الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

زُمُردياتشا


صانع الحقائق الخرافية

    لم يكن الزٌّمرّدي ليطيق سماع أية كلمة تشكك في معرفته، حتى كلمة "حقًا" التي يقولها الواحد منا تعبيرًا عن الدهشة، يأخذها هو على محمل الجد، وقد يقاطع أي أحد بسبب كلمة كهذه، لذلك فقد كان كل المقربين منه يتحاشون استخدام قاموس التشكيك هذا حتى صار كل ما يقوله حقيقة مطلقة في نظره، فأصبح يُسهب في الحقائق، حقيقة تلو الأخرى، إسهابًا غير محدود، وامتنع الجميع عن إطلاق كلمة "حقًا" أو "هذا سخف"، وفي المقابل استعملوا ألفاظًا من قبيل "رائع"، "أنا مندهش"، أو "حسنًا، هذا صنع يومي" وقد تلقى كل هذه الكلمات بثقة حقيقية، ولم يكن ليشكك هو في نفسه، التي صار الوهم بالنسبة لها مطابقًا للحقائق بالنسبة لغيره، وقد يطلق نكاتًا فلا يضحك أحد لأن النكتة لابد أن تكون حقيقية والضحك عليها قد يحيلها إلى واقعة مختَلقة، واكتفى الجميع بتأمل نكاته التي كانت في الغالب سخيفة. ومع مرور الوقت -وباعتبار أن هناك أوقاتًا يخلو فيها إلى نفسه- فقد اعتاد الجميع على ذلك، وهكذا فقد صارت "حقائقه" غير قابلة للجدال، وقد أثر ذلك في نفسه بلا شكّ، التي افتقدت إحدى المزايا للنفس الإنسانية وهي القدرة على تبرير الكذب، واندحر ضميره إلى مرتبة متدنية من مراتب النفس. وحين حكى قصة تبدو خرافية بطريقته الساحرة في الإلقاء، تلقّاها البعض باعتبارها حقيقية مندفعين في ذلك بحماسهم الشيق وظمئهم الدائم لحقائقه المدهشة الواعدة، في حين رفض آخر ذلك، لأنه لم يكن يعرف بعد قوانين سماع الحكايات، فهو قد سمع بأن رجلًا يحكي وقائعَ هي الأكثر إدهاشًا في هذا العالم، فذهب ليسمع منه مباشرةً وكان على قدرٍ معقول من المعرفة، وحين اعترض بأسلوب لا يتنافى مع الطريقة المهذّبة في المعارضة لم يقل حتى "حقًّا؟"، وإنما اعترض بأن قال "هذا ضد الطبيعة"، وهو بحق لم يكن يريد من وراء هذا الاعتراض سوى تبادل الآراء، مع قابلية غير محدودة في سماع وجهات النظر، لا تحدوه أيّة نيات خبيثة.

فردّ عليه الزٌّمرّدي باستخفاف: أنا الطبيعة!

وتم طرده من المجموعة في موقف مُهين، كانوا على وشك الانفجار في نوبة ضحك للطريقة التي تم طرده بها لكنهم تذكّروا أن هذه حقيقة ماثلة أمامهم، فتأملوها كثيرًا. في حين خرج هذا الرجل مُحمّلًا بقدرٍ من الإهانه سوف تؤثر عليه كثيرًا فيما بعد، متفكرًا في حقائق الزٌّمرّدي بقدر مماثل من الازدراء والكره.
وقد جرّت عليه حكاياته الخُرافية الأسئلة تلو الأخرى -في سابقة ربما لن تتكرر كثيرًا فيما بعد- وكان يجيب عنها جميعًا لتبدو منطقية، مُشكِّلًا بذلك عالمًا خاصًا لحكاياته ووقائعه في شبكة مُحكمة من العلائق والأسباب، وقد أحبَّ الناس ذلك، وتناقلوها بصدق مماثل، وهكذا فقد انتقلت هذه العدوى من شخصٍ إلى آخر، إلى أن مات الرجل، مخلفًا وراءه مئات الحكايات الخرافية، بكى عليه كل من عرفوه، استعادوا حكاياته، ثمّ قرروا جمعها في كتاب واحد أسموه "زُمردياتشا".

