الأربعاء، 24 سبتمبر 2014

الأستاذ


عند تقاطع شارع عماد الدين مع شارع 26 يوليو، لمحته لأول مرة، فركت عينيّ غير مصدق فإذا به بالفعل يسير مبتعدًا قابضًا جرنال الصباح، هرولت نحوه لألحق به، كانت الشوارع تقريبًا خالية إلا منّا- أنا ونجيب محفوظ، لما دنوت من منكبه، لم أدرِ كيف أناديه؛ أستاذ، أو يا سيّدي، أو يا نبي، أو يا مولانا، أو يا عمّنا، أو يا نجيب، فكل الأسماء هتفت بها كثيرًا في أعماق نفسي في لحظات تجليه المقدسة، ولم أكن يومًا متحفظًا وأنا أناديه بها، والآن وهو أمامي على بعد خطوات قليلة، لا أدري إلا وأنا أهتف:

- أستاذ.. أستاذ نجيب

وها أنذا أهتف باسمه لأول مرة بصوتٍ مسموع يخرج من أعماقي إلى أذنيه وإلى العالم من حولنا، حتى بدا وقع الاسم غريبًا على أذنيّ، لم يكن شفافًا روحيًا كما بدا لي كثيرًا في نفسي. توقّف مُلتفتًا إليّ، وبادرني بابتسامة، ابتسامة جميلة حقًا لكنها مثل تلك الابتسامة التي يوزعها على كل المعجبين، لم تكن ابتسامته لي وحدي، ليست مثل خفقان قلبي الذي يهتف الآن من الأعماق باسمه وحده في لحظات مشحونة بالحب والإجلال، لم أتخيل نفسي- أو لم أتمنى- أن أكون واحدًا من هؤلاء المعجبين المتماثلين. بعدما توقف وصرت بجانبه، استكمل سيره، كأنما يبدي استعداده لسماع تحية مُعادة أو ثناء يعرفه، وشجعني بكلمة باردة:

- إزيك.

انعقد لساني، وفي تلك اللحظة مررنا على بائع الجرائد الذي حيّاه الأستاذ بابتسامة مثل ابتسامتي وإن كانت أقل برودة بدافع المعرفة المسبقة. قلت وأنا أخوض معركة داخلية:

- أنا قرأت لحضرتك الحرافيش وليالي ألف ليلة وليلة وقشتمر، إمبارح بس خلصت الثلاثية.
أردت أن أقول: "أنا أعرف عنك حاجات كتير جدا"، أو "أنا أكتر واحد يعرفك، أنا بحبك أوي"، لكن لم تسعفني أعماقي بالمدّ العاجل. أين مني أبيات الشعر، وأين طاقات العظمة والتبجيل.. أين؟!

- جميل، اسمك إيه؟
نعم.. هو لا يعرف اسمي! عندما هرولت نحوه ظننته سيعانقني بحرارة مثلًا ويقول "أهلًا أهلًا بقارئي الوفيّ انتظرتك كثيرًا"، ثم يسألني عن أحوالي فأجيب وأسأله فيجيب ويكون لقاءً روحيًا مثل قراءته، ظننته يعرفني كما أعرفه- كما ينبغي لتلاقي روحين، لكنه استقبل تحيتي واشتياقي ببرود، كأن هذا المشتاق مكرّر ألف مرة، وكأن هذه التحيات المرتبكة هي تحيات معادة آلاف المرات ومملة، وكأن هذه الروايات قد قرأها ألوف غيري.. فدفعني بذلك نحو الجموع وقد كنت أستمد منه قوة روحية تسمو بي.. قلت محاولًا وأد كل الأجنحة الروحية بداخلي، وأستعيد عقلي قليلًا- طريقي الأخير للنجاة وللحب:

- اسمي محمد الشواف.

- جميل يا محمد، عايزين نسمع عنك.

وتوقف أمام مدخلٍ كبير مهيب لمؤسسة كبيرة، وقال ليُنهي اللقاء بأدب مع واحد من محبيه:

- مع السلامة.

وابتعد ليدلف إلى البهو تحفّه التحايا من كل الجوانب يستقبلها بتواضع وأريحية. رقي درجات السلم حتى توارى، وبقيت وحدي. وكانت تجلس جوار بائع الجرائد بائعة ذرة مشوي، فلما استفسرت منه من يكون هذا الرجل، قال في غبطة لم تخل من الفخر:

- دا الأستاذ!

لم يزد ولم تهتم، واستمرت في النش على جمراتها، في حين كنت أعدّ كم عدد الروايات التي تبقت لي من أعماله لم أقرأها، وكنت أهرب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...