الخميس، 19 يناير 2012

مأساة كلب


دخلت قاعة المحاضرات وعدد الحاضرين لا يزيد عن العشرين طالبًا وطالبة في انتظار الدكتور الذي دائمًا ما يتأخر عن موعد المحاضرة، ظلت الطالبات داخل القاعة يتسلين بالأحاديث المتفرقة التي تتعلق بتوافه البنات، أما الطلاب فقد خرجوا إلى الطرقة منهم من يدخن ومنهم من يشرب الشاي أو القهوة ومنهم من يقضي بعض الملل ذهابًا وإيابًا في انتظار الدكتور الذي يجلس في مكتبه!

وبعد ساعة من موعد المحاضرة وصل الدكتور، ودخل ما تبقّى من الطلاب القاعة. دخل الدكتور مسرعًا كعادته يرتدي بزّة قصيرة تلف جسده الممتلئ وقامته القصيرة نسبيًّا، ثم دخل بعده بقليل المعيد الذي يحضر المحاضرات ليُلم بأطراف المادة، وجلس على يساري، في المقعد (البِنش) الثاني.

بدأ الدكتور بتشغيل جهاز الحاسوب (اللابتوب) الموصّل بالبروجيكتور، وأطفأ ما تبقى من الأنوار وأسدل ستائر النوافذ، حتى أصبحت القاعة مظلمة تمامًا، ثم بدأت محاضرة مملة كالعادة. كان جو التثاؤب هو الغالب على المحاضرة، والظروف مهيئة لمعانقة النوم الوثير.

وبعد قليل دخل صلاح- زميلنا- مسرعًا بعد طرقات الاستئذان السريعة، بدت لي نحافته جليّميلنا) القصيرة نسبيّاًئر مسرعاًة في هذا الظلام تحت خفوت ضوء البروجيكتور، أنهكت السجائر قواه حتى صار عوده المنحني كعود الكبريت المحترق، وتلاشى اللون الأبيض من ثغره الذي ابتسم لصديقه الجالس في الخلف، حتى صار أصفرا يتخلله خطوط رمادية، ثم جلس على يميني، وبدأ يُفرغ ما في جيوبه من أقلام وعلبة المناديل، ثم هيأ الكشكول. وبعدما أفرغ محتوياته اعتدل في جلسته ليظهر الاهتمام. كان يلهث، فكنت أستطيع أن أشم رائحة دخان السجائر المنبعثة من فمه.

وبعد ذلك بقليل سمعت صوت لطمة، فنظرت جهة صلاح ووجدته يضع كفه على جبهته وعيناه الضيقتان قد أصبحتا أكثر اتساعًا وشفتاه انفرجتا انفراجة ملحوظة، ثم قال وهو يميل برأسه ناحيتي:

- نسيت أأكل الكلب!

قال ذلك بصوت لم يسمعه غيري أنا والمعيد الجالس بجواري.

فاندهشت لما قال، وسألته: كلب ايه ؟!

فردّ عليّ بجزع: كلب صغير في بيتنا- في ديرب.

ثم سألت: هيحصله حاجة لو مكلش يعني؟!

لم يرد على سؤالي، وقال: "يانهار ابيض"، قالها وهو يمد ياء أبيض.

وهَمّ بالوقوف حتى أثنى ظهره، لكنه ما لبث وعدل عن ذلك. وظل على قلقه إلى آخر المحاضرة.

نظرت يساري فوجدت المعيد قد ضم كفه الأيسر إلى فمه ومال برأسه ناحية البِنش لئلا يراه الدكتور، وكان جسده يهتز بصورة ملحوظة من الضحك!

وانتهت المحاضرة بعد نصف ساعة، حمل الدكتور حاسوبه وخرج كما دخل، فقام صلاح مسرعًا إلى باب القاعة ثم اختفى.

تتبعته بنظراتي المتوجسة، بينما ظل المعيد غارقا في الضحك، حتى رفع رأسه والدموع تملأ عينيه، وآثار الضحك تكسو وجهه، وما لبث أن نظر ناحيتي، حتى عاد برأسه إلى كفه واستأنف الضحك!

وما إن انتبه لدخول الدكتورة حتى قام مثاقلا بضحكاته محاولا حبسها داخل صدره.

وانتبهنا إلى حديث الدكتورة المنزعجة دائما بصوتها الزاعق، فتلقي بقذائفها إلى من يتأخر عن موعد وصولها، قد تكون إحدى قذائفها الهينة أن تنقص بضع درجات من المسكين المتأخر، الذي غالبًا لا يملك سواها.

ومرت دقائق على هذا الحال حتى دق الباب، فالتفتت بنظرها الثاقب نحو الباب مستعدة لإلقاء قذيفتها التاليه، وقالت بحنق شديد:

- ادخل

وانفرج الباب انفراجة بسيطة وطلّ صلاح برأسه من خلفه قائلا:

- أدخل يادكتورة؟

- إيه اللي أخرك؟

- كنت بأكل الكلب

مرت هنيهه صامتة، كأن من سمع يحاول أن يضع الجملة في موضعها السليم، فاكتشف الجميع أن موضعها هو الضحك، ثم ارتجت القاعة ضحكًا.

نظرت الدكتورة إلى صلاح الذي اعتلت جبهته علامات الراحة بعد القلق، وكأنما هي الأخرى وضعت عبارته في موضعها السليم، فتغيرت ملامح وجهها العبوس حتى كاد يشبه وجه باسم، وأشارت بيدها ليدخل، فدخل مسرعًا وجلس بجواري، واندفعت من صدره الصعداء حتى ملأت صدره سكينة. بينما كنت أفكر: يالها من قصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...