الخميس، 15 نوفمبر 2012

المُعلّبون

    خرج من عند صديقه يلعن الراقصة التى ضاجعها الرئيس ــ رئيس الحى أو الشركة – لا يتذكر, وكلما تذكر تلك القصة التى كان يرويها صديقه بتفاصيلها العاهرة وقد أعار حواسه إلى لسانه؛ فقد كانت عيناه فى الغرفة الحمراء, ولسانه يقطر رغبة, وأذنه تطرب لآهات الجنس, كلما تذكرها تمنى أن يكون رئيسا. خرج وهو يعيد إلى حواسه تلك المشاهد, فيبدو كأنه هادئا يفكر بعمق, ومع ذلك فقد هاجت بداخله ثورة حيوانية, ثار لها أيره يريد أن يحطم هذا الجدار الأزرق القاتم الذى صنعه البشر منذ المعصية الأولى.
  مر على مبنى متهالك بالكاد يستطيع أن ينتصب ليثبت للعيان أنه مبنى, تجاهله وسار, بينما دخله رجل, شعر رأسه يشبه أنقاض منزل لم يبق منه سوى أسياخ الحديد الصدئة, وجهه أسود شاحب بفعل السجائر, ملابسه لا تنتمى للحاضر بأى حال, كأنه اكتراها من جندى أسير من الحرب العالمية الأولى, يحمل فى يده أوراق وفى فمه سيجارة رخيصة, وفى ذيله دخل شاب يتحسس نظارته السميكة ليستعد للدخول الرسمى, كان يرتدى قميصا مقلما وبنطال من القماش, كان هزيلا حتى ليخيل للناظر أنه ميّت يدخل قبره بقدميه, كان يشبه الرجل الموسوم بالموت صاحب همنجواى* , فى يده ملف ممتلئ بالأوراق وكتاب, وحينما اكتمل عددهم- ستة أو سبعة رجال- مابين الشاب إلى الكهل داخل قاعة فى الطابق الأرضى تشبه مخزن لم يعد يصلح للتخزين, أغلقوا الباب وصارت القاعة مرتعا لأنفاسهم ودخان سجائرهم وصدى صوتهم, جلسوا على كراسى خشبية كتلك التى توجد فى مقاهى الحارات الفقيرة المنقوش عليها صورة حتشبسوت, وأخذ ثلاثة من الكهول يترأسون الجلسة على منضدة متهالكة, ولما أسندوا أذرعتهم إليها مالت كأنها على وشك السقوط, أسرع أحدهم ووضع حجرا,  كان ملقيا بجوار الجدار, تحت عارضة المنضدة, فارتكزت. وبادر رئيس الجلسة:
- أشكر حضوركم الكريم, ولو أننى كنت أتمنى أن يكون العدد أكبر , لكن مشيئة الله.. بسم الله أبدأ المناقشة..
ثم استطرد قائلا:
- قد قرأتم على ما أظن قصة الأستاذ نادر, وبالمناسبة حتى نتعرف على هذا المبدع فهو خريج كلية تجارة سنة 1987 له أكثر من مجموعة قصصية وديوان شعرى للأطفال وقد نشرت له أكثر من قصة فى بعض الدوريات الثقافية فليتفضل الأستاذ نادر بإلقاء الضوء على الموضوع فى قصته "جريمة على عتبة الباب".
بدأ الأستاذ نادر فى التحدث بعدما نكت عقب السيجارة تحت قدمه اليسرى :
-         فى رأيي أن هذه القصة سيكون لها شأن عظيم, فمعالجة قضية كهذه ليست بالأمر الهين . فى هذه القصة يخرج كريم –البطل- عن طوع أبيه من أجل ملذاته وإرضاء عشيقته ثم تنتهى بموت أبيه حزنا عليه..
وبينما يسهب فى الشرح, كان أحدهم يجلس فى الخلف يتثائب, حتى ملأ ثغره الواسع وجهه, وعيناه الدامعتان تنظران إلى الأستاذ نادر, وكان ذراعه المتدلى بجانبه الأيمن ملتف بأصابعه حول هاتفه المحمول.. وفى تلك اللحظة كان سامح يريد التخلص من قبضة الراقصة, فخرج إلى خاله صاحب المزاج العالى, الذى دائما مايجلس فى مقهى (الدراويش) مع صحبته أصحاب الأمزجة العالية, وما أن وصل هناك وألقى السلام وخص خاله بالتحية الدافئة, جلس بجواره يستمع إليهم, والظلام يغلف المقهى التى تبدو مهجورة لا يضيئها سوى مصباح باهت متدلى من أعلى الجدار كأنه يشكو لأحدهم أنه يتحمل إضاءة هذا المكان المهجور وحده! كان حجر الشيشة  يخبو ويشتد فيخبو ويشتد على إثره الضوء الساقط على وجوههم, تحدث أحدهم:
-         ثم ماذا, ثم ماذا بعد الثورة, أين العيشة الهنية, أين الأموال المنهوبة, أين العدالة, حتى زوجتى اللعينة مازالت تنهبنى ولا أقدر أصدها, فهى تعلم أنى أهوى الحشيش أكثر منها .
قهقه وهو يسحب نفسا عميقا من شيشة المزاج العالى, كما يطلقون عليها, وهو مغمض العينين وبدا أنه لم يكن قد قال شيئا وأنه ظل يدخن منذ أمد بعيد !
أما الخال, فقد رأى أن المصريين لن ينعدل حالهم إلا إذا حكمهم رجل مثل عبد الناصر. فلما رأى سامح أن الحوار يسير حيث السياسة قام بعدما استأذن من خاله, فهو لا يكره فى حياته شيئا أكثر من السياسة.
فى تلك اللحظة كان الأستاذ نادر قد أنهى افتتاحيته, وأخذ الأعضاء يناقشونه حول القصة عارضين وجهات نظرهم
قال الشاب الهزيل وهو يشيح بيديه  :
-         قصتك جميلة أستاذ نادر, وقد أُعجبت بها أيما الإعجاب, دام إبداعك حقا, ودام لنا قلمك الرشيق.. لكنى وددت الاستفسار عن الجزئية الخاصة بهروب البطل من أبيه, فقد كانت اللغة غريبة إلى حد ما, ووجدت اختلاف حاد فى الأسلوب بينها وماقبلها...! ثم تحسس نظارته .
رد عليه الأستاذ نادر فى تملق, وقد نال منه الزهو وهو يبتسم إليه ابتسامة جافة:
- أشكرك يابنى.. لكن المتأمل يرى أن الأسلوب...
وأثناء استطراده كان سامح قد وصل البيت, ودخل غرفته, أغلقها ثم أظلمها لتساير روحه المظلمة؛ لم يكن على استعداد لرؤية أى نور كان يسير ببطء شديد مطرق الرأس, أفكاره تزيد وجهه شحوبا قد غيمت عليه سحابة مكفهرة من الحزن والكآبة والملل...
فتح جهاز الكمبيوتر, وفى لحظات التحميل كانت الراقصة تهجع عارية فى عقله الذى سقط من رأسه وسكن أيره, عيناه أسيرتان لا يملك قيادها, ولما انتهى التحميل تصفح الانترنت قليلا, ولم يجد مفرا من البحث عن الراقصة, فكر أنه إن وجدها فإنه سيتخلص من قبضتها ويستريح.
فى هذه الأثناء كان الأستاذ حامد قد ألقى قصيدته النثرية التى يتحدث فيها عن الفتاة التى يتخيل أنه يهيم بها كان يشبهها بزهرة بيضاء فى نقاءها ورقتها, وبحلم لم يعشه. كان منتشى بكلماته وهو يلوح بيده, يبتسم بهدوء عند نهاية كل بيت, ويبدأ البيت التالى بصوت زاعق أكثر جدية, ثم يبتسم بهدوء عند نهايته, ولما انتهى وضع راحته اليسرى على صدره وهو يحييهم بتواضع مصطنع, صفق الحضور بخمول فى انتظار لحظة الرحيل حتى تردد صدى مزعج لتصفيقهم, كان الرجل الجالس فى الخلف قد غلبه النعاس وسقط هاتفه على الأرض. لم تمر دقائق حتى رحلوا وأظلمت القاعة وخلت من أنفاسهم إلا من رائحة نيكوتين السجائر, وكان سامح خارجا من دورة المياه بخمول شديد مطرق الرأس, وعلى وجهه كانت السحابة قد أمطرت مطرا أسودا زادت من حدة كآبته وحزنه, وكان خاله يقهقه مع صحبته, والحشيش يزيدهم سعادة وانتشاء, ونسيانا, والسماء ساكنة لم تتغير, لا تأبه بأحوال كوكب النمل, القمر ينتظر ليسلم عهدته للشمس ثم تأتى الشمس لتسلم عهدتها للقمر, واليالى تشبه بعضها كأنها ليلة واحدة تكرر نفسها !


 ****





*الرجل الموسوم بالموت: إرنست والش صديق  لإرنست همنجواى, فى رواية "وليمة متنقلة"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...