لماذا المُحرّمة

   وربما الشيء الذي يُحسب له بعد موته هو اختفاء كلمات "حقًا؟!" و"أنا لا أصدق" وما شابههما، وذلك بعدما قرروا أن يحذّروا في مقدمة الكتاب من ذكر هذه الألفاظ أثناء قراءته في قائمة تضم حوالي ألفين كلمة بمشتقاتها، مما طبع في أذهان الأبناء الذين لم يحضروا الزٌّمرّدي أن كلمات كهذه لها مدلول سيء مثل الشتائم، وقد اعتبرت كلمة "لماذا" مثلًا هي المعنى اللغوي لانحشار العضو الذكري للكلب في الكلبة، وهذا بالطبع ساعد الصغار في تقبل الأمور مبكرًا وتناقلوا ذلك باعتباره واحدًا من اكتشافاتهم الخاصة التي لا يطّلع عليها الكبار، فقد يقول طفل لصاحبه وهما يشاهدان كلبين في هذا الوضع الحرج: "انظر إلى هذا اللِّماذا!"، لذلك فقد مُهِّدت الأمور لتتحول فيما بعد من المنع إلى التحريم، لأنه لا يجوز التعليق على قصة من قصص الزمردياتشا الغير مشكوك في حقيقتها باعتبارها انحشار العضو الذكري للكلب في فرج كلبته. ولا يخطر في بال أحد أن تحريم هذه الألفاظ شجّع على اختلاق المزيد من الأحداث الخُرافية التي يسهل تصديقها الآن، بل على العكس، تم اعتبار أنه ليست هناك سوى حقيقة واحدة وهي تلك التي قصها الزٌّمرّدي، وهكذا فقد علِق الناس جميعًا بين الزُمردياتشا والحقيقة التي نسوا ملامحها منذ ذلك الزمان البعيد. وقد أصبح من المسلّم به أن الزُمردياتشا هو كتاب القرية المُقدس، ليس فحسب لحكاياته الخرافية البارعة في حَبكتها، بل أيضًا لأن شيوخ القرية المعاصرين للزٌّمرّدي استطاعوا بحكمتهم التي يفرضها عليهم العمر والمشيب، أن يقنعوا القرية بكل ما جاء في الزُمردياتشا، فضلًا عن تلك الهالة التي صنعوها حول رأس الزٌّمرّدي، وكانت القرية تعتبر شيوخها هم أجلّ ما يمتلكون، والأجدر بالثقة غير المشروطة. ولما دُفن آخرهم لم يع أحد في جنازته المهيبة، أنهم يهيلون التراب على آخر شاهد على الوقائع القابلة للجدال.

زُهير

   وبتدريس الزُمردياتشا في مدارس القرية كانت كلمات الإجلال والتعظيم هي المسموح بها فحسب أثناء الدروس، رغم أن هذه القاعدة تم التساهل بشأنها فيما بعد ثم نسيانها، فلم يعد أحد قادر على نطق كلمات الرفض، لأنها تم حذفها نهائيًا -كما "أوصى" بذلك الزمردي- من قاموس اللغة، ولم يكن المُعلّم وهو يعيد إحدى قصص الزُمردياتشا حتى ليفكر في مراقبة تلاميذه للتأكد من إتباعهم التعليمات، فقد صار ذلك أمرًا مفروغًا منه، حتى أنّهم بالفطرة ابتكروا طريقة للتعبير عن طواعيتهم المفرطة تتمثل في هز رؤوسهم لأعلى ولأسفل بطريقة آلية تعبيرًا عن إيمانهم الصادق وولائهم الأعمى. وكان تمجيدهم للزُمردياتشا يمر بمرحلة خطيرة، حين كان أحد الطلاب واسمه زُهير يراجع قصص الكتاب في المنزل وهو مندفع بطريقة استباقية للإعجاب بما هو مكتوب حتى بعد تكراره وإعادة حفظه له، فانهار في نوبة بكاء لم يعرف مصدرها، تكررّت كثيرًا فيما بعد، ولم يستطع فهم أنه كان في حاجة ماسة لأن يصرخ بكلمة "حقًا" أو "لماذا" اللتين تم حذفهما من القاموس اللغوي مع كلمات أخرى معارضة، فكان يلجأ لأحد أركان الغرفة ليقف في مواجهته مستسلمًا لبكائه المجهول، وحين عجز أبوه عن فهم هذا التغير الطارئ قرر أخذه لطبيب البكاء في القرية، وهو تخصص تم ابتكاره من أجل علاج حالات البكاء الانهيارية تلك، بعدما كثرت في القرية لسبب بدا للجميع مجهولًا، وبعد تشخيص مرضه أعطاه الطبيب البُكائي قصة للزمردي لم يقرأها زُهير من قبل وأوصاه بقراءتها يوميًا وحين تواتيه حالات البكاء الانهيارية.

