السبت، 7 فبراير 2015

صخب البحيرة

My rating: 4 of 5 stars

المُلفت في الرواية هو استخدام البساطي ثلاث مستويات من السرد، فيها من التباين ما يصعب جمعها تحت أسلوب كاتب واحد أو في فترة واحدة من الكتابة. على غلاف الكتاب نبذة عن الرواية تشير إلى بساطة أسلوبه، كان ذلك واضح جدا من الجزء الأول الذي بدأت تتشكل فيه ملامح المستوى الأول من السرد، سرد أقرب لأسلوب القصة القصيرة جدًا في اعتماده على الجُمل القصيرة الخاطفة التي تبدأ بفعل مُضارع مُتحرّك (دال على الحركة)، واختصار مناطق الحوار وتحويلها لجمل سردية، فكان أن أصبح هذا الجزء مُغرقا بالفعل "قال" يتبعه الحرف "إن"، وكان ذلك تهميش متعمّد للشخصيات مناقض تمامًا للأسلوب الذي استخدمه في الجزء الثالث، الذي تجلّت فيه قدرته وشاعريته في بناء جسد حواري متكامل تميّز به البساطي، فكانت صياغته للشخصيات أكثر تعمّقًا، مع استخدام الجمل الطويلة بأسلوب أكثر انسيابية غير مقيّد بابتداء الجُمل بفعل مضارع، أو مقيد بطول معين للجملة، التناقض الآخر مع الجزء الأول، اعتماده في الجزء الثالث على السرد المستقبلي، تركّز هذا الأسلوب في نهاية الجزء، ربما أراد تعجّل الأحداث، وتجميعها لإنهاء الرواية وحسب، هذا الأسلوب –فيما أذكر- لم أره من قبل إلا عند ماركيز، حتى إن جملًا بعينها ذكرتني مباشرة بأسلوب ماركيز، ولا أعتقد أن أحدًا ممن قرأ "مئة عام من العزلة" لا يتذكر جُمل من نوع: "بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام، سوف يتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا..." استخدم البساطي نوع مماثل من هذه الجُمل في الجزء الأخير بشكل مكثف، أنجزت معه النهاية بشكل سريع وأعطته الحبكة المطلوبة. إذن فهناك جمل خاطفة معتمدة على الفعل المضارع وغياب شبه تام للحوار في الجزء الأول، في حين أن هناك جمل طويلة منسابة واعتماد شبه تام على الحوار مع استخدام مكثف للحرفين سوف والسين في الجزء الثالث. الجزء الثاني لا يختلف كثيرًا عن الثالث، وإن خلا من استخدام السرد المستقبلي بطبيعة الحال.
من خلال هذه المستويات المختلفة نجح البساطي في رسم صورة صادقة عن هذه الشريحة المُهمّشة من زوايا مختلفة، وذلك في الحقيقة مدهش؛ تلك المرونة والقدرة على استخدام أشكال مختلفة من السرد لدعم فكرة واحدة لدى الكاتب؛
الواضح في الرواية أن البطل فيها هو "الروابط الثنائية"، ليست فقط مع المكان أوالبحر، والذي كان المؤثر الأكبر في حيوات جميع الشخصيات، وإنما الروابط الثنائية المتعددة في جميع أجزاء الرواية: ارتباط الصيّاد العجوز ببائعة السمك، وارتباط ابنيها التوأم، وارتباط جمعة بزوجته، ثم ارتباطه بصندوقه السحريّ، ثُم فيما بعد بصديق رحلاته، وأخيرًا الارتباط المؤثر بين كراوية وعفيفي، ثم ارتباط زوجتيهما بعد اختفاءهما وارتباط بناتهم (فقط زوجة جمعة بقت وحيدة بعد انشغال زوجها بصندوقه ثم اختفاءه) هناك تأكيد وإلحاح على تلك الحاجة من الروابط كشفه هذا التمثيل الدرامي للحالات الطارئة لغياب هذه العلاقة، مثل البؤس الذي مُنِيت به زوجة جمعة بعد اكتشافه الصندوق، وحالة الخصام الهزلي المؤثر الذي فصل عفيفي عن كراوية، فكانت مبارزاتهم السخيفة دليلًا آخر على حاجتهم لهذه العلاقة وأنهما مهما أبديا خصامًا، فهما صديقين، لا يمكنهما العيش وحيدين، يقول كراوية لعفيفي بعد أن تشجّع لإنهاء هذا الخصام:
- يا عفيفي لن تجد غيري وقت الجد.
وتصالحا.
وكان جميع هؤلاء يجمعهم ولاءهم وارتباطهم الغريزي بالبحر، وكان هو قدرهم، كان بداخله مستقبلهم جميعًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...