الأربعاء، 7 سبتمبر 2016

مبارزة الملل

هناك جروب على فيسبوك تسأل فيه أي سؤال عن أي مواد أو خدمات استهلاكية، فتأتيك الردود فورًا حول هذا الاستفسار سواء عن أسعارها أو جودتها أو حتى وفرتها في السوق، ساحر أليس كذلك؟ لا مع ذلك، ليس تمامًا، ذات يوم أردت أن أعرف شيئا مهما بالنسبة لي فطرحت هذا السؤال "هو لو حد عايز يسافر-يعمل رحلة بس ميكونش فيه تعامل مع البشر خالص، إيه الخيارات الموجودة؟". انتظرت ساعة كاملة أو أكثر حتى حصلت على لايك واحدة، لايك وحيدة لدرجة أن الفضول دفعني لأعرف من الذي قام بعمل لايك على هذا المنشور، وأنا أقول "قام بعمل لايك" لأن اللايكات في فيسبوك غالبا ما تكون خالية من المعنى. كان اسمه فريد عبد اللطيف. كانت صفحته مشدد عليها الحراسة بداية من صورة بروفايله بجستن بيبر، إلى الصور التي لا تربط بينها أي علاقة مفهومة، مثل دبين يتبارزان على بقعة جليدية منبسطة، وصور لمشروب البيرة من زوايا مختلفة، وصورة للهرم معدلة بالفوتوشوب ليمر فوقه قطار كهربائي سريع. شعرت بالضجر لعجزي عن الربط بين هذه الأشياء فأغلقت صفحته، وحذفت منشوري في الجروب، ونسيت الموضوع الذي لم أفكر فيه إلا عندما قرأت جملة في كتاب تبدأ ب"وامّحت مجموعة البشر سريعًا".
وصلتني رسالة في الثانية من صباح هذا اليوم، وأنا في العادة أسهر، كانت الرسالة من فريد عبد اللطيف، وأول شيء لاحظته أنه غير صورة بروفايله إلى صورة الدبين، فشعرت أني أعرفه من مدة طويلة. كانت هذه رسالته: "مساء الخير، عندي طلبك"، فاستفسرت منه "أي طلب؟" لأنه رسميًا لم يقدم نفسه لي، ولأني أردت ألا أكون "الشخص الذي اهتم بشخصية الشخص الوحيد الذي عمل لايك"، قال:

  - المكان اللي عايز تروحه من غير تعامل مع البشر
  - فين دا؟ 
  - أنا شغال هناك
  - ؟؟؟!
فهم قصدي وقال:
  - حضرتك التواصل بينا بيكون فيسبوك بس.
  - يبقا حضرتك مفهمتش قصدي
  - طيب إيه طلب حضرتك؟
  - لا انسى الموضوع خلاص، أنا نسيته فعلًا وبتأقلم
  - زي ما تحب
  - «لايك»

ونسيت الموضوع فعلًا، ربما استغرقت في الكتاب أكثر مما يستحق لأسأل مثل هذه الأسئلة التي لا توجد إلا في الكتب. عدت للقراءة مجددًا، وبعد ساعة، شعرت برغبة مفاجئة في اقتحام فيسبوك للخروج من الملل، وهذه ضريبة مُعتادة أدفعها مقابل عدم اعترافي برتابة الكتاب الذي أقرأه؛ أن يُلازمني الملل، وقد يدفعني هذا الشعور لقراءة بعض الرسائل القديمة بيني وبين الأصدقاء، فذهبت إلى تطبيق ماسنجر، وقد لاحظت شيئًا استغربت أني لم ألاحظه من قبل، وهو أن كل الرسائل تنتهي إما بإيموجي ضاحك أو لايك، فشعرت بوحدة شديدة لأني لم أر رسالة واحدة مكتوبة، ولاحظت أيضًا اختفاء جلسة التراسل مع فريد عبد اللطيف، وتحققت من أنه قد حظرني بالفعل. إن كان هناك شعور يُقابل الملل فهو شعور أنه تم حظري من قِبل شخص لا أعرفه بلا مبرر، وكلاهما شعورين ليسا على قائمة حالاتى الشعورية المفضلة رغم ذلك. لم أعط للموضوع أكبر من حجمه، وقرأت الكتاب بملل يحجّمه تساؤل حول سبب حظري.
عندما وصلت لنهاية أحد فصول الكتاب، أعطيت تفسيرًا وحيدًا وهو أن يكون من طبيعة هذه الشركة المجهولة أن تحظر كل المتعاملين معها، بالطبع سيكون هذا الفعل مشينًا في العالم الطبيعي ومُهينًا لسمعة الشركة، لكن في العالم الذي أردته فهو أهم سمة قد تتسم بها مثل هذه الشركة. والحقيقة أني أعدت التفكير في الموضوع، ليس طمعًا في مثل هذا العالم المُغرق في لامعقوليته، وإنما فُضولًا، فقمت بالبحث عنه في حسابي البديل ووجدته، فتحت جلسة مراسلة، وفكرت بم أبدأ، لابد أن تبدأ رسالتي على نحو مثل: "لقيت حضرتك عاملي بلوك، مش فاهم ليه، عمومًا أنا عايز اعرف أكتر عن الشركة؟"، لكني مسحتها، وكتبت أخري: "أنا طارق إبراهيم اللي كلمتك من شويه، ممكن أعرف تفاصيل الرحلات اللي بتنظموها؟"، مسحتها أيضًا، وكتبت واحدة فكرت فيها طويلًا: "إيه الإجراءات المطلوبة وتكاليف الرحلة"، لكني مسحتها كذلك، كانت جميع هذه الرسائل تبدو منطقية وواقعية بما لا يتناسب مع طلبي، لابد أن يتم طلب غير واقعي بشكل لا منطقي. وكان هذا الاكتشاف هو نهاية الفكرة تمامًا، ورجعت لقراءة الكتاب لتبدأ مبارزة جديدة أقرأ من أجلها الكتب المملة.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...