وفي البيت قرأ زهير القصة الجديدة، ورغم ما اعتور نفسه من يأس وقنوط، فإن مقدارًا يسيرًا من الشغف أعاد إليه بعض الحياة وهو يطالع قصة جديدة لم يقرأها للزُمردي من قبل، وشيئًا فشيئًا وجد نفسه مُستمتعًا معجبًا بالقصة، ونسي بكاءه واعتبره شيئًا كان غير مفهوم، ويجب أن ينساه لأنه لن يفهمه أبدًا. كانت القصة تحكي عن قردين مارسا الرذيلة فأنجبا إنسانًا عقابًا لهما، ليمارس الرذيلة مع فتاة لينجبا قردًا، الذي مارس الرذيلة مع قردة فأنجبا إنسانًا.. وهكذا، إلى أن امتلأت الغاب ببشر وقردة مهمتهم تأصيل الرذيلة، وكان واضحًا من القصة أنّها تدعو لتحريم الزواج من العمّة أو الخالة وما غير ذلك مما أفرد له أحبار الزمردية في شروحاتهم. ورغم رتابة القصة التي تتكرر باستمرار على هذا المنوال فإنه كان مستمتعًا لأنها جديدة، فكان يقرأها باستمرار لمّا لمس في نفسه ميلًا إلى البكاء مجدّدًا، حتى فقدت القصة كل بريق جدّتها، إلا أنه لم يتخلّ عن اندهاشه الاستباقي باقتناع -اقتناع مماثل بأن نفسه عليلة ودواؤها يكمن في الزمردياتشا- لكنه لم يستطع أن يكبح نفسه وانهار في نوبة بكاء انهيارية. وبذهابه إلى الطبيب البكائي مرة أخرى، فقد أوصاه بقصة ثانية لم يقرأها من قبل، وظل على هذه الحال، يقرأ قصة بتكرارها مئة مرة، حتى ينهار في نوبات بكائه الانهيارية، فيوصيه الطبيب بقصة جديدة للزُمردي، وصار مع الوقت مُدمنًا لهذه القصص، خبيرًا بها، يعرف كل تفاصيلها وقواعدها، فتم تكريمه من حاكم القرية الذي اعتبره في خطاب التكريم واحدًا من أفضل علماء الزمردياتشا منذ وفاة "العظيم الزمردي".

الموجة الثانية

   كان زهير مقتنعًا مؤمنًا بكل تفاصيل حياته بنفس قناعته بحقائق الزمردي التي تعلم في صغره كيف يؤمن بها، حتى أنه -وبتشجيع من حاكم القرية- أنشأ مدرسة خاصة لتعليم الزمردياتشا، كان هدفها الأول تحقيق المُعادلة الصعبة: قراءة الزمردياتشا باستمرار دون التعرض لحالات البكاء الانهيارية، مستلهمًا القوى الموجودة في قصص الزمردي، التي يمكن قراءتها كل مرة بطريقة مختلفة لتوحي بأنها قصة جديدة، لأنه كان يعرف أنه في يوم ما سيتعرض الأبناء لحالات بكاء انهيارية دائمة بعد قراءة كل قصص الزمردياتشا وتكرارها، فمثلًا عند القراءة الأولى لقصة "تأصيل الرذيلة" يكون الهدف منها استكشاف لغوي، والقراءة الثانية استكشاف سردي، والقراء الثالثة اسكتشاف موضوعي، وهناك استكشافات علمية واجتماعية وأخرى لا حدود لها شاملة كل الجوانب العلمية والأدبية التي تأسست على الزمردياتشا. وعلى هذا فقد ماتت كل آلامه الأولى في قلبه لكنه لم يتطهر من هذه الآلام الميتة أبدًا، فلم يعرف يومًا لماذا كان يبكي صغيرًا، بل اعتبر ذلك ضعفًا في نفسه التي لم تكن تدرك عظمة الزمردياتشا.. وتأسس على هذا التطور في شخصية أحد أكبر المهتمين بكتاب القرية المقدّس -بعد الزمردي- تطورات أخرى في القرية يمكن اعتبارها شاملة، بلغت خطورتها أن تمت مقارنتها بأن الزمردي نفسه لم يكن يخطر في باله ما سوف يكون عليه الحال في القرية من بعده.

