الخميس، 9 أكتوبر 2014

محاكمة سقراط الثانية



في محاورة جوبيوس عند أفلاطون، يذكر أن سقراط قد طلب خلسةً من إله التوظيف "جوبيوس" أن يجد له عملًا، وقد كان فيما مضى يكره العمل ويحقِّر من شأنه، لأنه كان معروف عنه الديالكتيك السلبي العقيم، الأمر الذي أوصله إلى ضجر غير محدود لم يفصح به لأحد سوى إلى تلميذيه المقربين: أفلاطون وزينوفون، بعد إحدى دروسه لتلاميذه، وكما هي العادة لم ينته هذا الدرس إلى اتفاق بل جدال عقيم حول طبيعة الفضيلة، فأخذ يدعو إلهه جوبيوس أن يجد له عملًا، لأنه اقتنع أخيرًا أن العمل هو الجدوى الوحيدة من الحياة، والحقيقة المطلقة الأزلية، لم يفصح بذلك لأحد، لأنه كان يحترس من الخطأ بعدم إعلان أي أقوال ذات معانٍ إيجابية، كما توصّل إلى ذلك القديس أوغسطين.
ولما قد تولّى بالدعاء بخالص الإيمان إلى جوبيوس، فقد أرسل إليه أحد ملائكته ليبشره بوجود وظيفة خالية في أحد مصانع أثينا، ترك كل ما لديه من أعمال وتوجه لفوره إلى هذا المصنع، وحين وصل سقراط إلى المصنع بإشارة من إلهه جوبيوس، وكان هناك العشرات من فتيان أثينا الراغبين في العمل، كان مطمئنًا لأنه مرسل من جوبيوس، وحين أتى دور سقراط لمقابلة الإتش آر- الذي لم يكن يعرف أنه سقراط، لأنه لم يدخل في أي جدالات سقراطية عقيمة من قبل- جلس في أريحية لأنه كان مؤمنًا بجوبيوس، تفحص الإتش آر لفافات سقراط، وكانت من ضمنها إشارة جوبيوس وأمره بقبول تعيين سقراط، ولما كان هذا الرجل يكره الواسطة بكل معانيها، حتى وإن كان الوسيط إلهًا، وقد كان من أتباع المادية، فقد وجه سؤاله إلى سقراط بكل جدية:
- ألا تشعر بالخجل سيدي؟
- لمه؟!
- لأنك تريد أن تعمل بالواسطة؟
- أتسمح لي بتعريف الواسطة؟
- هي، ببساطة، أن تعتمد على غيرك في الحصول على عمل..
- وما المشكلة إذن في ذلك؟
- ليست لديك مهارات تستطيع أن تحل محل هذا الوسيط، وفي نفس الوقت إقلال من شأن ذوي المهارات المستحقين!
- ربما أنت مخطيء، فالاعتماد على هذا "الغير" لا يعني بالضرورة أنني أفتقر للمهارات، هناك خطأ فادح عند البعض؛ أن الواسطة هي طريق الفاشلين للعمل..
- أنا أتفق مع ذلك تمامًا!
- إذن هل تسمح لي سيدي بتعريف "الفاشل"؟
- هو من لم يؤهله تعليمه لأن يكون عضوا ناجحا في منظومة العمل..
- هل تستسطيع أن تؤكد لي أن التعليم في بلدنا أثينا يستطيع أن يؤهل شخصًا ما للعمل؟
- لا أستطيع..
- فالقاعدة التي تقوم عليها أدلتك غير صحيحة إذن، ومن ثم لا يمكن إنكار الواسطة، لأنها طريقة غير سليمة في تقدير المهارات، وقد تكون هي وسيلة ذوي المهارات للحصول على العمل، هل تجد تناقضًا في ذلك؟!
- يمكنك الانتظار في الخارج قليلًا.
وفي ساحة الانتظار جلس سقراط بعيدًا عن فتية أثينا الذين كانوا يرمقونه بنظرات شك.
وبعد مضي نصف ساعة، أُعلن عن قبول سقراط، ففرح بهذا النصر الإلهي، لأنه وجد أخيرًا الغاية من وجوده، ورفض كل الفتية المتقدمين هذه النتيجة، ونقلوا الأمر إلى ساحات القضاء.
وهناك قضي عليه بالتخيير بين ترك العمل أو الموت بالسم، فاختار أن يموت، على أن يعيش بلا وجود. وتجرع السم غير آسفًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...