السبت، 7 فبراير 2015

محاكمة سقراط

My rating: 3 of 5 stars

‫#‏الحرية_ليارا_سلام‬
‫#‏الحرية_لمعتقلي_الرأي‬

.........................
هذا الكتاب يثير إشكاليتين خطيرتين، من شأنهما إعادة التفكير في جوهر "فكرة حرية الرأي"، الأولى تتعلق بمواجهة الديمقراطية لحرية الرأي الذي يتم استغلاله لبث الأفكار المعادية لحريّة الرأي. الإشكالية الثانية تثير ما لدى الفكر من سلطة ونفوذٍ على البعض، سلطة من شأنها أن تتشابك مع سلطة الحكومة الديمقراطية نفسها، حينئذٍ، لن تكون المواجهة بين السلطة المسلحة التي تسن القوانين وتفرضها، وبين المفكر الأعزل المسالم، وإنما هي مواجهة بين سلطتين في الحقيقة، سلطة منتخبة من الشعب الذي اختار أن يحكم نفسه بنفسه واختار المساواة بين جميع أفراده، وبين سلطة أخرى ترى أنه ليس لكل المواطنين الحق في إبداء آراءهم، ليس لهم الحق في إدارة شئون بلدهم، وكذلك ترى أن الحكام لابد أن ينحصروا في طبقة محدودة جدا، طبقة الحكام الفلاسفة، وهؤلاء يقررون ما بدا لهم، من دون الرجوع لمشورة الشعب، لأن سقراط يرى أن الحاكم يعرف كيف يحكم الشعب، تمامًا كما يعرف الطبيب كيف يعالج المريض دون الرجوع لمشورته، ولا ترى هذه السلطة مانعًا من استخدام العنف لتطبيق مثل هذه الأفكار. وبداية من أفكار سقراط هذه، وطريقته الفذة في الإقناع وثقافته العالية، استطاع أن تكون له سلطة على بعض أتباعه، الذين قاموا بأكثر من انقلاب على ديمقراطية أثينا، ليطبقوا هذه المباديء، التي من أبرزها تقييد حرية الفكر التي بثها سقراط في عقولهم في أكاديميته في ظل حكم الديمقراطية. والعجيب أنهما (كريتياس وأرخميدس) طبّقا هذه المباديء على مُعلمهم سقراط بعد انقلابهم ومنعوه من (التفلسف)، ولم يعترض سقراط اعتراضًا يُذكر على ذلك!

فات الديمقراطية إذن أن تحافظ على نفسها، ربما أصبحت من الميوعة التي تجعل هؤلاء يلجؤون إليها ليحيكوا أفكارهم في هدوء، حتى أن هذه الأيام تعاني بعض الدول الأوروبية من تأثير بعض هذه الأعراض، وميوعتها الديمقراطية تمنعها من التعامل مع هؤلاء بشدّة، أو اقرؤا عن وزير تعليم داعش الألماني (قُتل في إحدى الغارات).. المُحبط أن الكثيرين لا ينتبهون لخطورة الأفكار، وأنه إذا وجب محاكمة إرهابي، فالأوجب قبل ذلك محاكمة كاتب/مفكر يدعو بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لهذه الأفكار. لكن بالطبع الأمر ليس بهذه السهولة، فليس أسهل من الكتابة، ولن نسمع عن فكرة عدائية لم تخرج للنور، لأن الديمقراطية كانت تتربص لها!

كنت مُعارضًا طوال قراءة هذا الكتاب لأفكار الكاتب، الحقيقة هذه المُعارضة في ظاهرها ملائكي في براءتها، فكنت في ذلك أقف في صف الديمقراطية وحرية التعبير التي تبيح للجميع أن يفكر ويُعمل عقله، لكني اكتشفت في هذا الموقف ميوعة قد تضر بالديمقراطية نفسها، لأنها يجب أن تحمي نفسها قبل أن تظلل الجميع تحت ظلها، لا بد لها من أن تكون ماهرة في تصيد هؤلاء. بحيث أن أي تعدّي يحاول المساس من مبدأيها المهمين: حرية التعبير والمساواة.. يجب أن ينال عقابًا لا يقل عن عقاب مجرم أو إرهابي.