ولهذا الدور الذي لعبه زُهير في تشكيل وعي القرية، عيّنه الحاكم نائبًا له، مع صلاحيات كاملة في شئون التعليم. بعد يومين من هذا التعيين تم اعتبار يوم العاشر من أغسطس من كل عام هو عيد البكاء للقرية، بعدما كشف في إعلان استدعى فيه كل سكان القرية، أن حالات البكاء الانهيارية التي تنتاب الصغار والمراهقين ما هي إلا إشارة زمردية بـ (الحلول) داخل النفس المؤمنة بكل تعاليم الزمردي، واستشهد بنفسه قائلًا: لولا بكائي وأنا صغير ما صرت مُنعمًا بكل ذلك الإيمان الذي أنا فيه الآن.

ورغم هذا القرار الرسمي المُلزم على الجميع فإن سكان القرية فضّلوا الاعتقاد بأن السبب الحقيقي وراء ذلك هو نقص في إيمانهم، لأن هذا هو التفسير الوحيد لتلك العواصف السوداء التي تجتاح نفوسهم بلا أي نذير أو سبب مفهوم، ومع ذلك فلم يعترضوا بأن يُضاف إلى أعيادهم عيد جديد. استمرت المدرسة في أسلوب تعليمها الاستكشافي وأصبح طبيعيًا أن يُرى تلميذًا وهو يبكي فجأة داخل الفصل بلا اعتراض أو تدخّل من هيئة التدريس، وكان زهير قد اعترف داخل نفسه أن البكاء الانهياري لا مفر منه بأية طريقة كانت، وأنه قدر كُتب على البلدة، وبذل جهدًا غير قليل لإقناع نفسه بأن ذلك حسن، لا نذير شؤم. لكن ذلك لم يُثر في داخله أية أسئلة كانت لها أن تُثار قديمًا.

الدمّاعون الثلاثة


     كان ملحوظًا أن هناك طالبًا واحدًا لم يبك قط، وكان محل شكٍ من هيئة التدريس، التي كانت قد تسلّمت التعليمات من نائب الحاكم بأن من لا يبك فهو مُتطاول على الزمرّدية، متآمر عليها، لكن أحدًا لم ينتبه إلى أنه كان متأثرًا بطريقة أخرى، فقد كان مريضًا بالإمساك المُزمن في أعسر درجاته، ولذلك فقد كانت كل دموعه تتفرغ في دورات المياه وهو يعاني من هذا المرض، وشيئًا فشيئًا أُصيب بالخرس في إحدى هبّات البكاء الانهياري وهو عاجز عن البكاء. حاول أن يشرح ذلك لهيئة التدريس بإشارات من يديه، فتحوّل مجلس التأديب الموقر، المُخوّل باختبار إيمان الطالب، إلى عرض هزليّ ساخر لم تتمالك فيه الهيئة نفسها من الضحك وهي ترى الطالب يشير إلى مؤخرته وهو يتلوّى مثل المُهرج محاولا شرح مُعاناته مع الإمساك، وكيف أنه استنفد كل دموعه في دورات المياه.

