الثلاثاء، 10 يونيو 2014

نيڤادا الحارقة


"ذُق من يدي. بالله عليك".

جئت نيڤادا لأنها حارقة لدرجة أنهم يدعونها جهنّم الأرض، وأمي هنا- في جهنّم. الحكايات والأساطير تكوّنت عند أمي ثمّ أقنعتني أنها حقيقةٌ مُطلقة.

"ذُق من يدي. بالله عليك" هذا آخر ما قالته لي أمي، أرادت أن تُطعمني آخر لقمة من يدها، كأنها تخشى أن تموت قبل أن تتأكد أني أكلت، ولأني أعرفها جيّدًا أكثر من أي شخص آخر- لأني لم أرَ في حياتي شخصًا آخر في الحقيقة- فقد أكلت، وأرادت أن تقول كلمةً ما قبل أن تموت، رأيت روحها تخرج من فمها وأنا أمضغ، كان الطعام لذيذًا، أردت أن أسألها عن اسم هذه الأكلة، لكنها لم تستطع أن تنطق، وظلت روحها تخرج، كانت تعاني بشدة كأنها تتعذب، سقطت ونامت على ظهرها من الآلم، أرادت أمي أن تُنشئ أسطورتها الأخيرة، قالت بصوت متحشرج:

- أنا ذاهبةً إلى الجحيم، أرى ذلك أمامي.

ثم ماتت أمي، ومتّ أنا... لقد وضعت أمي السم في الطعام، لأنها أحبتني لدرجة أنها قتلتني معها.

بعد أيام- وقد عرفت ذلك من روحي التي ظلت مختبئة في أحد أركان البيت- اقتحم مجموعة من المسلحين المنزل، كانوا يُهاجمون المدن والقرى، يأخذون كل شيء، كل ما تصل إليه أيديهم أخذوه، والنساء اغتصبوها، ويقتلون من يعترض أو من يحلُ لهم قتله، ولما وجدوا المنزل غير مسكون، لم يستطيعوا أن يقتلوا أحدًا، كان كبيرهم يتقدّمهم جميعًا؛ كان من السهل أن أتبين من ملامحه أنه قائدهم فضلًا عن صوته الجهوري الصارم، فهو يستطيع أن يوجههم بصوته وحده، قال في كلمة قاطعة:

- كل شيء.

تساءلت عمّا تعني "كل شيء" هذه، حتى اقترب مني أحد الجنود، وتناول شيئًا بجواري وكان الطعام الذي وضعت أمي فيه السم. لم يرني، فأنا مجرّد روح سوف تُحاسب قبل أن أُلقى في جهنّم مع أمي، هذا ما أخبرني به ذلك الكائن المروّع الذي جائني قبل يومين، ما أن سألني:

- ماذا تريد قبل أن تُحاسب؟

لم أفكر، حاولت فحسب أن أهرب منه بأي طريقة، قلت:

- أريد أن أبقى هنا لأودع البيت، لأني لا أعرف غيره.

أعلمني هذا الشبح أن أمي تُحاسب الآن، ولأن شكله مرعب ووجهه يستطيع أن يقذف في قلب كبير العصابة هذا الرعب حتى الموت، فإني قلت:

- أرجوك دعني هنا، لا أعرف مكانًا آخر، وأمي سوف تعود، فقط أخبر كبيركم أني وحيد بدونها.

أمهلني الشبح يومين فقط لا غير، ثم ذهب.. "ذهب إلى أين؟" فكّرت، ثم قلت في نفسي: ربما عند أمي، فبكيت لأنها معهم. أمي المسكينة، هربت من العصابة ليودِعوها في جهنّم.

