الأحد، 22 مارس 2015

عن الحكايات التي يطول شرحها

اليوم قررت أن أتوقّف عن قراءة الكتب، سألني صديق عن سبب هذا القرار الذي بدا له غير مألوفًا، قلت: "الحكاية يطول شرحها"، وهذا النوع من الحكايات بالذات هي ما يكتب الكتّاب من أجلها، فالحكايات مهما طال شرحها، فإن هناك فرصة ذهبية لكتابتها، بل إن الكتب مُخصصة في الأساس لحكايات يطول شرحها، وكلما ضاق أحدهم باختصار الكلام فإنه يكتب كتابًا، لأنه دائمًا يفكّر في حكايات يطول شرحها ولابد من شرحها، وهذا ما يجعل الكتاب عازفين عن الخروج للعالم عبر شاشات التلفاز أو الأثير الإذاعي، لأن هذه الوسائل تطلب دائمًا الحكايات القصيرة نسبيًا التي تتيح الفرصة ليقول المذيع أو المذيعة: "سوف نخرج في فاصل قصير ونعود من جديد"، هذه الجملة- كما هو واضح- معادية تمامًا لفكرة "الحكايات التي يطول شرحها" والملل الذي يكسو وجه الكاتب في هذه اللقاءات التلفزيونية ليس نابع بالطبع من روحه، لكن بسبب عدم قدرته على تحمل هذا الصراع بين القِصر الذي يفرضه ملوك الإعلانات وبين الطول الذي تخصّص له ومنح له كل كيانه بل وحياته القصيرة نسبيًا، وحين يكون مطالبًا أن يشرح ما يطول شرحة في مدة لقاء قصير فإنه يضطر أن يدخل هذا الحيز المأساوي الذي فرضته الإعلانات، وهو في هذا الموقف يقدم إختصارات متتابعة لكل حكاياته الطويلة فيبدو مشوّشًا لأن هذا الجو الذي فُرض عليه سلب منه أكثر تضحياته قربًا إلى قلبه؛ وهو أن يمنح حياته القصيرة نسبيًا للحكايات التي يطول شرحها، ومن دون أن يدري، تتحوّل هذه الاختصارات القصيرة إلى إعلانات؛ بطلها ليس فتاة شقراء ولكن كاتب يشعر بالضجر، والنتيجة التي توصّل إليها الجميع من ذلك أن الميديا لا تقدّم الكتاب بشكل صحيح، لكن ذلك الفرض خاطيء منطقيًا، فالميديا لا تقدم كتّابًا بل إعلانات قصيرة نسبيًا تختصر المنتج في فتاة جميلة شقراء غالبًا، لأن الشهوة أقصر الحكايات التي يحب الجميع أن يستمع إليها، وأكثرها دهشة أيضًا، والكتّاب –كما ذكرت مرارًا– لا يكتبون إلا الحكايات التي يطول شرحها وهم بهذا يضعون أنفسهم في مواجهة الشهوة والدهشة- أيقونتيّ القِصر، فيظهروا باردين مملين- أيقونتيّ الطول، وهذه الصورة التي تقدمها الميديا هي بالضبط حقيقتهم التي ينكرها عليهم الكثيرون، فهذا البرود وهذا الملل دائمًا وراءه حكايات يطول شرحها ويعجز عن شرحها طبقًا لقواعد الميديا. ولا يستطيع أحد أن ينكر الدور الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي في هذه القضية، لكن الفرق أننا لا نراهم مملين بل مدهشين مثل الشهوة مثل الفتيات الشقر تمامًا، وليسوا باردين، لأنهم احتفظوا بنفس الصيغة التي يعرضون بها حكاياتهم الطويلة نسبيًا وهي الكتابة وليس العرض التلفزيوني الإعلاني. وهناك صيغ مُبتكرة تعبّر عن تلك الدهشة التي تحمل رائحة الشهوة، هناك مثلًا صيغة "هذا أكثر شيء.." أو "أعظم فيديو رأيته" أو "تلك الفتاة أجمل كائن على الكوكب" أو "دهشة"، "أنا مندهش.." "أغرب.." كل تلك الصيغ المُبتذلة المبعثرة في كل صفحات هذه المواقع اختصرت الكثير من الكلام الذي يطول شرحه، ليتم الزج بها مباشرة في عقول القرّاء مثل عضو ذكري يتم الزج به فرج امرأة بدون المقدمات الطويلة للحب. كل ذلك يشير إلى شيء واحد، أن الدهشة الجديدة تقوّض برودنا الفطري الذي نتّسم به ككائنات تمارس وجودها الزائل مثل كل الكائنات الأخرى، لا أحد يتمنى مثلًا أن يرجع لعصر ما قبل داروين.. فداروين كان معروف عنه البرود، وببروده اكتشف أننا كائنات باردة مثل الكائنات الأخرى، لا شيء مميز فينا. وبهذا فإننا أمام ظاهرة أخطر وهي أن الكتّاب لن يصبحوا مملين أو باردين أمام الحكايات القصيرة الدعائية التي لها مفعول الشهوة، وبالتالي فإن الحكايات التي يطول شرحها في خطر حقيقي أمام هذا البديل المُغري، لأنهم لن يجدوا حينئذ مبررًا لأن يقولوا "حكايتي يطول شرحها"، فمواقع التواصل الاجتماعي تقدم الحل السحري بدون التعرض لقوانين الميديا الإعلانية، وقد منحته أيضًا شعور الكتابة بدون أي تضحيات من جانبه. كل ذلك يؤكد أن الملل والبرود في خطر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...