السبت، 26 أكتوبر 2019

شخصان

    أكره العنصرية، وأمقت من يمارسها، لكني مؤخرًا اكتشفت بداخلي شخصًا عنصريًا، يتحرك بالتوازي مع الكاره للعنصرية الذي أفتخر به، لاحظت أن العنصري بداخلي لا يؤذي أحدًا مطلقًا، لهذا تركته بدون تقويم، بل جعلت أضحك منه ومن عنصريته التي يعتقد الشخص الكاره للعنصرية بداخلي أنها مضحكة أيضًا، ولهذا عاشا متسالمين، واحد يدافع عن الملونين وأصحاب الجنس المختلف ومتواضعي الجمال، وآخر يمارس العنصرية عليهم. لقد أعجبني هذا الخليط. وأنا هنا أقص واحدة من هذه الحكايات:

   صعدت الباص في نهاية يوم عمل، وجدته مزدحم، ولاحظت أن أغلب الجالسين من أصحاب البشرة السوداء الذي يُشار إليهم عادةً -ولسبب وجيه- ب"الأفارقة"، وقفت قليلًا، قال الشخص العنصري بداخلي: "مش ممكن! تبقا بلدنا ونقف في الباصات، وياخدوا أماكنّا السود!"، وأخذت أتشوف أحدهم في انتظار أن يقوم لي لأجلس مكانه، لأنني على الأقل سوف أفتح كتابًا وأقرأ، لهذا فأنا مفيد أكثر منه، ناهيك عن لوني الذي ليس بالطبع أسودًا، وحين توصلت إلى هاتين الفكرتين عضضت على شفتي لأمنع الضحك، ونظرت إليه مرة أخرى لكن هذه المرة معتذرًا.
كنت أقف خلف مقعد يجلس عليه رجل أربعيني ممتلئ وذو جسم عملاق، وبجانبه فتىً أفريقي عاقدًا ذراعيه، يجاهد نفسه للتأقلم في مجتمع قمحيّ البشرة، بأن يكون صامتًا، لكن صمته لم يكن عاديًا، ولكنه صمتًا متكتلًا، مكبوتًا، يرهب رصاصة قد تطاله في أية لحظة، وكان الرجل بجانبه يتحدث بانطلاق وبحبوحة نحو صديقه الواقف بجواره- أمامي مباشرة، وبدا الأفريقي منزويًا أكثر، حذرًا أكثر في صمته، مطيل النظر بلا هدف إلى الشباك الذي لم يشفّ سوى عن ليل قاتم. فجأة وبشكل سحري، تحول كلام الرجلين نحو الفتى الأسود، وسأله في استظراف عن شيء بلا معنى، كان أخرسًا، يقاتل من أجل أن يبدو طبيعيًا، لم ينبس بكلمة، فقط تحرّك حركة بسيطة وهو عاقد ذراعيه لا زال، بدت لي حركته البسيطة هذه أنها استغاثة منه لنفسه بأن يتماسك، ضحكا منه ضحكة متسيّدة، متكبّرة، وهو عاد إلى النظر عبر الشباك الزجاجي، وحاجباه بالكاد مقطبين، أراد أن يرسم بهما وجهًا نافرًا، لكنهما لم يخفيا شعوره بالهلع من هذا الاحتكاك المباشر مع القمحيين. قررت في سريرة نفسي أن أشتبك مع هذين القمحيين لو عادا الكرّة مرة أخرى مدافعًا عن الشاب الأسود، وهم لا يزيدوني وفرة في الجسم أو القمح. لكنهما لم يعودا، وأخذا يتسامران بعيدًا عنه، كالذي يلقي فتات خبزٍ لعبدِ، في دعّة من وضعيهما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...