الأربعاء، 1 مايو 2013

حِكَايةُ السَّيِّدْ لام


 

(1)

مُنذُ أعوامٍ اشتَرَى السّيِد لامْ مِنْ مَتْجَرٍ ما، بِصُعوبَةٍ شَديدةٍ يَتَذكّرُ مَلامِحَهُ، مِصباحًا بمقبضٍ أَسْودٍ، وَضَعَهُ بِجِوارِ وَسَادَتِهِ البَاليةِ المُبَقّعةِ، وظلَّ نَائِمًا عَلى السّريرِ حتّى يَوْمِنا هَذا.. يَقولُ دَوْمًا لِنَفسِهِ: "أنا سَعيدٌ لأَنَّ لديَّ عَتادَ وَحْدَتي الطّويلةِ، لستُ بحاجةٍ إلى أَحَدِهمْ"، ولَمْ يَكُنْ عَتادَهُ في هذا المِصْباحِ وَحَسبْ، بَلْ أَيضًا كانَ هُناكَ كِتابٌ يُعيدُ قِراءَتهُ كُلّما انتَهَى مِنْهُ، وَليُضْفِي بَعضَ الجِدِّ والصِّدقِ عَلى نفسهِ كانَ يَضحَكُ في الأجَزاءِ التي تُثيرُ الضَّحِكَ كُلّ مَرَّةٍ كَأنَّهُ يَقْرَأُها للمَرَّةِ الأولى، لَكِنّ هُناكَ جُزءًا واحِدًا فَقَطْ هُوَ مَا جَعَلهُ يَضْحَكُ مِنْ أَعْمَاقِ قَلبهِ، ولا يُشعِره بالمَللِ أبَدًا، وَهَذا الجُزْءُ مُتَمَثلٌ فِي عِبَارَةٍ كانَ يَقولُها شَيْخٌ عَجُوزٌ لابْنهِ: "يا بُنَي، احْتَمِلْ قَسْوَةَ الحَيَاةِ، فَهي أَتفَهُ مِنْ أَنْ تُعيرَها انتِباهَكَ"، كَانَ يَضْحَكُ لِنَفْسِهِ كُلمَا قَرَأَهَا حَتّى تَدْمَع عَيْنَاه، رَغْم أَنّ تَعَابيرَ وَجْهَهُ كَانتْ تُوحِي أَنَّهُ عَلَى وَشَكِ البُكَاءِ، وَكانَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: "لِمَاذا أَحْتَمِلُ حَياةً تافِهَة!"، وَكَانَ لَدَيْهِ أَيضًا، ضِمْنَ عَتَادِ وَحْدَتِهِ، قَلَمٌ يَكْتُب بِهِ مُلاحَظاتِهِ عَلَى مَا يَقْرَأه في الكِتابِ، ولأنَّ الكِتابَ امْتَلأَ بِالهوامِش وَلمْ تَعُدْ توجَدُ أَيَّة مِساحةٍ إِضافِيةٍ لِكتابةِ المَزيد، فَقَدْ كَتَبَ السيِّد لام مُلاحَظاتَه الإِضافية عَلى جُدرانِ الحُجرةِ حَتّى امْتقعَ لَونُها إِلى اللّونِ الأسْوَدِ، وَلمْ يَعُد هُناكَ سوى مِساحةٍ صَغيرةٍ تَكْفي بِالكادِ لِجُملةٍ أوْ اثنتين، فَفَكّرَ بِكِتابةِ مُلاحَظاتِهِ الإِضافيةِ عَلى سَقْفِ الحُجْرةِ، لَكِن عَدَمْ وجودِ سُلّمٍ حالَ دُونَ ذَلك.

