الجمعة، 16 ديسمبر 2011

الدم والمشمش


الدم والمشمش
 
       خرجت من بوابة الجامعة, وأنا أتفادى بكتابى العريض لفحات شمس يوليو الحارقة المسلطة على رأسى, وحبات العرق تنزلق على وجنتىّ, بينما قدماى كانت تحملانى إلى مسكنى هاربا من الصخب والحر القائظ ومن النفوس الصيفية.
مشيت قليلاً إلى اليمين خارج البوابة ثم وقفت على الرصيف تحت اللافتة "موقف السيرفيس" وأخذت أعد نفسى للانتظار, وانتَظرَت بجوارى سيدة قاتمة الملامح صامتة اللقطات كأنها مشهد صامت يتشبث بصمته فى هذا الهياج العشوائى من الحركة والاختلاط, يلفها جلباب أسود لايخلو من علامات البؤس, يتدلى من قبضتها كيس ضئيل به حبيبات معدودة, أحسبها مشمش.
التفتّ إلى وجهها الشاحب؛ كان يشبه قطعة من أرض سوداء تشققت بؤساً, وما أنفها إلا نتوء برز من هذه الأرض, وشفتاها تلقى بين الحين والآخر بتمتمات صامتة غير مفهومة.
وقفت بجوارها وقد انتبهْت إلى صمتى المغرق فى ملامحها وقد أصبحت جزءاً من عالمها الصامت, فرجعت قليلاً إلى الوراء فأعود إلى عالمى, واستأنفْت انتظارى للسيرفيس, والشمس مازالت متعامدة على الرؤوس تتسلل بأناملها الجلود لتلتقط حبات العرق من وجوهنا المشوية بلفحاتها.
كانت سيارات السيرفيس تخطف الطريق ذهاباً مكدسة بالركاب, فأبيت أن أستوقف أحدها, وآثرت انتظار واحد به مقعد فارغ على الأقل.
وبعد ذلك بقليل اقترب نحوى سيرفيس متباطئاً حتى توقف أمامى, وأصبحت هذه السيدة خلفه, لم يكن به ركاب فسألت السائق:
-"إلى الموقف..؟"
-"لا, سأتوقف هنا"
 فتأففت من هذا الوضع الشبه متكرر. أما السيدة فاكتفت بالتواء رقبتها ناحية سؤالى, وعندما سمعت جواب السائق عادت إلى عالما الصامت العميق.
حجب عنى السيرفيس بعضاً من آشعة الشمس, فجاء رحمة إلى أن يأتى السيرفيس المنتظر..
  وبينما أقف فى هذا الظل شارد الفكر, متعب, أرهقنى اليوم بمشاغله وحرارته, فجأة تحرك الظل من تحتى حاملاً سيرفيسه إلى يسارى ببطء ومازال يتحرك ولازلت شارد الذهن, لاأهتم بما حولى حتى استوقفنى شئ غريب.
 شئ أسود تلتهمه الأنياب المطاطية, وأخيلة أصابع تستغيث, ألقى بنظرى إلى يسارى وقد اختفت السيدة البائسة ذات الجلباب الأسود.
فَهِمْت بوجهى نحو السيارة أضرب بقبضتى جدارها صارخاً نحو السائق: "توقف..توقف..توقف..",
فيتوقف السائق مجزوعا, ويهرول الناس منقادين بحبال من الحيرة, مشدوهين بصرخاتى, واكتنف المكان فجأة لغط كثير.
التفّت النساء حول السيرفيس وقد جمعن أكفهن بوجوههن وتحدقت أعينهن نحو الجلباب المفروم بين الإطارات, ورجال يستنزلون قوتهم العضلية جاذبين الجلباب المتهالك, وجمع آخر من الشباب يحاولون رفع السيرفيس, يطلق أحدهم صيحات لإثارة حماستهم؛ فتتساقط قطرات العرق من جباههم فتختلط ببقع الدماء من تحت أقدامهم. والبعض الآخر يضرب بباطن كفيه مرددين: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
ظننت أنهم إنما يجذبون قلبى أو يجرون هلعى, حتى سقط من صدرى حين رأيتهم يمسكون بذراعيها المتراخيان....


  ثم رأيت وجهها الدامى مُمسِك بعيناها المتجحظتان خارج جبهتها المتجلفة, بينما كانت رأسها المكشوفة تتدلى من على ذراع أحدهم والدم يتدفق من بين أصابعه. وقد صنع تدفق الدم ستارا أحمر غطى كل وجهها إلا عيناها المتجحظتان وثغرها الفاغر, حتى بدت لى وكأنها تنظر إلى شئ لانستطيع رؤيته....
وجهها لايبوح بأى موت ولايبوح بأى حياة. وتوقفت شفتاها عن إلقاء التمتمات!
يحاولون إفاقتها من غيبوبتها, والنساء تغطين مناطق عورتها ويمسحن وجهها من الدماء, ثم حملها الرجال مسرعين إلى السيرفيس لينقلوها إلى المستشفى الجامعى المجاور..
وتنطلق السيارة, وينفض التجمهر, ولايبقى سواى – مذهول مما رأيت, فقد أصبحت مثل هذا التمثال الباسق المنتصب أمامى, لايستطيع الحركة, لكنه يبدو أفضل حالاً منى كثيراً, على الأقل هو مبتسم!
     ألقيت نظرة أخيرة على السيارة وهى تتلاشى فى قلب الطريق الملتوى, ويتلاشى معها الخط الأحمر السميك من تحت الإطارات, ثم رحلت أحمل خطاى المثقلة والشمس من خلفى تهوى إلى مضجعها لتروى مآسٍ أخرى بآوار أشعتها, ولايبق سوى آشعة الشفق تقلب حبيبات المشمش المتناثرة فيعكس عليها حمرة الدماء....
  تُرى, هل تجسد شظف العيش فى حبيبات المشمش, ونزلت قسوة القدر فى بقع الدماء ؟!
* * *
قصة شاهدها ناظرى, وأدماها قلبى, ودونها قلمى

القصة الفائزة بالمركز الثانى فى مسابقة جامعة الزقازيق للقصة القصيرة


** بها بعض التعديلات عن المُقَدمة للمسابقة

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...