الاثنين، 26 نوفمبر 2018

٢٠١٨

"أهلا بك في المجتمع"
رحّب صلاح، ذو الخمس وثلاثين ربيعًا، بوليده الجديد وهو يحمله بين ذراعيه.
صلاح كاتب هاوٍ له عمود في إحدى الصحف يتكلم فيه عن بعض المواضيع الاجتماعية، له مقالة أحدثت ضجيجا في أوساط الصحافة وفي دوائر المثقفين وخلّفت نقاشات طويلة، كان موضوعه قوانين المجتمع والعودة إلى الطبيعة.


وهي باختصار تفترض أن دفع المجتمع المعاصر للأفراد للتقيد بقوانينه وأعرافه التي ينفرد بها الإنسان الحديث تخلق مزيدا من القوانين التي تعمل على الحفاظ على هذا النسق "العقيم"- كما افترض. يستشهد ببعض الظواهر الطبيعية التي يرى أنها مثالا واضحا لا يقبل الشك على أن مثل هذه القوانين هي ما أنحت الإنسان عن أمه الطبيعة، لأن قوانين الطبيعة والمجتمع لا يتماسان عند أي نقطة. مثلا عندما تُسكت طفلا صغيرا عن اللعب بغطاء حلة، كيف يمكنك أن توفق بينها وبين سقوط شجرة بعد إعصار شديد. بالطبع غطاء الحلة ليس طبيعيا ولكن النداء الذي دفع الطفل نحو هذا الفعل هو الإعصار. وكانت رسالته: "اترك الطفل يلعب بغطاء الحلة". كان يرى أن الطبيعة بإمكانها إصلاح ما أفسده المجتمع، يرى أن عصر الاكتئاب ما هو إلا تراكم سنوات طويلة من قوانين المجتمع، قوانين افعل ولا تفعل- قوانين التكيف. كان يكره التاريخ ويؤمن بالإنسان الكوني.
وأنت تقرأ كتاباته لابد أنك ستشعر أنه يكتب أثناء اصطياده لفريسة الغداء أو- في بعض المقاطع على وجه الخصوص – وهو يضاجع زوجته في العراء. وهي أفكار تطرق لها على حياء، ربما لأنه لا يملك شجاعة تنفيذها أو أنه يخشى أنصار المجتمع الذين فتحوا عليه النار في إحدى الجرائد القومية بسبب مقالة كشف فيها عن حلول لتوفير المياه المهددة بالنقص، كان من ضمن هذه الحلول "العودة إلى الطبيعة"، اتهموه فيها بالانطوائية وعدم القدرة على الاندماج في المجتمع- الأمر الذي لا ينكره. يقول بعض المتحررين (مجموعة ليس لديهم انتماء إلى فصيل دون آخر ولكن يشغلهم حرية الفكر قبل أي شيء) أن الحكومة تناصر المدرسة المجتمعية لأنها تساعدها على فرض مزيد من القوانين ومن ثم مزيدا من السيطرة على المجتمع، في وقت تسعى فيه الحكومة إلى فرض مزيد من الضرائب ورفع الدعم، مما يشكل تهديدًا مباشرا للطبقة المتوسطة والتي ينتمي إليها صلاح. 
أنجب صلاح ابنه- فريد- في ظروف عادية جدا تناقض أفكاره الثورية، فقد تعرف على زوجته في إحدى الندوات عن طريق صديق يشجع تزاوج المثقفين، وتزوجا بعد أربعة أشهر. وهذا ما شجع أحد معارضيه أن يكتب فيه مقالا بعد أن استقبل ابنه فريد، عنوانه: "ماذا عن غطاء الحلة الآن يا أستاذ صلاح؟".


