الجمعة، 22 مارس 2024

هجرة مواقع التواصل الافتراضي


   
  لا أتخيل كيف سيبدو يومي من دون الساعات الطويلة التي أقضيها في تصفح تويتر أو فيسبوك أو تطبيقات التواصل الأخرى مثل ريديت. أتاح لي العمل من المنزل هذه الساعات المجانية بشكل لم يتوفر من قبل. 
لا أتخيل، لأني لا أتذكر أنني جربت يوما من دون هذه التطبيقات*، ليس لدي تصور كيف سيتم ملء الفراغات في يومي، إشارة تبدو سيئة للغاية لواقع الحال. تراكم طويل من التأجيل المستمر لخلق عالم حقيقي وليس افتراضي. 
لماذا أهرب دوماً من مواجهة نفسي، لماذا أصبحت ترهقني الأعمال الذهنية كالقراءة، ومشاهدة الأفلام، وأي نشاط ذهني، كأن في صحوة العقل شيئا يدعو للهرب؟ أيا كانت الفائدة التي تعود علي من مواقع التواصل فالضرر الواقع على العلاقة بيني وبين عقلي لا يمكن تعويضه، كأني أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما هجرة مواقع التواصل الاجتماعي ومواجهة حالة الفراغ بشجاعة من دون مسكنات، أو البقاء فيها واستمرار حالة التشتت وفقدان صلتي مع نفسي.

لكن لماذا مواقع التواصل بهذا السوء؟
لم تظهر هذه الحقيقة بجلاء سوى بعد تحول تويتر إلى إكس وتفضيل طريقة عرض المحتوى، ليس بالترتيب الزمني، ولكن بمقاييس الاستهلاك الشعبي الكمّي، رغم أن طريقتيّ العرض كانتا متواجدتين جنبا إلى جنب من قبل، لكن الدفع بالطريقة الثانية المُسمّاة "فور يو" يظهر أنها المفضلة لإكس، ولا يمكن تجاهلها من جانب المستخدم. هذا النوع من المحتوى يعتمد على نزعة الاستهلاك الغير مدروس، مثل شراهتنا أحياناً للطعام غير الصحي لأسباب لا تتعلق بحاجتنا للغذاء.
يمكن التعرف على هذا النوع من الاستهلاك بطرح سؤال بسيط: هل أنا بحاجة إلى هذا المحتوى؟ 
في الغالب تكون الإجابة "لا". هذا المحتوى ليس من اختيارك أنت، لا يمثل موافقة صريحة منك للسماح بشغل هذا المحتوى "المساحات الفارغة" في عقلك. بينما المحتوى القائم على الترتيب الزمني يمثل موافقة صريحة منك، بما أنك متواجد على المنصة في هذا التوقيت، ولأنك اخترت متابعة مصدر المحتوى. ولا يمكن تبرير استهلاك المحتوى الألجوريزمي بجودته (سوف أستخدم مصطلح "المحتوى الألجوريزمي" إشارة إلى اقتراحات منصات التواصل القائمة على جذب انتباه المستخدم في مقابل المحتوى الذي اختاره المستخدم بالمتابعة)، يبدو لي هذا التبرير تنازلا كاملا عن حقي في الاختيار وتقرير ما أريد مسبقا، كأنه اعتراف بقصوري عن تحديد ما أريد وما لا أريد. أتذكر الآن مقولة "المبادئ لا تتجزأ"، مقولة أكرهها لغموضها، لكن ليس أفضل من الحالة القائمة تطبيقا لها.
يجب أن تعكس جميع أفعالنا قراراتنا العاقلة، كما يجب أن تكون اكتشافاتنا نتاج خبراتنا نحن؛ لا أن يتولى أحدهم (ألجوريزم إكس مثلا) هذه المهمة مكاننا.

إليك ظاهرة غريبة وواحدة من الآثار المريبة الناتجة من الانغماس في تطبيقات التواصل؛ لاحظت أنني أثناء ممارسة الأنشطة المنزلية الروتينية مثل غسيل المواعين أو الطبخ، أجد نفسي غارقا في سيل من جدالات تويتر التي مرت عليّ أثناء التصفح، وحوار وهمي يدور بيني وبينها وخيالات متسلسلة تقود الواحدة للأخرى مشكلةً ضجيجا لعالم وهمي، ولا مخرج من هذا الضجيج سوى بالانتباه إلى هذه الحال وانتشال نفسي منه فورا.
أعرف أن هذه الآثار ربما هي دليل على خواء حياتي من نشاط حقيقي أكثر من إلقاء التهمة على مواقع التواصل. في الحقيقة المشكلة ذو شقين، ولإيجاد حل لها يجب التعامل مع كل شق على حدة.

حساب الخسائر من هجرة مواقع التواصل الافتراضي
الخسارة الأولى التي أفكر فيها بشكل حنينيّ، أني سوف أخسر حساب تويتر المُنشأ منذ عام 2010، زمن طويل من التواجد على تويتر، شعوري به يعكس تثميني لهذا التواجد كأنه تاريخ، وهو تثمين وهمي لا قيمة حقيقية من ورائه، فما خسارة حساب قديم غير آلاف التويتات أغلبها بلا قيمة؟
التعويض: يمكن طلب نسخة من محتوى الحساب من تويتر، وبهذا تكون الخسارة محدودة. ربما فيما بعد يتم تنقيح هذا المحتوى ونقل الجزء القيّم منه إلى المدونة. 

