الجمعة، 12 فبراير 2021

حكاية منتصف الليل

4 يناير 2016

في تلك الليلة لوّح لي، لو لم نكن في منتصف الليل لظننت أنه يقصد أحد خلفي، وهذا يحدث عادة، أن يلوح أحدهم أو يبتسم ناحيتي، لكني أتجاهله كأنها غلطة. لكن هذه لم تكن غلطة، بل كانت موجهة لي أنا، فالميدان خالي تمامًا.
صاح من شرفة في الدور الأول، في حين كنت أسلك طريقي للعودة إلى المنزل، البرد قارصا، والكوفية تلف عنقي بإحكام، صاح مرة أخرى:
- تعالى متخفش.
لوحت له مستفهمًا وألقيت نظرة خلفي.
- تعالى بس.
اتجهت إلى موقع سقوط رأسه، وأصبح بيننا خطا قصيرا.
-معاك عشرين جنيه؟
لم أدر بماذا أرد، فكل الردود ستكون سخيفة في حضور ثقته الزائدة وكأننا صديقين:
-بتوع إيه؟
-شكلك معاك، هات عشرين جنيه وانا هوريك حاجة حلوه، بص لو حماده كان موجود كان هيديني العشرين جنيه.
سرى لدي يقين أنه مجنون، واخترت أن أعامله على هذا النحو:
-وحماده فين؟
-مات، مات من أسبوع.
-البقية ف حياتك، أنا هروح اجيب العشرين جنيه وارجعلك.
-ماشي بس متتأخرش.
-لا خالص، مسافة السكة، استناني هنا هجيلك.
-ماشي،انت اسمك ايه؟
-سامح، وانت؟
-محمود.
-ماشي يا محمود. هروح انا اجيب الفلوس.
ومشيت مبتعدًا منتظرًا أن يقول شيئًا أخرقًا، حتى صاح من خلفي:
-مش تتأخر يا سامح.
لم أرد عليه، وكأن الموضوع انتهى. لكنه لم يتوقف:
-سامح مش تتأخر..
فكرت أنه سيلاحقني بصياحه، التفت نحوه:
-هجيلك يا محمود.
لكنه كان ذكيا بما يكفي ليستنبط من نبرتي المُتعجّلة أنني أزوغ منه. نظرت خلفي فلم أجد له أثرًا.
لكني حثثت في سيري وأنا أفكر فيما جعله يختفي فجأة هكذا.
حتى سمعت:
- مش تهرب يا سامح.
نظرت خلفي، فوجدته واقفًا وسط الشارع، مرتديًا بلوفر قديم وبنطلون كستور. كان هزيلًا ومسكينا.
-إيه اللي نزلك، الجو برد.
-انت مش مصدقني؟
-مصدق إيه؟
-إن عندي كنز.
-ومين قال؟
-انا قلتلك!
ثم أمال رأسه قليلًا مشيرًا بإصبعه إلى شفتيه، مضيًقًا عيناه.
ثم صاح مبتهجًا:
-إيه دا صحيح، أنا مقلتلكش.. طيب تعالي معايا...
ثم جذبني من ساعدي كطفل، لكني قاومته، فنظر ناحيتي مستفهمًا، قلت:
-سيبني يا محمود، هروح اجيبلك ال20 جنيه.
قلتها ولم أكن خائفًا، لكن إحساسا بالشفقة جعلني متعاطفًا. وإلا لكنت دفعته عنّي وبنيتي أقوى منه.
قال:
-انت مش مصدقني ليه، والله العظيم- اللي خد حماده، فيه كنز.
-طيب عايز العشرين جنيه تعمل بيها إيه.
-هبيعلك الكنز ،أنا محتاج فلوس.
كان يمكنني أن أسأله أسئلة لا نهائية بخصوص كنزه، لكن ذلك سيكون مضيعة كبيرة للوقت، لذا فقد ذهبت معه، ولم ينبس بكلمة، لكنه كان متشبثًا بذراعي كأني سوف أهرب منه.
صعدنا سلمًا ضيقًا لا يسعنا معا، كانت تفوح منه رائحة قذرة، سوره متهدم والإضاءة شاحبة، نظرت إلى ملابسه، كانت قذرة كذلك، كان بائسًا.