بعد أن تناول هذا الرجل من الطعام المسموم، مات بفوره واكتشف هذا أحدهم، فأذاع الخبر بينهم في ذعر، وعم الغضب، واعتقدوا أن أصحاب البيت قتلوه، فتوعّد كبيرهم رافعًا صوته الجهوري حتى يسمعه أصحاب البيت:

- إن لم تخرجوا إلينا فسوف نحرق البيت

كنت أرتعد خوفًا، وكنت أراهم جميعًا وهم يتأهبون لفعل أي شيء، فكرت في البيت الذي لم أر غيره، وأمي التي تُحاسب عند هذا الشبح المخيف.. وددت لو أموت، لكني ميّت، فعرفت أن روحي مُعذّبة. ولما لم يخرج إليهم أحد أحرقوا البيت وكانوا قد خرجوا جميعًا. كنت أرى النيران، والنيران بدورها لم ترني لذا لم أحترق، وظلّت روحي نقية كما كانت. كان أثاث المنزل يتموّج من خلف ألسنة اللهب، فكان عليّ الرحيل إلى أمي، "أين الطريق إليها؟"... الأرواح تعرف، لذا فقد ذهبت.

وهناك حيث لا شيء متوقّع الحدوث، صرخت لعلّ أمي تسمعني، لم يسمعني أحد فقد كانت معي أرواح كثيرة تصرخ، أرواح لا حصر لها، وقد ظننت أنها تصرخ منذ بدأت الخليقة، وسوف يستمرون في الصراخ إلى الأبد، تتبعني أحد الأرواح، وكان الرجل الذي أكل من الطعام المسموم، حدجني بنظرة متوعّدة، ثم تابع حركته للأمام يشق صفوف الأرواح، وكانوا جميعًا يصرخون: أمي.. أمي، بينما كان هذا الرجل وحده يبحث عن أمي أنا، أراد أن يقتلها كما قتله السم.. ثم جاء الشبح وحملني بإصبع من يده، وقال تعال معي، فذهبت. وفي الطريق نمت أو هم قد أناموني، أو فقدت وعيي، لا أعرف بالضبط، وهنا في نيڤادا وجدت نفسي وحدي تمامًا، أطرافي تنصهر من الحرارة، بعد ساعات قليلة سوف أتفحّم. هنا يوجد أربع شموس لا يأتي عليها ليل، حيث لا مفر منها أبدًا. وجدت بئر، لم أفكر، وألقيت نفسي فيه، اختفت الشموس كلها وحلّ الظلام، وهناك في القاع وجدت شعرًا محترقًا، عرفت أنه جسد أمي، ثم سمعت بكاءً؛ كانت روحها منزوية بعيدًا، ذهبت إليها، ولأننا روحان، فقد سكنت داخلها مثل الجنين:

- أمي.. لماذا نحترق؟

لم ترد، وكانت تتألم لأن جسدها يحترق أمامها، ربما لم تسمعني، فخرجت من داخلها وذهبت لأطفئ الجسد المشتعل، كان محترقًا تمامًا، وكانت الجمرات تتطاير منه، حتى أنني بالكاد تعرّفت عليه، رميته بعيدًا ثم عدت إلى أمي، وكانت لا تزال تبكي. وهناك رأيت أحد الأرواح قادم نحونا، عرفت أنه الرجل الذي أكل من الطعام المسموم، حدجني بنفس النظرة، ثم نظر إلى أمي، أراد أن يقتلها، لكنها كانت تبكي بحرقة، فذهب وخرج إلى الصحراء. قلت لأمي:

- هل تسمعينني يا أمي؟

صمتت قليلًا لتسترح من البكاء، قلت لها:

- هل هناك جنة يا أمي، وهل سننتظر كثيرًا حتى نعود لمنزلنا؟

لم تتكلم، ثم رأيت جسد الرجل المسموم يهوى من فتحة البئر وهو يحترق. كانت أمي تتكلم دائمًا عن الجنة وكانت هذه إحدى أساطيرها، لأنها كانت تعرف أن هناك من يتربّص بنا، وعندما علمت أنهم قد جاءوا إلى القرية قتلت نفسها وقتلتني.

- تذكرين الأكلة التي أطعمتني منها يا أمي؟.. كانت لذيذة حقًا!

أمي صامتة تمامًا، ويبدو أنها لم تتعرف عليّ، كُنَّا في انتظار الشبح ليأخذنا لنتعذب ثانيةً.


ـــــــــــــــــــــ

كتبت هذه القصة لمدة نصف ساعة متواصلة، لم يكن لدي أي علم بما ستصل إليه الأمور، وكيف ستنتهي، بدأتها كتتمة لسلسلة عن المدن التخيّلية بعد "قريبًا من مانهاتن".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...