لكن روتينية المجلس سمحت بتخفيف العقوبة عليه ففصلته من الدراسة لمدة أسبوع واحد فقط، وكانت ورقة القرار مُبتلة بدموع أعضاء الهيئة التي انهالت عليها من الضحك. وفي المنزل لم تعترض أمه التي كانت مُصابة مثله بمرض الإمساك المُزمن فأصبحت قعيدة في البيت وكفيفة، لكن أخته اعترضت، وكانت ترفض مثل ذلك الإذعان المقهور لقرارات غير مسئولة، فقالت في قهر من خلف باب دورة المياه: "لن يكون الإمساك وأعضاء هيئة التدريس علينا"، وفكّرت لو أنها من الممكن أن تُعبئ دموع أخيها في عبوات زجاجية لمقايضتها بتعليمه، لكنها لم تُقدِم على ذلك وإنما كانت فكرة هذيانية عابرة تستعين بمثلها لإلهائها عن آلامها المُريعة؛ أفكار كلها لا تمت بصلة لألمها، حتى أنها تفكّر بجدية خارج دورة المياة أن تُجري عملية جراحية كي تُحوّل مسار بُرازها ليخرج من صُرّتها، ولكن في دورة المياه، تأخذ في عد الخطوط المتوازية لبلاط الأرضية ثم جمعه أو طرحه من الخطوط المتوازية لبلاط الجدار، أو تتنبأ بنسب الصراصير الصغيرة بالصراصير الكبيرة، فتقول هذا ابن ذاك وتلك أم هذه، أو تحاول أن تتذكر ماذا تناولت في وجبة العشاء منذ عشرة أيام ومن كان معهم.. تفعل كل ذلك أثناء انهمار دموعها من الألم وانحشار برازها الأحمر من الدم.

لم تكن رائحة القذارة هي ما تنبعث من حمّامهم، بل كانت الملوحة من كثرة انهمار الدمع فيه. وفي أحد الأيام دوّت صرخة مروّعة من خلف باب الحمّام، لم يتعرف أحد من جيرانهم على صاحبها، لكنهّا كانت من الرّوع بحيث أن صداها ظل محبوسًا داخل جدران الحمام، ويكفي أن يضع أحدهم أذنه على الجدار حتى يسمع الصراخ من بعيد. وحين عرف زُهير حكايتهم بعد وفاتهم جميعًا في هذا اليوم، وكيف أنّهم استنفدوا كل دموعهم في دورة المياه، قرر تحويل دورة المياة لمصلى تُمارس فيه شعائر الزمردية، وقام بعمل توسعة للبيت، مع الاحتفاظ بدورة مياهه في مركزه، وكان ذلك أول مصلى تُمارس فيه هذه الشعائر باعتبارها ديانة القرية الرسمية والوحيدة.
ولم ينقطع الماء المالح عن المبولة أبدًا ولم يعرف أحد مياهًا مالحة بطعم ونقاء الدمع في أية مبولة أخرى مثل مبولة الدمّاعين (وهو اسم تم إطلاقه على القديسين الثلاثة المُصابين بالإمساك)، ومع الوقت فقد تم إسباغ قداسة على هذا المكان، بدأت بقداسة رسمية ثم تحوّلت شيئًا فشيئًا -دون شعور من أحد- إلى قداسة شعبية، فكان الزمرديون يحجونه قاصدين مبولته للنهل من مائها المالح النقي، مقتنعين اقتناعًا كاملًا أنه قادر على الشفاء من جميع الأمراض.

وكان واضحًا أن الخيوط المُتشابكة التي بدأها الزمرديّ في حكاياته آخذة في التطوّر الذاتي، حتى أنه في يوم العاشر من أغسطس قد أصبح الذهاب إلى المبولة أمرًا مُكمّلًا لاحتفالات عيد البكاء فيتزاحم الناس حولها محاولين حجز لتر أو لترين منها لأمانيهم -حسب الحجم والألم، فمن كانت أمنيته الزواج، يحاول حجز نصف لتر، ومن يُرِد أن يُشفى من مرضٍ لديه يحجز لترًا، ومن أراد أن يعرف لماذا هو يعاني بلا سبب، فكان يحجز لترين، أما هؤلاء الذين يُعانون الإمساك فقد كانوا خارج قائمة الأماني.

