الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

لو أنّ اللوحة تتكلم!



نظرَ مليّاً إلى اللوحة المؤطرة بإطار خشبيّ مذهّب، وتأمل الجملة المكتوبة بإتقان أثار انتباهه:
(لا إله إلا الله) كانت (لا) ممتدة من أول اللوحة حتى آخرها لتحتوي بداخلها باقي الجملة، وكانت (الله) تعلوهم جميعاً فى شموخِ واضح ولمّا أمعن في الجملة شعر بخجل عجز عن تحديد كنهه، ولما كان وحده، والخجل الغريب هذا يضيق عليه أكثر، ترك اللوحة واستلقى على الأريكة، وكانت تأتيه رغماً عنه انعكاسات خرزات اللوحة على جانب عينه اليسرى، كانت هناك لوحة أخرى في مواجهته، هرب منها ولم يحاول أن يعرف ما المكتوب بداخلها.
ظلت (لا إله إلا الله) تتردد داخله، كأن آخر داخله يواجهه بخجله، كأن هذا الآخر يود لو يقتلع من فمه اعترافا ما، لم يكن يعرف كنه هذا الخجل ولا طبيعة الاعتراف ولا من يكون هذا الآخر! فكان الضيق يزداد عليه حتى ضاق صدره بالغرفة، وقف مرة أخرى أمام اللوحة وسار بعينيه على طول حافة كل حرف منها كأنما يود أن يقتل خجله بالملل، ثم أمعن فى الخرزات وطريقة تثبيتها وتناسق ألوانها، ولمّا ملّ من شغفه المفتعل أصدر تنهيدة طويلة مسموعة بوضوح، قتلت الآخر بداخله، أو أنهما اندمجا معا فى واحد، ونظر إلى اللوحة بطريقة مختلفة، لم تكن نظرته إلى الخرزات أو الحروف وإنما فى (لا إله إلا الله) ذاتها، ثم قال:
- واجهني، لِمَ تخيفنى؟ أنا لا أعرف ما هذا.. أنت تعرف عنى كل شيء، أخبرنى.. من ذا الذى بداخلى، من ذا الذى يقتلنى؟
ولما انتهى، خرج الصمت من قمقمه ليُعيد كل شيء إلى مكانه؛ سكون الغرفة، ال (لا) الممتدة من أول اللوحة إلى نهايتها وال (الله) الشامخة، والخرزات التى تعكس ضوء المصباح، والإطار الخشبىّ المذهب الذى يحتويهم بداخله، ثم أحس كم هو سخيف أن يتحدث إلى لوحة. ولما كانت قد تسرّبت إلى نفسه بعض النشاط ساعدته على المواجهة، فإن نشاطه هذا ما لبث أن غاص فى القلق أكثر، ولم يعْدُ عن كونه حالة عارضة ليستمر فى ذاك التيه الذى يعجز دائما عن تحديد سببه.
هُييء له أن أحدا فى الكون سيسمعه فيُشفق عليه، فتتحدث اللوحة أو ينفلق سقف غرفته على الأسرار، أو أنه يُبعث حيث يستطيع أن يُقابل كل اللذين بداخله وخارجه، لكن شيئا من هذا لم يحدث، وأحس فجأة بعداوة داخله لم يعهدها فى نفسه من قبل، فكره اللوحة وضايقه اللون الرماديّ للخلفية، لكنه تركها خلفه واستلقى على الأريكة في استرخاء مصطنع أيقظ بداخله ذاك الآخر مرة أخرى، ولما أيقن أن لا فُكاك منه سلّم نفسه إليه وإلى أفكاره وإلى انعكاسات خرزات اللوحة التي هزمته فى النهاية، وأمعن فى اللوحة التى أمامه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...