أَمّا فَلْسَفَته، الّتي صَاغَها غَالِبًا قَبْل شِراءِ المِصْباحِ بِفَترةٍ قَصيرةٍ، فَهِيَ مُتَمَثّلةٌ فِي حِكمَتِه المُفَضّلةِ: "إِنّ أفضَلَ عِلاقةٍ بَيْنَ اثْنين هِيَ ألاَّ يَعْرِفا بَعْضِهِمَا"، وَعَلى أَساسِ تِلْكَ الحِكْمَةِ كانَ يَرفُض أَيَّة زِيارةٍ لَهُ مِنْ الخارِج، حَتّى أَنَّ أَحَدَهُم طَرَقَ نَافِذَتَه ذات مَرَّةٍ، وَقَالَ: "أَيُّها الرَّجُل، افْتَحْ لِي قَلْبَك قَبْلَ نَافِذَتِكْ، سَأَكونُ صَديقَك".. لَكنّ السيّد لام زَجَرَهُ قَائِلًا: "ابْتَعِد مِنْ هُنا وَلا تَأْتِي مَرَّةً أُخرَى"، فرَدّ عَليْهِ الرَّجُل بِاسْتِهْجانٍ مَمْزوجٍ بِسُخْرِيةٍ: "حَسَنًا يا صَديقِي، سَأَبْتعِدْ، لَكِنْ اعْلَم أَنَّهُ لَنْ يَأْتيكَ أَحَدٌ غَيرِي يَعْرِضُ عَلَيكَ صَدَاقَتَهُ المجّانيةَ، واعْلَم أَنَّنا سَنَقُومُ بِإزالةِ هَذِهِ الحُجْرةِ القَديمَةِ"، ثُمَّ ابْتَعَدَ مَعَ ضَحَكَاتِهِ حَتّى حَلَّ صَمْتُ الجُدرانِ الأَربَعَةِ.. لامَ السَّيِّد لامْ نَفْسَهُ وَقالَ: "لَقَدْ تَمَّ التَعارُف بَيننا بَعدَ أَنْ قبلت مُحادثته، لَمْ يَكُنْ عَلىّ فِعْلُ ذَلِكَ".. حَزِنَ حُزنًا شَديدًا في تِلْكَ اللّيلةِ، وكانَ يَلومُ نَفسَهُ بِأنَّهُ لَطالَما عَرِفَ الحِكْمَةَ فكانَ عَليهِ أَلاَّ يُحادثه، وتعلّمَ شَيئًا مُهمًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ صَوْتَ الإِنْسانِ طَريقتُه المُثلَى لِنَصْبِ المَكائِدْ بِالآَخَرين، وَقَرَّرَ أَنْ يَقْطَعَ لِسانَه..


وفي صَبيحةِ اليَومِ التّالي أَخْرَجَ مُوسَى مِنْ تَحْتِ الوِسادَةِ بَعدَما تَذَكَّرَ الوَعْدَ الّذي قَطَعَهُ عَلى نَفْسِهِ في اللَّيلةِ الماضِيةِ، حَتّى أَنَّهُ رَأَى حُلْمًا غَريبًا؛ حَلَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي حَرْبٍ قَديمةٍ لا يَعْرِفُ مَنْ يتحارَبُ فيها، وَكَانَ هُوَ الجُنْديُّ الوَحيدُ الحاسِرُ دونَ سِلاحٍ، وَفَجْأة أَشْهَرَ كُلُّ الجُنودِ سُيوفَهُم ورِماحَهُم وقَتَلوا أَنْفُسَهُم وَسَقَطوا جَميعًا تَحْتَ قَدَمِ السيدْ لام، سَارَ نَحْوَ المَلِك وَوَجَدَهُ يَلْفَظُ أَنْفَاسَهُ الأَخيرَةَ وَبَريقَ تاجِه يَلْمَعُ في عَيْنَيْهِ، فَأَخَذَهُ وَوَضَعَهُ عَلى رَأْسِهِ، وَصَارَ مَلِكًا عَلى شَعْبٍ مِنَ القَتلَى والجُثَثَ.. وَانْتَهى حُلمُهُ. فَلَمّا هَمّ بِقَطْعِ لِسَانِهِ، تَذكّر آَخَرَ مَشْهَدٍ في الحُلْمِ (مَلِكٌ عَلى شَعْبٍ مِنَ القَتلَى والجُثَثَ) وَأَحَسَّ أَنَّهُ ذَاهِبٌ لِنَفسِ المَصيرِ، فَقَد كانَ هُوَ الوَحيدُ الحَيّ وَسَط القَتلى وَكَانَ مَلِكًا كَذلِك، ثُمَّ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ لِسَانَهُ فَسَيَكُون الوَحيدُ الأَخرَسُ وَسَط المُتكلِّمين، وَعِرِفَ حِكْمَةَ الحُلْمِ: أَنَّهُ فِي الحَالَتَينِ وَحيدٌ!

