني.

بدأ الدكتور بتشغيل جهاز الحاسوب (اللابتوب) الموصّل بالبروجيكتور، وأطفأ ما تبقى من الأنوار وأسدل ستائر النوافذ، حتى أصبحت القاعة مظلمة تمامًا، ثم بدأت محاضرة مملة كالعادة. كان جو التثاؤب هو الغالب على المحاضرة، والظروف مهيئة لمعانقة النوم الوثير.

وبعد قليل دخل صلاح- زميلنا- مسرعًا بعد طرقات الاستئذان السريعة، بدت لي نحافته جليّميلنا) القصيرة نسبيّاًئر مسرعاًة في هذا الظلام تحت خفوت ضوء البروجيكتور، أنهكت السجائر قواه حتى صار عوده المنحني كعود الكبريت المحترق، وتلاشى اللون الأبيض من ثغره الذي ابتسم لصديقه الجالس في الخلف، حتى صار أصفرا يتخلله خطوط رمادية، ثم جلس على يميني، وبدأ يُفرغ ما في جيوبه من أقلام وعلبة المناديل، ثم هيأ الكشكول. وبعدما أفرغ محتوياته اعتدل في جلسته ليظهر الاهتمام. كان يلهث، فكنت أستطيع أن أشم رائحة دخان السجائر المنبعثة من فمه.

وبعد ذلك بقليل سمعت صوت لطمة، فنظرت جهة صلاح ووجدته يضع كفه على جبهته وعيناه الضيقتان قد أصبحتا أكثر اتساعًا وشفتاه انفرجتا انفراجة ملحوظة، ثم قال وهو يميل برأسه ناحيتي:

- نسيت أأكل الكلب!

قال ذلك بصوت لم يسمعه غيري أنا والمعيد الجالس بجواري.

فاندهشت لما قال، وسألته: كلب ايه ؟!

فردّ عليّ بجزع: كلب صغير في بيتنا- في ديرب.

ثم سألت: هيحصله حاجة لو مكلش يعني؟!

لم يرد على سؤالي، وقال: "يانهار ابيض"، قالها وهو يمد ياء أبيض.

وهَمّ بالوقوف حتى أثنى ظهره، لكنه ما لبث وعدل عن ذلك. وظل على قلقه إلى آخر المحاضرة.

نظرت يساري فوجدت المعيد قد ضم كفه الأيسر إلى فمه ومال برأسه ناحية البِنش لئلا يراه الدكتور، وكان جسده يهتز بصورة ملحوظة من الضحك!

وانتهت المحاضرة بعد نصف ساعة، حمل الدكتور حاسوبه وخرج كما دخل، فقام صلاح مسرعًا إلى باب القاعة ثم اختفى.

تتبعته بنظراتي المتوجسة، بينما ظل المعيد غارقا في الضحك، حتى رفع رأسه والدموع تملأ عينيه، وآثار الضحك تكسو وجهه، وما لبث أن نظر ناحيتي، حتى عاد برأسه إلى كفه واستأنف الضحك!

وما إن انتبه لدخول الدكتورة حتى قام مثاقلا بضحكاته محاولا حبسها داخل صدره.

وانتبهنا إلى حديث الدكتورة المنزعجة دائما بصوتها الزاعق، فتلقي بقذائفها إلى من يتأخر عن موعد وصولها، قد تكون إحدى قذائفها الهينة أن تنقص بضع درجات من المسكين المتأخر، الذي غالبًا لا يملك سواها.

ومرت دقائق على هذا الحال حتى دق الباب، فالتفتت بنظرها الثاقب نحو الباب مستعدة لإلقاء قذيفتها التاليه، وقالت بحنق شديد:

- ادخل

وانفرج الباب انفراجة بسيطة وطلّ صلاح برأسه من خلفه قائلا:

- أدخل يادكتورة؟

- إيه اللي أخرك؟

- كنت بأكل الكلب

مرت هنيهه صامتة، كأن من سمع يحاول أن يضع الجملة في موضعها السليم، فاكتشف الجميع أن موضعها هو الضحك، ثم ارتجت القاعة ضحكًا.

نظرت الدكتورة إلى صلاح الذي اعتلت جبهته علامات الراحة بعد القلق، وكأنما هي الأخرى وضعت عبارته في موضعها السليم، فتغيرت ملامح وجهها العبوس حتى كاد يشبه وجه باسم، وأشارت بيدها ليدخل، فدخل مسرعًا وجلس بجواري، واندفعت من صدره الصعداء حتى ملأت صدره سكينة. بينما كنت أفكر: يالها من قصة.

من المطبخ إلى قسم الطوارئ

منذ بضعة أيام( يوم السبت 27 يناير 2024 ظهرًا) جُرِح إصبعي البنصر (الإصبع قبل الأخير) لليد اليسرى جرحًا خطيرًا أثناء غسيل طبق صين...