السبت، 21 سبتمبر 2013

الحرافيش

My rating: 5 of 5 stars



تلك الترنيمة الأعجمية التى لم يفهمها عاشور الناجى ولا حفيده الصنو عاشور ربيع الناجى، تلك الترنيمة التى تسربلت دائما بدكنة الليل وتغزلت بالنجوم وبالنسيم وبالحرية، كانت هى الملاذ الآمن لكل آل الناجى، الخيّر منهم والشرير.. تلك الترنيمة التى جمعتهم على قلب واحد وحلم واحد، اختلفوا كثيرا، لكنهم ما اتفقوا إلا بأحلامهم وأمانيهم المُعذبة بأناشيد الحرافيش الغامضة..
ليس أشق من أن أكتب مراجعة لعمل كهذا، لذا فالحظ ليس غيره هو ما ألوذ به..
ـــــــــــــــــ
ملحمة الحرافيش هى العمل الثانى الذى أقرأه لنجيب محفوظ بعد قشتمر.. لنُسلّم إذا بعبقريته، ونمضى قُدُماً فى أغوارها:

هل تعرف معنى الأسطورة؟ إنها شيء غير ملموس، شيء ينضح بالمثالية، إنها الرمز الذى لا يمكن أن نراه لكن نستشعر آثاره... لا أعرف- حين كنت فى الفصول الأولى من الملحمة- كيف مر أمامى هذا الرجل البسيط سائق الكارو عاشور الناجى دون أن ألمح فيه أى معنى للأسطورة والرمز، والآن بعد نهاية الملحمة، ليس لدى الشك فى أسطوريته، لقد حطم نجيب محفوظ قواعد الأسطورة، فآل الناجى لم يعاشروا هذا الرجل، لم يعرفوه كما عرفته أنا ولمست وجوده، ومع ذلك ليس لدى شك- كما ليس لديهم- فى أسطوريته.. هو أسطورة من الواقعية، أسطورة العدل والإباء، أسطورة العزة والكرامة..
فى بداية الملحمة استشعرت بعض الملل، وأصابتنى الريبة من كونها عمل عظيم كما يدعون، وهذا بالضبط ما حدث مع بداية قشتمر، لكن بتوغلى داخل الأحداث والشخصيات، تلاشى الملل تماما، شخصيات تعج بالحركة، ليس هناك شيء متوقَّع، عنصر المفاجأة ينتصر دائما.. وبهذا حطم نجيب محفوظ فكرة كانت متلازمة معى: أنه لا علاقة بين المتعة ورقى العمل الأدبى، بل إن أكثر الأعمال الأدبية رقيّا غالبا ما تكون شديدة الملل، اقرأ مثلا: ناس من دبلن لجيمس جويس، أعمال إبراهيم أصلان (عميد الملل العربى بلا منازع) بعض أعمال يحيى الطاهر عبد الله (العظيم) ... ملل ملل ملل.. لم أتذمر ولم أشكُ، أحترم كل هذه الأعمال وتقييمى لا يعتمد إلا على القيمة الأدبية والفنية، وترسخت لدى فكرة أنه لا رقى بلا ملل!
لكن حين جاء هذا النجيب العظيم بهذا العمل تلاشت الفكرة تماما.. ثم أنه بعد تفكرى قليلا فى الأمر، قلت: أليس الإنسان حين ينضم حديثا لجماعة من الناس أو ينتقل للعيش معهم يشعر بالضيق والملل فى البداية ثم يتلاشى هذا الشعور بمعاشرتهم ومعرفتهم! هكذا يكون الواقع تماماً!.. إذا فهو قانون المعاشرة، فعالم نجيب محفوظ لا تفته فائته، فأبسط التفاصيل يهتم بها.
ـــــــــــــــــ
قراءة هذا العمل أعادت لدى كل حساباتى بخصوص اللغة، لدرجة أنى تقريبا فقدت أسلوبى الذى كنت أكتب به على الرغم أنه لا بأس به، حتى هذه المراجعة أكتبها بصعوبة شديدة كأنها المرة الأولى التى أكتب فيها!
ففى هذه اللغة اكتشفت متعة من نوع آخر؛ متعة الوصف، فهو يصف كل موقف بدقة متناهية تجعل منها ألذ اللحظات التى يمكنك معايشتها، لغة تناسب جموح الخيال وطموحه.. بها يصبح الخيال ثملاً بروح الكمال..
ـــــــــــــــــ
الرمز الدينى
بعد الهجوم الذى شُنَّ على رواية أولاد حارتنا، أراد نجيب محفوظ أن يخفف حدة الرمز الدينى فى روايته الجديدة فكانت ملحمة الحرافيش:
الرواية فيها رمز دينى واضح، وهذا رأيى: فأول خلق الحارة كان عاشور الناجى، رمز العدل والكمال، وخاتم الفتوات هو عاشور ربيع الناجى، ثم انظر: أم عاشور ربيع الناجى اسمها حليمة، توفى أبيه فى السادسة، وكان عاشور راعى غنم.
ابتسم.. لقد فعلها مرة أخرى :D

وهناك رأى آخر، ليس رأيى، بأن الإسقاطات تخص الشيعة: فقد تكون الملحمة انعكاساً لنظام الأئمة، فعدد الأئمة مساوٍ لعدد أجيال الملحمة وأن عاشور ربيع الناجى هو المهدى المنتظر، ويدعم هذا الرأى الأشعار الفارسية الموجودة فى الملحمة..
لكنى لست مقتنع بهذا الرأى خصوصا وأن الحديث عن علاقة شجرة الناجى بأئمة الاثنى عشرية غير دقيق، كما أنى أستبعد أن يخصص نجيب محفوظ هذه الرائعة فى الرمز للشيعة!
هذا الرابط فيه هذا الرأى ودراسة لا بأس بها عن ملحمة الحرافيش:
ـــــــــــــــــ
لكن وسط هذا الإجلال وتلك الفخامة، فإنى أؤكد على شيء هام، هذه الملحمة هى رواية إنسانية أكثر منها إجتماعية، فاضمحلال عنصرى الزمان والمكان أفقدا الرواية حسها الإجتماعى، وأرى أن خيرى شلبى فى ثلاثيته تفوق على نجيب محفوظ بخصوص هذا الجانب الاجتماعى ووصف الحارة، لكن لا أحد يضاهى إنسانية نجيب محفوظ، ونوبل لا تُمنح إلا لكتاب الإنسانية..
ـــــــــــــــــ
أليس من الرائع أن يكون لدينا أديب عظيم حائزا على نوبل، نقرأ له أعماله من دون أن نضطر للبحث عن ترجمات لها :)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

هجرة مواقع التواصل الافتراضي

      لا أتخيل كيف سيبدو يومي من دون الساعات الطويلة التي أقضيها في تصفح تويتر أو فيسبوك أو تطبيقات التواصل الأخرى مثل ريديت. أتاح لي العمل ...