وذات ظهيرة يوم عيد البكاء، وخارج المبولة، عند انتصاف النهار تمامًا وتعامد الشمس على شرفة المصلى، كان الناس ينتظرون ظهور زهير، وقد ناهز عمره الستين بكل ما يُسبغه ذلك العمر من مهابة ووقار، وفوق ذلك حكمة زمردية لم يستطع أحد منافسته فيها حتى زمن بعيد، لذلك فقد كان قديسًا بحق، لم ينقصه سوى بعض المعجزات، والتي سوف يتولى صياغتها عنه بعض المجهولين، ومثلها مثل الزمردياتشا، سوف تنضم إلى قائمة مقدسات القرية باعتبارها حوادث حقيقية، مثل أنه نظر يومًا إلى الشمس وقت الغروب فجعلها ترجع إلى كبد السماء، أو أنه كان يقف داخل الشرفة باكيًا فتقاطر الناس تحتها لتلقي دموعه التي تشفي، مثلها مثل المبولة المقدسة من جميع الأمراض، فاستحق زهير بذلك لقب الأب الثاني بجدارة، لكن هذا اللقب لم يفكر أحد أبدًا في إطلاقه أثناء حياته.. كان زهير على وشك الخروج وقد امتلأت بطون عامة الناس بالدموع، وكان واضحًا أن الساحة قد امتلأت بأناس متلهفين وراء أمانيهم، أمّا البقية، والذين يُعانون من الإمساك بطبيعة الحال، فقد بقوا في منازلهم، ليس فحسب لأن الشفاء من الإمساك خارج قائمة الأماني، ولكن أيضًا لأنهم غير قادرين على الحركة.

داء الزمن


    وفي وسط هذه الجموع الغفيرة انتظرت امرأة في قامة سنجاب صغير، تشبه رأس سلحفاة عجوز، تُعاني من فُقدان الشعور بالزمن، وتشكو من أن أحدًا لا يفي بوعوده، لأنهم يعرفون أنها فاقدة الشعور بالزمن ودائمًا ما يؤجلون مواعيدها إلى حين انتهائهم من هؤلاء الذين يعرفون كم مضى من الوقت، وكانت إذا سألت أحدهم عن الوقت وتلقّت ردّين مختلفين فإنها تُجري قرعة لمعرفة الوقت الصحيح لتحاسب المتأخرين، وبهذا فإنها كانت تعيش في حلقة مُفرغة، فبالقرعة تستطيع أن تحدد أن اليوم هو السادس من مارس وبعد شهر يصبح -بالقرعة أيضا- السادس من يناير، ولم تكن تمثل لها هذه التواريخ شيئًا في الواقع، وإنما توصّلت فحسب إلى حيلة القُرعة لتتمكن من إصلاح نوافذ منزلها المُهترئة، التي لا يأتي النجار لإصلاحها، فتستطيع بذلك أن تُحاسبه على تأخيره. وكانت جارتها التي تُشبه القنفذ هي من فاتحتها في معاناتها تلك بصراحة متكتّمة، وأن طريقة معرفة الوقت بالقرعة ما هي إلا طريقة يائسة من شأنها أن تُفسد مزيدًا من النوافذ، قالت لها ذلك حين كانت تخيط إحدى عباءاتها، وقد أخذ طولها في التزايد حتى ظنّت في نهاية الأمر أنها تحيك تعريشة للبيت لا عباءة نوم، ولما سمعت منها هذه الملاحظة، قالت "لا أعرف"، وظلت تحيك العباءة في تفاني من بدأها لتوه لا من بدأها منذ عشر سنوات، فقالت لها جارتها: اذهبي إلى مصلى الدمّاعين، واحجزي لِترين من الدمع.

وفي الوقت الذي زمجر فيه الجميع من تأخر خطبة زهير، أخذت هي في تأنيبهم بصوت حاولت رفعه ليتخطى قامتها القصيرة الغارقة أسفل السطح الهادر بأصوات مُطالبة بخطبة العيد.

ومع تأخر خطبة زهير حتى اقتراب غروب الشمس، كانت هي الوحيدة التي ظلت في الساحة تنتظر. توقّعت جارتها ذلك فجاءت لتنبهها أن الزمن يجري، فقالت "لا أعرف"، وكانت تشكو من أن الجميع كانوا يزمجرون، لكن جارتها أخبرتها في إشفاق أن النجار كان قد وصل لإصلاح النوافذ لكنه رحل بعد أن انتظر بعض الوقت، ثم قالت "لا أعرف"، وكان واضحًا من صوتها ومن طريقة مشيتها ومن تكرارها كلمة "لا أعرف" وتوحدها مع نفسها، أنها سوف تموت بعد يومين على الأكثر.