الحقيقة كنت أقرأ الكتاب مُشمئزًا من محاولة الكاتب تبرير إعدام سقراط وإسقاط العار عن هذه الحادثة، وقد قضى حياته في هذا البحث المضني فقط ليبريء أثينا- ومن ثمّ الديمقراطية في مهدها الأول- من إعدام سقراط، وإثبات أن هذا الحكم كان في محلّه تمامًا، كنت معترضًا لأنه لا يمكنك قتل فيلسوف، وأنه مهما كانت الظروف والمُلابسات، لا يمكن قتل إنسان بسبب رأيه وفكره، لكن يبدو أني تأخّرت في معرفة أن الآراء والأفكار ليست بهذه القداسة، وهناك ملايين من البشر عانوا ولا زالوا بسبب أفكار وآراء البعض. كان سقراط مناهضًا شرسًا لفكرة أن يتكلم الجميع بحرية، وأن يشاركوا في الحكم.

وعلى الجانب الآخر فعكس ذلك هو الذي يحدث لدول تعاني الديكتاتورية- رغم إنكار حُكّامها مفتقدين في ذلك لشجاعة كريتياس الذي أعلن ديكتاتوريته كما يُعلن الديمقراطي ديمقراطيته- فلا يتم تطبيق مباديء الديمقراطية، أو محاربة الداعين لتقييد حرية الفكر والتعبير (السقراطيين والأفلاطونيين) بل يجري محاكمة الداعين لحرية الفكر، الرافضين لجميع أشكال التقييد.
يمكن تصنيف هذا الكتاب من الكتب ذات وجهة النظر الواحدة، خصوصًا وإن كانت تحمل رأيًا خطيرًا مثل ذلك الذي يروّج له المؤلّف، ألا وهو إلقاء اللوم على سقراط في محاكمته وإعفاء القضاة من قرارها، الذي كان يمكنها أن تتخلى عنه بسهولة، فقط لو أظهر سقراط شيئًا من مهارته الخطابية المشهورة، لكنه رفض لأسباب تبدو غامضة بالنسبة لي، ولأسباب تمت بشخصيته المتغطرسة بالنسبة للمؤلف. البت في هذا الأمر يحتاج لسماع وجهات نظر مختلفة، الموضوع برمته يتعلّق بموضوع الديمقراطية، لكن المؤكد أن سقراط كان مناهضًا لها رافضًا لفكرة حكم الشعب بنفسه.
ربما كان هذا الحكم قاسيًا بعض الشيء، فنحن إن أثبتنا أن سقراط كان فقط مروّجًا لأفكاره المعادية لحرية الرأي، فهذا ليس مبررًا لإعدامه، ولكن إن وصلت سلطته تلك لما قد يكون نذيرًا للديمقراطية فعلى الديمقراطية إذن أن تتأهب للدفاع عن نفسها. إثبات أن سقراط كانت له مثل هذه السلطة المباشرة على أتباعه وتلاميذه تحتاج لسماع وجهات نظر أخرى.

ما لفت نظري في هذا الكتاب هو موسوعية الكاتب، فهو تقريبًا قضى شطرًا كبيرًا من حياته في هذا البحث، وهذا يحيلنا لمشكلة الكتاب نفسه بالنسبة للقاريء العادي (الغير متخصص) وهو أنه تقريبًا ناقش الموضوع من جميع جوانبه وكل ما يثير شكّه، فناقش كل التفاصيل، التفاصيل المملة بالذات، حتى تلك التي تتعلق بأصل الكلمات التي تعبر عن "حرية التفكير"، خصص المؤلف فصلا كاملًا في البحث عن أصول هذه الكلمات!
الشيء الآخر الذي لفت نظري، أن هذه واحدة من أفضل الترجمات على الإطلاق، لسبب ما تذكّرت كثيرًا قصص بورخيس، الترجمة تشبه إلى حد ما مزج الأسلوب القصصي بالمقال عند بورخيس، وفكرة الإحالات السببية للأحداث، تشبه تلك القدرة المدهشة أيضًاعند بورخيس، الفضل للترجمة التي نقلت أسلوب الكاتب بهذا الوضوح.
ولأن هذا الكتاب يتحدث ويُدافع عن الديمقراطية، يفضح الديكتاتورية، فـ الحرية ليارا سلّام- الحرية لمعتقلي الرأي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...