عند نهاية السلم دفع بابًا خشبيًا متهالكًا، محدثًا صريرًا. وما أن دخلنا البيت، حتى ارتد الباب من تلقاء نفسه ليعود إلى وضعه الأول.
قلت وقد نفذ صبري:
-فين الكنز يا سيدي؟
أخذ يدور حول نفسه، مشيرًا مرة يمينه ومرة يساره، حتى استنفد جميع الجهات تقريبا، وتوقف قليلا ليفكر مبللًا إصبعه بين شفتيه، وعيناه تتابعان بحثًا مرهقًا في عقله.
فجأة توجه ناحية غرفة. ثم انحنى أسفل أريكة مزيحًا ملاءة تغطيها ليستخرج شيئًا ثقيلا، كان صندوقًا خشبيًا، حمله وجاء به إلي. كان مبتهجًا. كنت أتابعه باستغراب ودهشة بذلك الاحتمال الضئيل جدا، أن يكون هناك حقًّا كنز!
أخذ يفتح الصندوق بصعوبة، متوقعًا أن يتوقف ليفكر في طريقة فتحه، لكن بحماسة شديدة فتحه، ثم أشار إلى ما بداخله، وأنا أمعن النظر بمحاولة بطيئة للاستيعاب، التقط كيسًا وفتحه، ثم نثره فوق بقية الأكياس. سألته:
-إيه دا؟
فكر بصوت كالأنين، ثم قال:
- دا بانجو.
لم أشعر بشيء سوى برجفة غير مبررة من صدري، كان حسن التصرف يقضي بأن أغادر فورًا، لكن شيئًا بداخلي حاول إقناعي أني أمام كنز، وتذكرت، وبشكل يدعو للشفقة، أني بالفعل ليس معي عشرين جنيه، وربما هذه هي هدية السماء.
-وانت عايز تبيعلي الكنز دا ليه؟
-عايز فلوس...
-تعمل بيها إيه؟
-أشتري عربية.
-تشتري عربية بعشرين جنيه ازاي.
قطب حاجبيه، وفكر قليلًا بطريقته التي أصبحت مألوفة لي، ثم قال:
- لا.. عشرين ألف جنيه.
يا تُرى ماذا نسي أيضًا، شعرت أني في ورطة لو لم أغادر حالا قبل أن يأتي أحدهم نسي أن يذكره لي. قلت وكأن شيئا لم يكن:
-أنا هروح اجيب العشرين ألف جنيه واجيلك.
صدقني هذه المرة واثقًا من أن رؤيتي للكنز عزّزت من عرضه.
لكن قبل أن أغادر استوقفني:
-استنى هوريك البانجو بيتشرب ازاي
(12 فبراير 2021)
لم أدرِ بماذا أرد هذه المرة، وقد بدا غير قابل لتصديق أي حيلة أخرى، كأنني صديقه.
تراجعت بظهري للخلف قاصدًا الباب، وقد بدأ في فتح أحد الأكياس، ثم أخد يعب منها في أنفه وفي فمه بلا وعي أو هدف سوى الاستعراض أمامي. كنت قد تراجعت مسافة معقولة لكن ما إن لمح انسحابي حتى جرى نحوي وفي يده الكيس ثم رماه في وجهي وهو يصرخ سعيدًا منتشيًا.
أظنني استنشقت بعضًا منه قبل أن أمسحه بعصبية بكامل ذراعيّ. اقترب مني وهو يقول بهدوء ومسكنة:
هات عشرين جنيه
لكني دفعته بقوة خاسرًا كل هدوئي ورباطتي حتى سقط على الأرض، وجريت إلى الخارج وأنا أمسح كل أثر لتلك البودرة الغريبة عليّ. توقفت عند مدخل البناية أنظر حواليّ وأنا أفكر في الوقت ذاته في سامح فقد سقط بقوة على الأرض. لم يلاحقني وقد أقلقني هذا، وجعلني أفكر في السيناريوهات القاتمة.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...