أَلْقَى السيد لام المُوسَى، بَعْدَما تَأَكَدَ لَدَيْهِ عَدَم جَدْوَى قَطْعِ لِسانِه.. وَبَدَأَ بِقِراءةِ كِتابِهِ الذي أَنْهاه بِالأمسِ. لَمْ يَضْحَكْ، وَبَكَى عِنْدَما قَرَأَ: "يا بُنَيّ، احْتمِلْ قَسْوةَ الحَياةِ، فَهِيَ أَتْفَهُ مِنْ أَنْ تُعيرَها انْتباهَكْ".

(2)

ذات يومٍ سَمِعَ طنينَ ذُبابةٍ تَدورُ حَوْلَ رَأْسِهِ حَتى تَوقَّفت عَلى إِحْدى وَجْنَتَيهِ، حَاولَ ذبِّها عَنْهُ لكنّ بُرودَةِ الجوِّ وَظُلمةِ الحُجرَةِ أَثْقلا جَناحَيْها، وَلْمْ تَأْبهْ لِكفِّه العِمْلاقِ الذي يَبْطِشُ بِها، استَسْلَمَ لَها السيد لام وَوَضَعَها عَلى كَفِّهِ، وَأَخَذَ يَتَأَمَّلُها في ضَوءِ المِصْباحِ الباهِتِ الذي بَدَتْ فيهِ الذُّبابةُ مَسْرُورةٌ، حَتى أَنَّها أَخَذَتْ تَتَحَرَّك وَتدورُ حَوْلَ نَفْسِها فِي بُقْعَةِ الضَّوءِ، وَلِسَبَبٍ ما شَعُرَ أَنَّها مِثْلَهُ وأَنَّهُما يُحارِبانِ الطَّبيعةَ؛ هِي تُحارِبُ الظُّلمةَ، وَهُوَ يُحارِبٌ نَفْسَهُ.

