الخميس، 20 أغسطس 2015

رسائل الشخاذ

- لو سمحت، هل أنت مخيف حقًا؟
- من الذي أخبرك؟
- لا أحد، أنا هنا وحدي بجوار حمار عمي، هو من قال لي أن هذا الحمار جبان جدا.
كان الحمار يأكل من مقطف التبن بتؤدة وتواصل كأنه لن يتوقف.
-وليكن، فحمارك هذا، أو حمار عمك أيا كان الأمر، لا يرى سوى مقطف التبن المعلق على رقبته! -لو أصبح خائفًا سيركل المقطف بعيدا، وتتناثر عيدان التبن، وربما مات جوعاً قبل أن يعود عمي بتبن آخر.
-هذا شيء لا يخصني كما هو واضح!
-أطلب منك ألا تخيف الحمار، وأطلب منك على وجه الخصوص أن ترحل من هنا.
-لا حق لك في هذا، لا أحد له الحق في شيء كهذا.. لا تتعد حدودك.
-حسنًا، لترحل أو لتبقا، لكن لا تخف الحمار. لا تتحدث.
-سوف أتحدث وأمارس حريتي كيفما أشاء.
اختار جذع شجرة قريب وجلس بجواره، أخرج ورقة وقلم من حقيبته البالية وبدأ في الإملاء على نفسه بصوت مسموع:
 -(عزيزتي عزيزة.. هل تعرفي أنه كلما كتبت لك رسالة انتبهت إلي اسمك وشغلني لفترة، على كل حال أنا بخير، خصوصًا في هذه اللحظة العظيمة حيث أتمتع بحريتي، سوف أسألك سؤالًا وأنتظر منك جوابا بالطبع، هل لأحد الحق في سلب حريتنا، ومن أجل ماذا من أجل حمار جبان! وبهذه المناسبة سوف أقرأ ردك على مسمع الجميع حينما يصلني، أحبك عزيزتي. مع تحيات.. من تحبينه بالطبع)
ينش سالم الذباب بعصا قصيرة وهو يصطنع اللامبالاة وهو يشعر بداخله بالقرف. تمر ثلاث دقائق وكلاهما صامتين، وإن كان الثاني يدندن أحياناً. يبدأ بالكلام:
-إذا ما اسمك؟
-هذا لا يخصك
-اللعنة على كل ما يخصني.
يتحدث كأنما يخاطب نفسه:
-ما الذي يخصني حقا!
-حريتك!
-حريتي هي ضمنيا الأشياء التي لا تخصني، أنا شحاذ لعين!
-أنت شحاذ حقًا؟!
-لا أصدق أني قلتها، أرجوك انس هذه!
-حسنًا نسيتها، بما أن الحمار يأكل مطمئنًا... من الجيد أن هناك من تبادلها الحب.
-من؟
-عزيزة.
-لا أعرف واحدة بهذا الاسم، هي واحدة من آلاف الأسماء التي أراسلها.
ينهق الحمار ويحرك رأسه كأنما يحذرهم من غضبته. يربت سالم على رقبته جزعًا!
-إذن أين ذهب عمك؟
-رحل منذ يومين ليبتاع طعام لنا وللحمار!
-أنا أيضًا لم آكل منذ يومين.
-هل تود أن تأكل خبزًا؟
-سيكون هذا لطف منك حقًا. يشعر بالامتنان من أعماقه فيضيف: -بخصوص حديثي عن الحرية، فاغفر لي هذا، أحفظ بضعة أشياء لأقولها بين الحين والآخر.
يبحث سالم في أشياءه عن كسرات الخبز فيقدمها له مع ربع قطعة جبن قديمة. يتناولها الشحاذ بنظرة منكسرة مبتسم بامتنان:
-الطعام حق للجميع كالتعليم والهواء، لكن مسؤولينا لا يبالون سوى بالتعليم. بالمناسبة محمد عبده هو صاحب هذه المقولة الخالدة.
-تعرف الكثير إذن؟
-أعرف ما ينفعني، إن حاول أحدهم أن يبعدني عن مكاني أكلمه في الحرية وإن لم أجد طعاما كلمته في مقولة محمد عبده.
- من يبالي إذن؟
- الجميع يبالون بشيء فريد كهذا، تخيل.. "شحاذ مثقف"، وضع أحدهم صورتي على الإنترنت وكانت التعليقات أني كنت فيما مضى أستاذ جامعي، وبسبب ذلك صرت شحاذهم المدلل، وإن رأوني أغدقوا علي من عطاياهم.. حينما يتثقف الإنسان فإنه يجمع حوله حمقى كثيرين مفيدين. -والحمير؟
-ما بها؟
-يبدو أننا نهتم بها كثيرًا.
-نعم، مثل شحاذ مثقف( يضحك بصخب)
يقوم الشحاذ، يمد نظره نحو الأفق مظللًا جبهته بكفه، لا يرى شيئا، يعود جالسًا
- ماذا كان ذلك؟
-أستطلع قدوم عمك، في رأيك لماذا تأخر؟
-كان له أن يأتِ بعد ساعة واحدة من رحيله، لكن مرت ثمان وأربعون ساعة!
-أين ذهب؟
-لم يخبرني
-على الأقل معك خبز وجبن.
-لم آكل منذ يومين!
-حقا؟ لما! هذه الجبن رائعة، والمِش... يا سلام!
-لو لم يأت سأموت، لا أعرف غيره وهو لا يعرف غيري!
-انس هذه الأشياء، على الأقل معك هذا الحمار، يمكنك أن تبيعه وتتاجر في الكتاكيت، ثم تتاجر في البيض، ثم تصبح ثريًا وتتزوج ويصير لديك أبناء، وحين يكون لدى الإنسان أبناء ينسى أعمامه جميعًا، قد يجيئك عمك ليطالبك بحماره، فيضربه أبناءك. حينئذ فقط تشعر بالفخر بذريتك.
