الجمعة، 25 يناير 2013

قَبْلُ المَوْتِ بِقَليلٍ



(1)
فى هذا الصباح الباكر والشمس تروى أرضاً تبدو وكأن قدماً لم تطؤها, خرج رجل بدين أشعث الشعر ينفث دخَان سيجارته يلوى فمه النعسان فى وجه الشمس, بدا ضخماً بحيث أن الباب بالكاد يسعه. شعر رأسه الأشعث وقميصه المهتريء والبقع الزيتية التى ملأتها, ووجهه البادى أنه ساخط تماما عن نفسه وعمن حوله؛ من شمس صفراء تجبره على الإستيقاظ مبكراً وصوت العصافير المزعج ورائحة الصباح الكئيب ووجود اثنين فى المنزل يعتقد أنهما سبب بؤسه, كل هذا جعله ساخطاً عن كل شيء. هيئته المزرية منفرة لمن يراه, ومع ذلك فقد تثير فى النفس بعض الشفقة .
نكت عقب السيجارة تحت قدمه بنهم المنتقم يتخيلها أفكاراً سيئة يتمنى أن يقتلها, لكنه لا يلبث أن يتذكر أنها مجرد عقب سيجارة فيلقيها بعيداً بقدمه. حكّ رأسه, فلمعت فى آشعة الشمس دقاقق التراب والقشرة, لوى شفتيه حتى أفصحت عن فم أهتم يقاوم السكرى بزوجين من الأسنان القُلح. استلقى على الأريكة المجاورة للباب وداعبه نعاس الكسل, حتى غفا ونام, نام كثيرا.
(2)

لم يدر إلا بيد أثقل من نومه تحك جسده أو تعجنه, فقام مفزوعاً, فرأى زوجته فى ذيلها طفلها الأبله يتأمل أبيه, يتفحص سمت وجهه الغريب الذى يفر منه دائماً, لم يتخاطبا أبداً, كأنهما غريبان. صاحت زوجته:
- قال تمرجى الصحة إن الولد يلزمه علاج فى المستشفى المركزى, إن تأخرنا فسيموت الولد.
سكتت تنتظر إجابته, لكنه لم يجبها, نظر نحو الأرضية يبحث عن شيء ما, ثم أشار لولده إلى عقب السيجارة الملقى عند عتبة الباب, سار الولد ببلاهة إلى حيث يُشار إليه يضع إصبعه بين شفتيه, بينما كانت أمه تنظر إليهما لاتفهم شيئا ! ثم أعادها لأبيه, انفجرت زوجته فى وجهه :
- إن لم يقتل المرض ابنك فسيقتله برودك أيها الرجل, أى الرجال أنت, أقسم أنك لست رجلاً !
-الولد سليم, لقد أخبرك بهذا حتى يأخذ الحلاوه ! (يتثائب...) كم أخذ منك يا امرأة ! حكّ صدره وهو ينظر إلى ابنه بازدراء, بينما كان الأخير ينظر إلى أبيه بوجل من بين عينيه الساهمتين المعلقتين فى رأسه المطرقة .
ضغطت بكلتا يديها على رأسها المرفوعة نحو السماء وهى تصرخ: سيموت الولد, وأبوه ينام لا يهمه إن عاش ابنه أو مات !
- فأشاح بيده مخاطباً إياها بتبلده المعتاد: ألم ترين كيف ذهب الولد يأتينى بعقب السيجارة, هذا يعنى أن عقله سليم, ومادام عقله سليم فالولد صحيح, العلة فيكى يا امرأة العلل.. ثم قال مصطنعاً انفعالاً لا يليق ببلادته: أخبرينى كم أخذ منك هذا الملعون !
-لم تجد فى حديثه جدوى, فذهبت باكية إلى الغرفة, ابنها ممسك بأطراف جلبابها , كان يسعل بشدة.
وضع راحتيه على حافة الأريكة, تنهد, بدا منزعجاً لأن أحدا عكر لا مبالاته, أو حرك فى ذهنه أفكارا كان يعتقد أن لا أهمية لها. تأمل قدميه المتسختين وأظافر يديه الرمادية المشقوقة, لم يثيرا فى نفسه شيئاً, بحث عن علبة الكبريت, وجد عوداً بجوار النافذة, أشعل عقب السيجارة وخرج, أغلق خلفه الباب فأعتم الدار ولم يُسمع سوى بكاء زوجته وسعال ابنها الأبله. كان الدار خاوياً مظلماً كأنه قبر يُسمع فيه بكاء موتى يعذبون .

(3)

اقتربت مقدمة السيجارة المشتعلة من فمه حتى أحس بحرارتها, فألقاها على الأرض وظل يسير و من خلفه الشمس, فكان يسوق ظله الطويل أمامه أو كان ظله يقوده, لا يعرف إلى أين سينتهى به السير, ظل يمشى يلقى خلفه بكاء زوجته وسعال ابنه الأبله, زاد طموحه أن يلقى خلفه القرية التى بها زوجته, فقطع المزيد من المسافات وخرج بعيدا عن القرية حتى أخرس صوت زوجته, تأمل نفسه ثانية, اعتقد أنه تركها فى الدار مع زوجته الباكية وابنه الأبله, فوجد حشرة تسير على لحيته الكثة, نفضها فثارت بضع ذرات من التراب , سعل وسمع بين سعاله صوت ابنه المريض.
توقفت الشمس فى منتصف السماء, أوى إلى ظل شجرة رمادية الجذع خالية من الأوراق, أغصانها مشرئبة نحو السماء  كأنها منحوتة فى الصخر, استلقى تحتها. سكنت آشعة الشمس بين ظل الأغصان المرتسمة على زيه البالى. حكّ ذقنه ثم أسدل جفونه ونام على جنبه.
ظل نائماً حتى غربت الشمس, فلما استيقظ كان قلبه يدق بعنف وظن لبرهة أن بؤس حياته لم يكن سوى كابوس تحت هذه الشجرة المنحوتة. نفض شعر رأسه من التراب ثم بصق على الأرض, نظر حوله فإذا به السكون يجثم على صدر المكان ترعاه نباتات الصبار المنتشرة من حوله, أمعن النظر محاولاً نفض الظلام عن تلك الجدران القصيرة التى لم يفهم معناها, فرأى صلبانا مادة أذرعتها من تحت الأرض, فجأة تملكه الرعب, واكفهرت فى وجهه السماء, ورأى ظلمة الليل موت والشجرة المنحوتة موت, ونباتات الصبار موت, والصلبان أذرعة الموتى تحت الأرض, اكفهر وجهه وتذكر؛ الله, الحساب, الجحيم, الذئاب, الثعابين, الهياكل العظمية التى تنخرها الديدان, ثم هبطت عليه صورة زوجته وابنه فعاد إليه البؤس الدنيوى الرتيب, حتى نسى أمر الآخرة بل استصغرها أمام هول حياته, فعادت السماء المكفهرة ليل صيفى تزينه بضع نجوم وكواكب, ولم يعبأ بالصبار ولا بالصلبان, ورأى كل هذا عبث خيال , فكر؛ أيعود إلى الدار أم يبقى؟ فعاد إلى الشجرة ونام تحتها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...