التَقَطَ السيد لام قِطْعةً صَغيرةً مِنَ السُّكَّرِ مِنْ عَلى الأَرْضِ بِجِوارِ السَّريرِ، وَوَضَعَها عَلى كَفِّهِ، اقْترَبَتْ مِنْها الذُّبابةُ وَوَقَفَتْ عَلَيْها وَأَخَذَتْ تَتَنَاوَلَها بِفَمِها الذي يُشْبِهُ خُرْطومَ فِيلٍ، ابْتسَمَ لَها السّيد لام، وَاحْتَرَمَ فيها صَمْتَها وَهُدوءَها، ثُمَّ صَارا صَدِيقَيْنِ..
وَبَعْدَ أُسْبوعٍ لاحَظَ السّيد لام زِيادةَ حَجْمِ الذُّبابةِ إِلى الضِّعْفينِ تَقْريبًا حَتّى صَارَت في حَجْمِ عُقْلَةِ إِصْبَعٍ، واستَطاعَ أَنْ يُمَيِّزَ عَيْنَيها بِسُهُولَةِ، كَانَتْ تَنْظُرَ إِلَيهِ بِجُمودٍ، لَمْ يَكُنْ يَسْتريحَ لِنَظَراتِها التي تَشي بِشَرٍّ مُضمَرٍ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ ظَلَّ يَحْتَرِمُ فيها هُدوءَها، وَتَأَكَّد لَدَيْهِ مَعَ مُرُورِ الوَقتِ أَنَّ نَظَراتها الجَامِدةِ تِلكَ ما هِي إلاَّ طَبيعَتِها التي لاَ دَخْلَ لَها فِيها، وأَنَّ الشَّرَّ المُضْمَرَ الذِي ظَنَّهُ فيها، ما هُوَ إِلاَّ وَهْم أَضفَتْهُ عَليها تِلكَ الطبيعةُ، وَأَنَّها أَبْعَدُ مِمَّا يَتَخَيَّلُ عَنْ التكلُّفِ والافْتِعالِ مِمَّا يُنسَبُ دَائِمًا إِلى البَشَرِ، وَتَوَطَّدَت عِلاقَتُهُ بِها، فَكَانَ يَتَحَدَّثُ إِلَيْها وَهِي تَتَنَاوَلُ السُّكّرَ بِفَمِها، وَكَان يُخْبِرُها دائمًا أَنَّها لَوْ كَانتْ تَعَرَّفَتْ عَلى ذُبابٍ مِثْلُها لَكَانَتْ تَقِفُ الآنَ عَلى أَكْياسِ القِمامةِ بَدلًا مِنَ السُّكَّرِ وَمَا زَادَ حَجْمُها نَتيجَة هَذِهِ الرَّفاهِية، وَكَانَتْ الذُّبابةُ تَسْتَمِرُّ فِي تَنَاوُلِ السُّكَّرِ..
وَفِي يَومٍ سَمِعَ صَخَبًا وَجَمْهَرَةً مِنَ النَّاسِ عَلى مَبْعَدَةٍ مِنْ حُجْرَتِهِ السُّفْلِيَّةِ، لَمْ يَهْتَمْ لَها فِي بَادِئ الأَمْرِ كَعَادَتِهِ، لَكِنَّهُ أَحَسّ بِزَلْزَلَةٍ فِي الحُجْرةِ، ثُمَّ فَجْأةٍ انْهارَ حَائطَ الحُجْرةِ المُواجِه للشّارعِ، مِنْ حُسْنِ حَظِّهِ أَنَّهُ كانَ بَعيدًا عَنْهُ، وَكَانَتْ تِلْكَ الآلةُ العِملاقةُ تُحاولُ هَدْمَ الحُجْرةِ، لَكِنَّهُم تَوَقَّفُوا عِندَما رَأَوه مُتَكَوِّمًا عِنْدَ الجَدارِ المُقَابِلِ وظلُّوا يَنْظُروا إِليْهِ وإِلى الذُّبابةِ العِمْلاقَةِ المُلتَصِقةِ عَلى إِحْدى وَجْنَتيهِ كشَامةٍ ضَخمةٍ تُشرِفُ علَى سَفحِ لِحيَته الكَثّة، وَفِي يَدِهِ اليُمْنَى المِصْباحُ الذي يُضِيئُهُ لتأكل الذُّبابةِ عَلى بُقْعَةِ ضَوْئهِ الباهِت، وَفِي اليَدِ الأُخْرى الكِتابُ، ظَلَّ هُوَ سَاكِنًا، وَأَخَذُوا يَتَأَمَّلوا الكِتاباتِ التي امْتَلأتْ بِها جُدرانِ الحُجْرةِ، والّتي لَمْ تَكُنْ فِي الحَقيقةِ غَيْر رَسْمِ وَجْهٍ دائِرِيّ بِلا أَنْفٍ أَوْ عَينين بِفَمٍ مُقَوَّسٍ باسِمٍ، وحوْل هذا الوَجه حُروف صَغيرة مُتشابِكة لَم يتمكّنوا مِن تمييزها، كَانت جُدرانِ الحُجْرةِ مُمْتَلئةً بِنَفْسِ هَذا الرَّسم. قَرَّروا التَّوقُّفَ عَنْ هَدْمِ الحجرة وَتَراجَعُوا، بَيْنَما طَارَت عَنْهُ الذُّبابةُ وَابْتَعَدَتْ مُتَثاقِلَةً إِلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي الخَارِجِ، فَلَوَّحَ إِليْها بِأَصَابِعِهِ المُنْهَكَةِ المُرتعِشة التي بِالكادِ اسْتَطاعَ أَنْ يَرْفَعَها، لَكِنَّ الذُّبابةِ اخْتفَتْ، عَلِمَ أَنَّها وَجَدَتْ مَا تَبْحَث عَنْهُ فغفر لها، وَلَمْ يَعْرِفْ إِنْ وَجَدَ هُوَ الآخَرُ ما يَبْحَثُ عَنْهُ أَمْ لا، وَاكتَشَفَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَبْحَثُ عَنْ شَيءٍ بَعْدَما قَارَنَ نَفْسَهُ بِالذُبابَةِ. نَظَرَ مليًّا إلى ضَوءِ الشَّمسِ في الخَارجِ، ولِسَببٍ ما فَكّرَ أَنَّ أَحدَهُم أشْفَقَ عَلى البَشَرِ فسَلّطَ عليهِم الشَّمسَ ليَعيشُوا في ضَوئها، لَكنَّه مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعطِهم السُكّر، فَكان أَنْ عَاشوا مَعًا فِي القِمامةِ- القِمَامةِ البَشَريَّة، كَما أَسْماها السَيِّد لامْ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...