الجمعة، 9 مايو 2014

جوع

   يفتش في جيوبه عن أيّة عملة معدنية، رغم علمه بأنه لا يمتلك أي مليم، كأن جيوبه ستشفق على ريقه الذي يجري على قِدر الفول والبائع يعب منه إلى أرغفة العيش الأسمر في سرعة وآليه لا تبديان أيّة التفاته للحرب المستعرة داخل جوفه، لكنه يُخرج يديه ساحبًا معها قماش جيبه الأبيض، ساخطًا على الفقر وعلى محلات الكباب والدجاج المشوي المنتشرة في مواجهة عربة الفول، لأنها تتعالى على أحلامه التي لا تستطيع تمنّي أكثر من رغيف فول. يُكمل المشي، ولا يعرف أين يذهب.

   * معاك فلوس؟
   - مش معايا لأ
   * ههههههههههههههه

كان المشي يهوّن عليه إحساسه بانكماش معدته، يُخرسها وسط الزحام.

   * نفسك في إيه من الدنيا؟
   - مش عارف، بس أنا جعان.
   * ههههههههههههههه

يتقاطع ظله مع الحصى اللامع، مع ظلال السيارت المتوقفة، مع ظلال السابلة من تيار البشر. ينبت العرق من جبهته فيتجمع في نقاط غليظة ليتساقط منزلقًا.

   * انت بتنهج ليه؟
   - أنا تعبت من المشي
   * ههههههههههههههه

يمشي مدفوعًا بالجوع، يلتمس له نهاية من نهاية الطريق الذي لا يعرف أين سوف ينتهي.

   * انت رايح فين؟
   - مش عارف رجلي واخداني على فين!
   * ههههههههههههههه

يعبر الجسر الضيق المزدحم بالناس ملاصقًا للسور الحديدي، يصطدم كتفه بأكتافهم، تتخبط ساقه بأكياس الطعام التي يحملونها معهم، لكن لا أحد يلتفت إليه، هو وحده تمامًا، يلقي نظرة على النهر في إعياء، يلاحظ تموجاته الهادئة، ذكّرته بنقوش أقدام الكتاكيت على أرضٍ متربةٍ... "الكتكوت سوف يكبر ويصبح دجاجة. الدجاجة الآن تُشوى. والبحر سوف يهيج داخلي، ثم أموت جوعًا، بينما هم يلتهمون الدجاجة" تخيل الرجل البدين الذي مرّ من أمامه في هذه اللحظة يلتهم دجاجة مشوية في نهم، لا يتذكر كيف بدأ تخيله حتى يصل إلى هذا المشهد الأخير.

   * انت بتبص على إيه؟
   - مش عارف
   * ههههههههههههههه

ينزل من الجسر عبر درجاته الثلاث، ينتبه من خلال الواجهة الزجاجية لمحل الملابس إلى جيبه المقلوب، فيعدله غير آبه بنظرات الناس المشمئزة منه. يرمق الشحاذ المنطرح أرضًا بنظرة أخوة، ثم يكمل مسيره والجوع مثل طفل لحوح يتضور داخل معدته.

   * خليها تسكت!
   - خليها تسكت انت، مش قادر اقول لها.
   * ههههههههههههههه

يجد نفسه في مواجهة محطة القطار، فيقرر أن يسافر، مثل فكرة شاردة لمعت فجأة في ذهنه، يخطو نحو سلم المحطة بخطى إن تكن لا مبالية، إلا أنها لم تخل من قلق يضطرم في معدته الخاوية، فكان قلقه مسموعًا. يدخل بهو المحطة الواسع مترامي الجدران العالية، فشعر فجأة بالتيه، الكل يسير بخطىً واثقة تعرف أين تذهب إلا هو، تيار متدفق من البشر يتلاطم بسكونه الهزيل؛ منهم المسافر ومنهم العائد، وهو ليس بمسافر أو عائد، هو لا ينتمي إلى هنا.

   * انت جاي تعمل إيه هنا، أنت جعان!
   - أنا هسافر!
   * ههههههههههههههه

ينزل من أول سلم يواجهه، ثم يعطف على المدخل الأول الذي على يمينه. يمشي هكذا مُلتمسًا أقرب الطرق. يجلس الآن على مقعد داخل القطار بجوار النافذة. يريد أن ينام من التعب.

   * انت جاي تنام؟!
   - ......
   * انت رايح فين؟
   - مش قادر أتكلم.
   * ههههههههههههههه

يبدأ القطار في التحرك في اتجاه ظهره، من خلال النافذة ينسحب القضيب المعدني إلى الأمام ببطء، تهتز العربة صعودًا وهبوطًا، مسلمًا نفسه لهزاتها. ثم يندفع القطار بقوة محدثًا صوت اصطكاك عنيف، يضع رأسه بين ذراعيه على حافة النافذة، فيسمع صوت انكماش معدته بوضوح:

   - يلعن أبوكي.