-غير حقيقي!
-صدقني، رأيت ذلك كثيراً. يتنهد سالم بعمق، ويشعر بالملل والقلق معًا ملتفتًا حوله ليوقف مسار هذا الحديث.
يُخرج الشحاذ من حقيبته رسالة، ينظر إليها وهو يضحك بصوت خفيض، يريد أن يلفت انتباه سالم.
-ما هذه؟
-هذه رسالة كتبتها إلى فيروز، أتود أن أقرأها لك، سأقرأها لك.
يبدأ في قراءتها من دون أن ينتظر ردًا من سالم:
-          "عزيزتي فيروز.. كيف حالك، أنا بخير والأمور تسير على ما يرام، في المرة الأخيرة التي تقابلنا فيها وددت لو أخبرك أن تسريحة شعرك رائعة وكيف ان خصلاته تتدلى على صدرك في جرأة لا أستطيع مقاومتها. لا حاجة لي بأن أذكرك أني صرت عاشقًا لضحكتك حتى أني حفظت بعض النكات كي ألقيها عليكِ فأرى ضحكتك الصافية. ولأنكِ في كل مرة تغضبين أني لا أحكي أخباري، فسأقول لكِ كل شيء؛ العمل يسير على ما يرام، وصار الربح مضاعفًا، وأفكر أن أفتتح فروعًا جديدة، باختصار، أنا سعيد بكل شيء ومحظوظ، لأن عملي يسير بوتيرة مُبشّرة وفوق ذلك لديّ حبيبة مثلك. سوف نلتقي قريبًا. قريبًا جدا حبيبتي. مع تحيات.. من تحبينه بالطبع".
سالم مرتكزا بصدغه على طرف العصا المثبت طرفها الآخر على فخذه، يبدو أنه لم يول انتباهه لرسالة الشحاذ، بدا عليه القلق أكثر.
الشحاذ طاويًا رسالته وهو يتنهد بأريحية وسعادة:
-          السعادة أبسط شيء.
-          لكن ليست هناك فيروز ولا عزيزة..
-          حقًا! لم أكن أعرف.
يضحك بصوت مجلجل لا تخفي سعادته البلهاء، ثم يقول بنبرة نصح:
-          عليك أيضًا أن تكتب الرسائل..
-          أكتبها لمن؟
-          لوالدك مثلا، فهو بالتأكيد يعرف أشياء لا تعرفها أنت عن عمك المختفي!
-          مات والدي قبل ولادتي!
-          جرب أن تكتب له!
-          مثل فيروز وعزيرة؟
-          تماما مثل حبيباتي.
شبح ضحكة تلوح من وجه سالم لا يستطيع مُداراتها، يعطيه الشحاذ ورقة بيضاء وقلم، يتناولها سالم بتردد.
-          ماذا أكتب؟!
-          ابدأ مثلا بتحية والدك.
يضحك سالم بعفوية وتلمع حدقتاه:
-          لم أشعر بذلك من قبل.
يتردد قليلا ولازالت الضحكة بكامل طاقتها تشعّ في وجهه، يبدأ في الكتابة:
-          "مساء الخير أبي.. كيف حالك أبي.. أنا بخير وفي انتظار عمي.. أتمنى أن تكون بخير أيضا.."، يتوقف كأنه يستحضر ذكرى بعيدة:
-          "غبت طويلًا ولا أكاد أعرف عنك شيئًا سوى أنك كنت سائقًا.. وددت لو أراك.. أراك من خلف المقود، وهذا كل شيء.. يا أبي. "
يتوقف وقد تلاشت ضحكته، وأصبح منزعجًا، يرمي الورقة بعيدًا:
-          لا أعرف ماذا أكتب، هذه سخافة!
-          لا عليك، أنت لا تتمتع بهذه الموهبة على كل حال!
-          نعم، أنت وحدك من تتمتع بموهبة مراسلة الموتى!
-          وإن يكن، فأنا سعيد.
-          بالوهم.
-          نعم أنا سعيد بالوهم، هذه هوايتي؛ السعادة بالوهم. الوهم الوهم الوهم.
يصيح بها مرارًا.
-          كررها وستعرف أنها لا شيء.
يحمل حقيبته ويقوم استعدادً للرحيل:
-          أنا راحل
-          هذا لا يخصني.
-          نعم هذا شأني وحدي.
-          أكيد.
يتلكّأ في ضبط حقيبته البالية على كتفه. يسير عدة خطوات مبتعدًا قبل أن يوقفه سالم:
-          لكن أخبرني...
-          ماذا تريد أن تعرف؟
-          ماذا تحمل داخل هذه الحقيبة الثقيلة!
-          فيها رسائلي.
-          رسائل فقط؟
-          لا، ورزمة أوراق وقلم.
في هذه اللحظة نهق الحمار وهو يهز رقبته، يتأرجح معها مقطف التبن، وقد أضحى فارغًا تمامًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

هجرة مواقع التواصل الافتراضي

      لا أتخيل كيف سيبدو يومي من دون الساعات الطويلة التي أقضيها في تصفح تويتر أو فيسبوك أو تطبيقات التواصل الأخرى مثل ريديت. أتاح لي العمل ...