في مساء ذلك اليوم انتشر خبر وفاة زهير، وشهدت القرية حالة حزن سرت رائحتها في كل مكان، وتوغّلت في أعمق النفوس الضائعة في حالات البكاء الانهيارية، وماتت السيدة فاقدة الشعور بالزمن بعد يومين، والتبس الأمر على جيرانها، ولم يعرف أحد إن كان موتها حزنًا على زهير، أم لأنها كانت غارقة في حالة فقدان الشعور بالزمن، لكنها لو أمكنها أن تتكلم لتوضّح السبب الحقيقي لموتها لقالت "لا أعرف".

بدأ الجميع في ترتيل عِظة الموت المُدوّنة في الزمردياتشا، والتي تحكي أن الموت كان يتشبه أولًا بالمؤمن الذي سوف ينتزع روحه ليتقاسم معه شئون الحياه، فيشعر الرجل أنه استراح من بعض همومه، فيطلب من الموت -وهو لا يعرف أنه الموت- أن يحمل عنه مزيدًا من الهموم والمسؤوليات فيرحب الموت، إلى أن يفقد كل صلته بالحياة ومسؤولياتها تدريجيًّا ليشعر بعدم جدوى استمرارها، فيطلب من الموت أن يموت، وتنتهي القصة بموته بإرادته، ولم يكن لدى الجميع شكّ في أن زهير مات بعد أن وفّى كل واجباته، وأنه من طلب ذلك من الموت، وقد أضاف البعض أن الموت ألحّ عليه في أن يعفيه من هذه المسؤولية الثقيلة، لكن زهير كان مصممًا.. وقيل أن الموت قد مات بعدها، ومن أكمل مهامه من بعده، هو الحياة، الذي أثقل على الناس مسؤولياتهم، وهو أيضًا من بثّ في القرية رائحة الحزن على زهير، كل ذلك عرفته القرية في شيء من الإيمان والتفاني. وتشتت البعض بين الحياة والموت، لكنهم كانوا مؤمنين بزهير قبل أي شيء. وبينما هم غارقون في حالة حزن وكآبة لما بثّته الحياة فيهم بثقلها، فقد ظهرت أول مُعجزة لزهير، تقول إنه في ذلك اليوم أمر الشمس أن ترجع لكبد السماء بعد أن غربت ليتمكن من إلقاء خطبته الأخيرة، إلى حين انتهائه من مجادلته مع الموت. لكن لأن الجميع قد رحلوا في ذلك اليوم مبكرًا دون أن يتأكدوا من موقع الشمس، فلم يقدم أحد اعتراضًا مُقنعًا، أو فقط ليقول: أنا رأيت الشمس وقت الغروب. لكن تطوّعت واحدة من النساء وقالت: أنا رأيتها وقت الغروب ولم ترجع إلى أي مكان آخر. لكنهم لم يصدّقوها، لأنها تشبه القنفذ، ولأنها امرأة في الأساس، وعندما أخبروها أن شهادتها لابد أن تكون مدعومة بشاهد آخر على الأقل لأن الآراء المُعارضة لا يمكنها أن تكون مُقنعة وحدها، دلّتهم على جارتها، لكنهم أدركوا خبثها أخيرًا حينما اختارت امرأة فاقدة للشعور بالزمن، وقالت هذه "لا أعرف" للمرة الأخيرة وكانت خائفة من أعداد الناس الذين ينتظرون شهادتها باهتمام، وكان ذلك كفيلًا أن ينتشلها من توحّدها مع نفسها ليلقيها في جوف عالم مضبوط على عقارب الساعة، يسألها أصحابه متى غربت الشمس، فكانت "لا أعرف"ـها الأخيرة هي الأكثر تشتتًا والأقل يقينًا. ثم ماتت بعد ذلك وهي تتجرع لتْريّ الدمع على أنه ماء، ولفوها في عباءتها التي ظلت تحيك فيها لمدة عشر سنوات، في اعتقادٍ أنّ لا أحد يتفانى في عمل ممتدٍ كذلك إلا من أجل موته. كان النجار، والذي كان يعاني من الإمساك المزمن، هو الثالث الذي شاهد غروب الشمس، لكنه لم يدر بتفاصيل الواقعة لأنه ظلّ محبوسًا في دورة المياه منذ ذلك اليوم، حتى أنه، وبمعرفته بفنون النجارة، حوّل مبولته إلى سرير والحوض إلى موقد، وانتقل للعيش في دورة المياه بشكل كامل. ولم يفكّر أحد أن يستعين به ليشهد بغروب الشمس. وقد أصيبت تلك الجارة بخيبة أمل شديدة، وبنكسة جعلتها تخجل من نفسها حتى يوم موتها، لأنها كانت الوحيدة التي شهدت غروب الشمس، وهي لم تكن تريد من وراء ذلك الإثبات أن تنفي المُعجزة المُختلقة، لكن فحسب لتثبت أنها تعرف شيئًا لا يعرفه غيرها؛ وهو أن الشمس قد غربت في ذلك اليوم.

