الخميس، 27 سبتمبر 2012

المعلم والآلهة



بعدما أغلقت النوافذ وأوصدت الباب, وأحكمت الظلمة غرفتى. عرفت أن كلهم خائنون, وأن الأمانة لفظة مجردة من البشر, كان الألم يعتصرنى لأن من علمنى الألفباء, علمنى أن كلهم يحبونها, ولم يعلمنى أن طبيعتهم تصبو نحو الغدر والخيانة, وقفت خلف الباب أحول بينى وبين تسرب أنفاسهم إلى غرفتى, وأتذكر يوم فتح معلمى الكراسة وكتب فى منتصف السطر (الأمانة)... وقال وهو يبعد عينيه عن عيناى: (الصديق أمين والحبيب أمين .. الأمانة شيء جميل .. يجب على الإنسان أن يكون أمين )
ليتنى سألته وهل يكون العدو أمين ؟! ليتنى سألته وهل يكون الغدر والخيانة إلا من الحبيب ؟!
لكنى لم أسأله لأنه علمنى فى الدرس الأول أن يكون الإنسان صادق ومطيع..
تذكرت هذا والدموع تبلل عيناى, لا تفارقنى صورة انهيار صروح الأخلاق الحميدة, كنت شاهدا عليها, رأيتهم يهدمونها, كان أحدهم يمسك المعول وهو يصرخ حمدا باسم آلهته التى يعبدها, كان يعبد آلهة لم أسمع عنها فى الأساطير القديمة. فلما سألت كاهن مدينة الأخلاق قال لى إنه يقدم قرابين الشكر للآلهة, فسألته أين تلك الآلهة, لكنه اختفى وراح يهدم الصرح الكبير ويصرخ بتراتيل الشكر, رحت أجول مدينة الأخلاق لعلى آوى إلى مكان يعصمنى من الانهيار, كانت كل الصروح تهوى بمعاول الآلهة وقد صار كل واحد منهم إله نفسه يتعبدها, يقدم لها قرابين الشكر, يمجدها.
هربت بعيدا خارج المدينة, حتى أوقفنى صوت متحشرج, نظرت خلفى, فوجدتها الأمانة تحتضر تلفظ الأنفاس الأخيرة, اقتربت منها فسألتها من قتلك, فقالت قتلت نفسى, فلما سألتها لماذا لم ترد علىّ وتوقفت حشرجتها وذهبت آلامها, فشعرت أن الموت انتقل منها إلى فعدوت بعيدا عن أرض الموت. حتى توقفت عند الصرح الباقى فى المدينة فآويت إليه, أذكر تراتيل إلهى, أقدم له الشكر على هذا الصرح الباقى. حتى سمعت صوت المعاول تقترب, فاضطرب قلبى وشعرت كأنى سجين أنتظر الموت, فرفعت صرخاتى المتتالية لعل إلهى يستجيب, لكن صيحاتهم كانت تزداد وتقترب, وما أن وصلت باب الغرفة حتى شعرت بهدوء أشبه بهدوء الميت, ثم خفت الأصوات وانعدمت وتوقف قلبى, ولم أعد أرى إلا أشكال مجردة لا أفهمها, لم يقطعها إلا أشكال بشر يمسكون المعاول ويقتربون منى بحركة بطيئة شبيهة بالتصوير السينمائى البطيء, تأملت وجوههم, وعيناى صامدتان غير متعجبتان لا تهتم إلا بالتفاصيل, تراخت أعصابى حتى أحسست أننى أعرفهم وأنهم يعرفونى لوحت لهم بيدى, لوحو لى بمعاولهم, ثم سقطت.. لا أدرى أسقطت أنا أم أن الصرح قد سقط..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

هجرة مواقع التواصل الافتراضي

      لا أتخيل كيف سيبدو يومي من دون الساعات الطويلة التي أقضيها في تصفح تويتر أو فيسبوك أو تطبيقات التواصل الأخرى مثل ريديت. أتاح لي العمل ...