كان يشعر بالقلق لأن غريزة الأبوة ربما ستدفعه إلى التخلي عن بعض مبادئه لأنه يريد أن يعيش ابنه حياة طبيعية- بمفاهيم المجتمع. وبدأ يشعر أنه ربما يحتاج إلى مراجعة أفكاره، أو بلورة مبدأ عن النظرية والتطبيق وأنه حامل لواء النظرية وأن تطبيق نظرياته يحتاج دفع سياسي.
بالطبع كان للتقلبات الاقتصادية أثرها البالغ في صياغة هذا المبدأ، أو بمعنى آخر تأجيل صياغته، فمثل هذه الصياغة تحتاج رفاهية لا تتناسب مع ارتفاع أسعار حفاضات الأطفال، بإمكانك أن تشعر بهذا الألم الممض وهو يتنازل عن كل نظرياته في مقابل الرضوخ للزيادة الغير محكومة في أسعار الحفاضات. ذات مرة سمع سعرا جديدا، فقال بتلقائية مدهشة للبائع المتشبع بقوانين المجتمع:
أعجزني المجتمع- وكانت يده تغوص في جيبه ليقدم محفظته للبائع.
خرج ومعه عشرة صناديق من الحفاضات تحسبا لأي زيادة قادمة- الشيء المفروغ منه تقريبا. أصبحت لديه تقنيات مشابهة لمواجهة الغلاء مثل شراء الخضر والفاكهة من الحي الشعبي الفقير بالجملة بدلا من هايبر ماركت، وبعض الحيل النادرة الأخرى.
تطورت هذه الأفكار خصوصا مع ميلاد فريد. ولكن نزوة الطبيعة كانت تراوده وتضرب أوصاله المُروّضة بقوانين المجتمع بين الحين والآخر، لكن، وبعد أن أصبح فريد ابن عامين، ظهرت مسؤوليات نبهته إليه زوجته-يارا- والتي كانت تكتب الشعر الحر، لكنها توقفت عن الكتابة واكتفت بعاطفة الأمومة. كانا معا يفكران أن الزواج كان غلطة وها هما يدفعان الثمن. ذات ليلة وبعد أن مارسا الجنس بلا حرارة طلب منها أن تُسمعه بعض الشعر مما كانت تكتبه، لكنها نست الكثير، فقال "ارتجليه إذن"، أخذت تفكر وتسرح بخيالها في بعض الصور وتلت عليه بعضا مما أمدتها به قريحتها الشعرية، لكن ذلك كان أسخف شعر يمكن أن يسمعه ذواقا للشعر، لم يخبرها صلاح بذلك، لكنها بكت مع شعورها بالعجز وفقدان قدرتها على التعبير عن نفسها، لم يفهم صلاح هذا واعتذر عن أداءه الجنسي المحبِط. بكى فريد وقامت يارا تغني له أغنيةً من أغاني الأطفال. 
وصل ارتفاع الأسعار حدا فكر معه صلاح في ضرورة البحث عن عمل من المنزل بجانب الكتابة التي لم تعد تغطي حاجات أسرته، ليس فقط لسداد قيمة الفواتير المستحقة ولكن تشبثًا ببعض الأمان المادي، في ظل التقلبات الإقتصادية الغير مأمونة.
بعد بحث وجد صلاح وظيفة حرة للعمل مترجما لبعض المواقع العربية. كان أول مقال ترجمه بعنوان: "عشر أدوات تساعدك أن تصبح مصورا محترفًا بكاميرا الموبايل" لم يهتم للمحتوى الذي يترجمه، كان العائد لا بأس به، يساعد على نفقات البيت. جربت يارا شعور قساوة المجتمع وبدأت تقرأ بعضا من مقالات الأستاذ صلاح، والتي كانت ترفض مبادئه في بداية تعارفهما، الأمر الذي أتاح لهما فرصًا ذهبية للمناقشات والحوارات المتعمقة لم يكن لتُتاح لهما لو كانا يسيران على نفس الدرب، كانت معجبة على وجه التحديد بنظرته للجنس، وأخبرته أنها تحب هذا النوع من الجنس أيضا، بعدها قررا أن يتزوجا- مسلكهما الوحيد للتجريب في ظل المجتمع.
كانت الفكرة التي أرقتهما أشد أرق، هي على أي مبادئ يربيان فريد عليها؛ مبادئهما أم مبادئ المجتمع. عندما فكرا في الإنجاب كان لهما حلا تعويضيا عن الفشل في الجنس ومبادئهما التي اكتشفا أن لا قيمة حقيقية لها على أرض الواقع، فأصبح فريد هو التطبيق الذي فشل صلاح في إجراءه على نفسه.
تحسنت الحالة المادية لصلاح وأسرته وتوفر الأمان المطلوب أمام التحديات الاقتصادية الجديدة، أصبح أقل تخوفا من زيادات قادمة في الأسعار وضمن لنفسه مكانا مرموقا في الطبقة المتوسطة، يتابع كرة القدم في وقت فراغه. يتذكر مؤلفاته في شيء من الاغتراب وانقسام الشخصية. أصبحت زوجته أكثر منه برودا لكنها تتمتع بصحة جيدة، وأنجبا ليلى.
ذات مرة لعب فريد بصحن طعام وأحدث ضجيجا، فقام وانتشله منه بعنف، وكان يترجم مقالا جديدا، حينها بكى فريد كثيرا... كثيرا مثل الإعصار.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...