الجمعة، 25 يوليو 2014

السهل يحترق

My rating: 4 of 5 stars

تحدثنا كثيرًا عن تأثير رولفو فينا، اختلفنا حوله، البعض عدّوه قديسًا (مِثلي مثلًا) وآخرون اعتبروه مارق مجنون، يكتب حُبًّا في التيه وحسب، وأنا اعتبرت أن حب التيه هذا ليس سهلا، وكتابة التيه تحتاج أستاذية ومهارة، وأنْ يتمحور أدب عظيم مثل أدب رولفو حول التيه فهذه عبقرية، يُذكرني رولفو بالمدرسة الإنطباعية، وكيف أن بضربات سريعة من الفرشاة – تبدو غير محسوبة- يمكن أن تترك (إنطباعًا) لدى المُتلقي، ففي حين كسرت الانطباعية قواعد التصوير الأكاديمية الرتيبة، فعل رولفو أمرًا مُشابهًا؛ أن كسر حواجز الزمان والمكان، بحيث أن تقرأ نتفًا من المآسي والأحزان وبعض اللهو والكوميديا داخل قصة واحدة، أحيانًا لا تدري كيف تسير الأمور، لكن لتكن صادقًا مع نفسك: هذا الرولفو لا يكتب اعتباطًا، بحيث أنك بعد هذه الدوامات لا تستطيع أن تُنكر أن بقلب هذا الرجل أحزان مُترعة بالأسى، وأنك –رغم تيهك- تحس بهذا الحزن بجلاء، وحين يكتب إنسان عن مأساة عايشها وكابد آلامها، فيجب أن تنصت بحذر، فهذا الرجل يكتب ما لم تره أنت، وسيكون من الحماقة أن نُقيم هذا النص باعتباره نصًّا أدبيًا محضًا ما لم نأخذ في الاعتبار بجدية مأساته التي بقدر ماهي عظيمة بقدر ما تغلبت على القوالب المعهودة، فتصنع قالبًا أدبيًا مُشابهًا لطبيعتها، لا في الشخوص وحسب وطريقة الحوار، لكن أيضًا في ازدراء الزمان والمكان الذين كانا في يومٍ ما يشهدان مأساته دون أن يمدّا يد العون له، فحين ملك زمام الكتابة ثار عليهما، ليصنع هذا التيه العظيم، تيه رولفو، رولفو الذي ألهم ماركيز، ولابد أن يستمر إلهامه لأن الزمن كثيرًا ما يضن علينا بمثل هؤلاء الصادقين. لا أظن أن رولفو كتب لنقول أنه كاتب عظيم أو لنقيم نصوصه، هو حتى لم يفكر أن قارئًا من الجهة المقابلة لعالمه سوف يقرأ نصوصه ويصير مُتيّمًا بها، بل كتبها من أجل نفسه فقط وحتى لو حكمنا أنه ليس عظيمًا، فهو قد كتب وروّض ألمه ومات.. لكنه –لمن يؤمنون به- لابد ألا يموت...
لا أدّعي أن المجموعة القصصية تركت فيّ ما تركته (بدرو بارامو) لكني قلت هذا الكلام فقط لأنه حتى وإن اختلفت قوة القصص، فالألم والحزن واحد، في الرواية وهذه المجموعة، لذا فأنا أحب أن أُمجد ألمه قبل أن أُمجّد نصه...
والمشكلة- رغم ثقل هذه الكلمة بيني وبين خوان رولفو- أنه من أجل أن أقرأ له، فإن عملية القراءة هذه لابد أولا أن تمر على شخص ثالث (ثيرد بارتي) هو المترجم، الذي يكون في يده قدرة إحياء أو موت العمل الأدبي. وكثيرًا ما خايلتني فكرة خطيرة، وهي أننا إذ نُحب أديبًا أجنبيًا ما ونتأثر بأسلوبه فنحن في الحقيقة نتأثر بأسلوب مترجمه، أما الأديب فنحن بعيدين كثيرًا (ليس تمامًا) عن أسلوبه الحقيقي، وهذا هاجس قاسي، أن تدرك أنك في الحقيقة بعيد عن كاتبك المُفضّل بسبب المترجم.. المترجم الذكي هو من يترجم هذا الأسلوب بتأثيره بقوته، بكل لواحقه، والمترجمون الأذكياء بطبيعة الحال قليلون (قانون الطبيعة).. مُترجِمة (بدرو بارامو) كانت ذكية، واستطاعت نقل رولفو إلى العربية، هنا نقل المترجم "قصص" رولفو إلى العربية.. وعمومًا أسلوب الرجل في حد ذاته يمثل تحدي لأي مترجم.. تفاوتت جودة الترجمة أحيانًا، لكن مع ذلك يبدو أن القصص نفسها متفاوتة حتى تصل إلى ذروتها في القصص الأخيرة للمجموعة، في خلق عوالم بحق مُدهشة، في طريقة تشابك شخصياتها وخلق أحداث لا تدري كيف يمكن أن تلتقي، والجميل أيضًا أن دهشة هذه القصص تختلف عن دهشة (بدرو بارامو) حتى أنني أحسست أني أقرأ لرولفو آخر غير الذي كتب (بدرو بارامو).
لذلك فلك مني تحيتان يا رولفو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...