خلال سنوات حياتها المتبقية، وبشكلٍ يوميّ، سوف تدون في مُذكّرة أن الشمس قد غربت كما ينبغي لها، وفي اليوم الأخير من حياتها، قالت أنها سوف تُذكّر جارتها، لأنها سوف تستعيد في الحياة الآخرة شعورها بالزمن. وكانت في أيامها الأخيرة، قد بدأت في فقدان شعورها بالزمن، حتى أن حفيديها حين أخبراها أن الشمس قد أتمّت غروبها لتدون ذلك في مذكرتها، نظرت إليهم بفتور من يستعيد ذكريات ماضية متراكمة نست أن تفكّر فيها على نحو ما، وكانت تشعر بالذنب حين أدركت أخيرًا أن جارتها القديمة كانت تشعر بدنو أجلها منذ زمن بعيد سبق موتها، وكان صوتها ضائعًا لأنه كان يبحث عن صوت جارتها، وقد ظلّت تردّد "لا أعرف" في داخلها بصوت كلّ الذين قابلتهم في ذلك اليوم حتى عثرت أخيرًا على صوت جارتها القديمة، فقالت لحفيديها "لا أعرف" في اللحظة التي تذكّرت فيها جارتها وهي تقول ذلك حين طلبوا شهادتها في غروب الشمس، وفي طريق بحثها عن صوت جارتها فاقدة الشعور بالزمن، وجدت صوت النجار، ولم تشعر بالندم لأنها نست أن تستعين بشهادته، وبدلًا من ذلك جاء صوتها مُحملًا بكل الحقائق القديمة المؤلمة، مثل أن النجار عاد سريعًا إلى منزله في ذلك اليوم ليستكمل طقوسه المعذبة لمرض الإمساك المُزمن.. جاءت كل تلك الذكريات بقوة حضور تؤكد فقدان شعورها بالزمن، حتى إن قرار تدوينها لحظة غروب الشمس، أصبح شبيهًا بمستقبلٍ مجهول.

   كان حفيداها يقفان أمامها بمذكرة تدوين الغروب، وهما يرانها مثل لوحة يتم ثقبها بمثقب خفيّ، وكان ذلك مثقب الزمن. قالت لا أعرف للمرة الأخيرة، فلم تعد تشعر بالذنب نحو جارتها، لكنها ابتسمت وتخففت من حمل ذنبها، ورأى حفيداها عينيها تترقرقان بالدمع لتنجرفان في مسامات أديم وجهها الممعن في القِدم، وذلك بعد أن أزيل مثقب الزمن الخفي، ثم طلبت منهما ملاءة كبيرة، فلما أحضراها، طلبت ثانية ثم ثالثة، حتى تجمّعت لديها ستٌ وثلاثون ملاءة جعلت منهم ملاءة واحدة كبيرة، وطلبت منهما أن يلفوها بها حين تموت، ولما سألاها لماذا كل هذه المُلاء، قالت لهما: أنا ذاهبة لأذكّرها بغروب الشمس. فبدا أنهما قد فهما رغم التباس الأمر عليهما، فهما قد كبرا مع صفحات المذكرة ويعرفانها أكثر من أي شيءٍ آخر، لذلك فحين سمعا بغروب الشمس، أدركا كل شيء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...