الخسارة الثانية، أني كمحب للكتابة والتدوين، سوف أخسر فرصة التدوين القصير. سمح لي تويتر بتدوين نوع من الخواطر غير مناسب لمكان سواه، سواء مدونتي أو على تطبيقات الملاحظات الشخصية. هي نبضة في عروق متابعين وهميين؛ نوع من المتابعين ليس لهم صورة أو حس، لكنهم يستقبلون هذا النوع من التدوين ويتفاعلون معه بصمت، هذا في مقابل التدوين في المدونة، حيث الخواء، ولا فرق هناك بين التدوين وعملية الأرشفة، أحيانا يكون دافع التدوين هو التواجد بين مجموعة من المتابعين أو القراء بغض النظر عن تفاعلهم الذي استطعت بعد تجارب كثيرة الاستغناء عنه، الأمر الصعب لدى الكثير من "المبدعين"؛ حيث أحيانا يكون من الضروري الشعور بوجود القارئ. وهكذا كانت مدونتي دائما مكانا لحفظ كتاباتي (بالتحديد قصصي) بعد أن أنتهي منها على تطبيقات الكتابة. بالخروج من تويتر سوف تنقطع صلتي بالقارئ الوحيد الذي أعرفه.
التعويض: وراء كل خاطرة قصيرة موضوع أكبر يمكن تحويله إلى بناء ناضج مُفعم بالأفكار الحقيقية بدون غموض التدوين القصير، مثل هذا المقال الذي بدأ بخاطرة نشرتها على تويتر:



الخسارة الثالثة، فقدان مصادر المعلومات المهمة في مجال عملي والأخبار العامة.
التعويض: الاشتراك في الرسائل البريدية للمصادر الإخبارية الموثوقة، ومتابعة المصادر الأخرى على التطبيقات المنافسة لتويتر لكن لا تقدم محتوى ألجوريزمي، مثل ماستادون، ربما الاشتراك في نشرات بريدية إذا توفرت في هذه التطبيقات. 

في النهاية، فقد خلقت بيئة العمل من المنزل فرصة لا تُعوّض للبحث عن هوايات واكتشاف الذات، وإثراء معنى حياتنا، سيكون من الخسارة أن تضيع هذه الفرصة في تطبيقات التواصل الافتراضي، والتحديق لساعات في شاشة الموبايل.

***تحديث (بعد شهر من ترك تويتر) ***

تتكشّف أمامي الآن أشياءٌ لم أكن لآراها بوضوح وقت تفكيري في هذا القرار، يمكن تلخيص هذه الأشياء في الفكرة التالية: أنا لست بحاجة إلى الآراء، لكن بحاجة إلى الأفكار... الآراء شيء سخيف أو للدقة ليست الآراء في مجال اهتماماتي الشخصية، لا أحب الجدالات، وأميل للصمت والعزلة عن الدخول في نقاش، وإن حدث ودخلت في جدال أحاول الخروج منه بأسرع وقت وبأقل الخسائر، ولا أعرف لما احتجت أربع عشرة سنة للوقوف على هذه الحقيقة. ربما الوصول للثلاثين هو ما كان مطلوب لرؤية المزيد من الحقائق. 
سألني صديق: "طب وكدا هتسلي وقتك عالموبيل بايه؟". 
قلت له: "النقطة دي مهمة. وعايز أعدل على التدوينة عشان أضيف فكرة "كسم الآراء"، معرفتهاش غير لما سبت تويتر، وعشت حياتي من غير آراء.
ووصلت لقناعة على الهامش برضو وهي: أنا محتاج أفكار مش آراء.
التجربة دي أثبتت بشكل يدعو للدهشة، إن مشاهدة تيكتوك مثلا أو فيسبوك مش مضرة بنفس قدر تويتر."

وازنت بين مشاهدة سيل من فيديوهات رييلز أو تيكتوك وبين ثريد من تويتات تويتر. يترجّح عندي مشاهدة هذا النوع من المحتوى الاستهلاكي أكثر من تويتر، رغم الضرر الناتج من مشاهدة هذا النوع المُدر للدوبامين.

ربما سوف تستحضر هجومي على النزعة الاستهلاكية المتصاعدة لتويتر، وأنا أرجح كفة رييلز وتيكتوك. لكن ببساطة الأمر عندي يتعلق بطبيعة العقد بيني وبين الخدمة التي أنا بصددها، فوجودي على تيكتوك في وقت ما هو تصريح مني برغبتي في محتواه في الوقت الحاضر، ونظام المتابعة ليس من أولويات هذه الخدمة (متابعة أشخاص واهتمامات "فولو") فأنا لا أتابع أحد تقريبا ولكن سلّمت نفسي لذكاء الألجوريزم لينتقي لي ما يراه مسليًا، هذه طبيعة العقد بيني وبين تيكتوك مثلا. على عكس تويتر حيث يقضي العقد بيني وبينه، على متابعة أشخاص واهتمامات، خلط بنود هذا العقد مع آلية اصطانعية للاقتراحات تُفسد بنود العقد المقرور بيننا.


* أتذكر الآن أنه أثناء الفترة الجامعية ابتكرت لنفسي نظام أسميته "اليوم الأخضر"، وهو يوم كامل أكون فيه بعيدًا عن هاتفي وأي وسائل تواصل افتراضية، أقوم فيه غالبا بممارسة النشاط المفضل لدي حينها؛ القراءة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...