الأربعاء، 15 أكتوبر 2014

حقًا المُحرّمة



لم يكن ليطيق سماع أي كلمة تشكك في معرفته، حتى كلمة "حقًا" التي يقولها الواحد منا تعبيرا عن الدهشة، يأخذها هو على محمل الجد، وقد يقاطع أي أحد بسبب كلمة كهذه، لذلك فقد كان كل المقربين منه يتحاشون استخدام قاموس التشكيك هذا حتى صار كل ما يقوله حقيقة مطلقة في نظره، فأصبح يُسهب في الحقائق، حقيقة تلو الأخرى، إسهابًا غير محدود، وامتنع الجميع عن إطلاق كلمة حقًا، أو "هذا سخف"، وفي المقابل استعملوا ألفاظًا من قبيل "رائع" "أنا مندهش"، أو " حسنًا، هذا صنع يومي" وقد تلقى كل هذه الكلمات بثقة حقيقية، ولم يكن ليشكك هو في نفسه، التي صارت الحقائق بالنسبة لها مطابقة للوهم بالنسبة لنا، وقد يطلق نكاتًا، فلا يضحك أحد لأن النكتة لابد أن تكون حقيقية والضحك عليها قد يحيلها إلى واقعة مختَلقة. واكتفي الجميع بتأمل نكاته التي كانت في الأغلب سخيفة.
ومع مرور الوقت -وباعتبار أن هناك أوقاتًا يخلو فيها إلى نفسه- فقد اعتاد الجميع على ذلك، وهكذا فقد صارت "حقائقه" غير قابلة للجدال، وقد أثر ذلك في نفسه بلا شكّ، التي افتقدت إحدى المزايا للنفس الإنسانية وهي القدرة على تبرير الكذب، وحين حكى قصة تبدو خرافية بطريقته الساحرة في الإلقاء، تلقّاها البعض باعتبارها حقيقية مندفعين في ذلك بحماسهم الشيق، في حين رفض آخر ذلك، ولم يقل حتى "حقًّا" وإنما اعترض بأن قال: هذا ضد الطبيعة!
فردّ عليه باستخفاف: أنا الطبيعة!
وتم طرده من المجموعة في موقف مُهين، كانوا على وشك الانفجار في نوبة ضحك للطريقة التي تم طرده بها لكنهم تذكّروا أن هذه حقيقة ماثلة أمامهم، فتأملوها كثيرًا.

وقد جّرت عليه حكاياته الخُرافية الأسئلة تلو الأخرى، وكان يجيب عليها جميعًا لتبدو منطقية، مُشكِّلًا بذلك عالمًا خاصًا لحكاياته ووقائعه، وقد أحبَّ الناس ذلك، وتناقلوها بصدق مماثل، وهكذا فقد انتقلت هذه العدوى من شخصٍ إلى آخر، إلى أن مات الرجل، مخلفًا وراءه مئات الحكايات الخرافية، بكى عليه كل من عرفوه، استعادوا حكاياته، ثمّ قرروا جمعها في كتاب واحد.
وربما الشيء الذي يُحسب له بعد موته هو اختفاء كلمات "حقًا؟!" و"أنا لا أصدق" وما شابههما، وذلك بعدما قرروا أن يحذّروا في مقدمة الكتاب من ذكر هذه الألفاظ أثناء قراءته، مما طبع في أذهان الأبناء الذين لم يحضروا هذا "الرجل العظيم" أن كلمات كهذه لها مدلول سيء، وتحولت من المنع إلى التحريم فيما بعد... ولا يخطرن في بال أحد أن تحريم هذه الألفاظ شجّع على اختلاق المزيد من الأحداث الخُرافية التي يسهل تصديقها الآن، بل على العكس، تم اعتبار أنه ليست هناك سوى حقيقة واحدة وهي تلك التي قصها هذا "الرجل العظيم"، وهكذا فقد علِق الناس جميعًا بين الحكايات الخرافية، والحقيقة التي نسوا ملامحها منذ ذلك الزمان البعيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...