تستمر في الشكوى مستجدية مثل مواء قطٍ جائع. يأتي أحد الباعة مندفعًا بجسده الهزيل يبيع ألعاب للأطفال، هاتفًا:

   - ابسط ابنك، ابسط بنتك، لاعِب حمادة وميادة

يرفع رأسه ساخطًا، فيراه مُدبرًا مستمرًا في المشي والنداء بطريقة آلية، الجميع يهتز صعودًا وهبوطًا، الملل يفتك بوجوههم المدهونة بالعرق الناظرة إلى اللاشيء.

   * ابسط بطنك
   - اخرس بقا!
   * ههههههههههههههه

يُلقي رأسه على ذراعيه، ويفكر:

   - هو القطر دا رايح فين؟!

يعود إلى التفكير بجدية رافعًا رأسه لينتبه إلى سؤاله فجأةً، سأل مُجاوره:

   - القطر دا رايح فين؟

كأن غرابة السؤال لم تثر انتباهه، قال في هدوء رتيب دون أن ينظر إليه:

   - محدش عارف، أدينا راكبين!

شعر أنه يسخر منه، فسخط عليه في نفسه:

   - ناقصاك انت كمان!

على أرضية العربة، اقتربت متسوّلة زاحفة، ساقها الأيمن مبتور، تقول في استعطاف بصوتها الجهور الباكي:

   - ربنا يمتعك بصحتك، ربنا يرزقك.

قال في نفسه:

   - ما تدعي لنفسها!

وقبل أن ينتبه لسخريته ويطلق سراح ضحكة عاجزة عن الخروج من جوفه الخاوي، دعا:

   - ربنا يرزقني، أنا جعان يا رب!

مرت من أمامه تزحف على أليتيها، باستخدام قطعتي ورق مقوى كمجدافين على أرضية العربة، لونها شاحب قديم مُهمَل مثل لون جدران القطار الصدئة، ولا فرق بين وجهها وملابسها المبقعة المهترئة. تكرر نفس استجداءاتها بنفس القوة والفجاعة لا يصيبها الكلل، والملل في وجوه الناس يكاد يمتزج بنظرات نفور من شكلها المُزري وعلّتها القاسية، لا أحد أعطاها شيء، ظلوا فقط ناظرين إلى اللاشيء، مصطنعين عدم الانتباه. بينما هي ظلّت تزحف مبتعدة تنتقل من عربة إلى أخرى، وصوتها يتباعد شيئًا فشيئًا، شعر الجميع براحة بعد أن ابتعدت عنهم ولم تكلفهم عاهتها، التي داعبت مشاعرهم، أي شيء- باستثناء النفور، حتى وإن ظلّت وجوههم على نفس حالها الممتقع في الملل.

   * ما تشتغل شحات!
   - يعني هم لاقيين اللي يديهوم
   * ههههههههههههههه

يتوقف القطار عند المحطة الأولى. يهبط بعض الناس مُحدثين جلبة، يظل الآخرون على مقاعدهم بلا مبالاة، يفكر في النزول معهم لكنه أصبح غير قادر على الحركة والراحة على المقعد تغريه، وقد هدأت بطنه بعض الشيء. يلمح وجه فتاة تدخل من أحد الأبواب، كانت جميلة، بديعة القسمات، ترتدي (بادي) أبيض تكاد أنوثتها تتفجر منه، شدت انتباهه- كما شدّت انتباه الجميع- ليصبح جوع بطنه على قائمة انتظار آلامه، تعقبها بنظراته المُستكشفة الجائعة وهي تمر بين زحام الواقفين عند الباب فتحتك بينهم، تمشي بين صفّيّ المقاعد وعلى وجهها ابتسامة هادئة تشي برضا عن جمالها المفرط.

   * ما تقوم تكلمها.
   - بس أنا جعان وكحيان.
   - ههههههههههههههه

كان ينظر إليها بطرف عينيه لإلا يثير حوله الانتباه سواء منها أو من غيرها، منحته تلك اللحظات بعض الترويح عن نفسه، مرت بجانبه لتصبح خلفه، فانتبه إلى نفسه:

   - وبعدين في الجوع؟
   * أي جوع بالظبط؟!
   - ملعون أبو الدنيا.
   * ههههههههههههههه

يُسقط رأسه بين ذراعيه في يأس، فتعود معدته للانكماش والتضوّر، يسمعها الآن بوضوح أكثر من أي وقتٍ مضى، حتى يمكن أن يسمعها من يجلس جواره. يطاوعه النوم.

   * تصبح على خير.
   - وانت من أهله.

                                        *******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...