الاثنين، 15 أكتوبر 2012

أصداء من عالم الوحدة: نصف حُلْم

(2)


  أيتها الذكريات الأليمات ألا تتساقطين من ذهنى, أما كفاكِ عشر سنوات من النوم.
 أفقت على غطيط الرجل الذى ظل نائما طوال هذه الفترة مثلى.
أسندت ظهرى إلى الفراش وأنا أنظر إلى حجرتى كأنى أراها لأول مرة, أتأمل العناكب التى تسير بطمأنية فى حركة تثير الرتابة والملل, والحواف الصدئة , التى كانت تزين فى يوم ما لا أعرفه, نافذة تبسط جدران الغرفة لموكب الشمس أو تحتضن القمر فى الليالى الحالمة أو تصافح نسمات أرسلتها جود الطبيعة . لكنها الآن صارت مبعثا للكآبة والوحدة فما أصعب أن يذكرك شيئا ما بعهد جميل لكنها فى الحقيقة شاخت وهرمت وصارت عبئا على ذاكرتنا. رأيت ذلك على الضوء الباهت للمصباح المعلق على الحائط.. ولما سعلت انتفض من جسدى تراب واستيقظ الرجل:
                              
-  يارجل, ألم أقل لك نم كثيرا !
-  لقد نمت عشر سنوات !
-  حقا! وهل نمت أنا أيضا عشر سنوات ؟!
-  نعم
تنهد الرجل:
-  أتعلم, النوم نعمة !
-  لو كان موتا لكان أفضل.
-  كلاهما عندى سيان. (ثم قال بعد صمت).. هل حقا قتلت سمكتين؟ أم أنه كان حلما ؟!
-  نعم قتلت !
تنهدت حزنا لما تذكرت أنى قتلت السمكتين. قلت للرجل:
-  أشعر بالجوع.
-  وأنا كذلك, سأقوم أبحث عن طعام.

لما قام الرجل سقط لوح خشبى من سريره السفلى, ومضى يبحث عن طعام فى الغرفة فلم يجد, وهم بالخروج لكن الباب كان موصدا ولم يستطع فتحه, ثم التفت إلىّ:
-  ها يارجل, أمازلت جائعا ؟!.. الأبواب موصدة, يبدو أنهم مازالوا يكرهونا.. ألا يموتون !
-  تعلم أيها الرجل الطيب أنى لا أستطيع النهوض, ولو كنت, لما تأخرت عن مساعدتك.
-  لا بأس عليك.. الأبواب موصدة بالأقفال, ولن نستطيع فتحها.
-  وما العمل ؟
صمت الرجل هنيهة يفكر ثم قال:
-  أطرُق الباب لعلهم يستجيبون
ثم دق بكلتا قبضتيه على الباب وهو يزعق:
-  أطعمونا, نحن جوعى.. أطعمونا..
مرت خمس دقائق أو أكثر وهو كذلك. لم يستجب أحد, ثم عاد إلى السرير مغموما وهو يتمتم:
-  قتلتكم بطونكم أيها الجوعى.
ارتمى على السرير وسقط لوح خشبى آخر:
-  هيه .. لست جائعا على كل حال !
ثم فجأة قفز من على السرير يهرع نحو الباب يحاول فتحه وهو يصيح:
-  نعم, نحن هنا, نحن جوعى.. أطعمونا!
وظل يطرق, لكن لم يرد عليه أحد.
قلت:
-  علام تطرق يارجل, لا أحد بالخارج ؟!
-  لقد طرق أحدهم الباب !
-  عد أيها الطيب... إنها هلوسات الجوع !
عاد مغموما, واستلقى على السرير, وسقط لوح خشبى آخر. قال لى:
-  أتعلم يارجل, كانت لى ابنتان تشبهان أمهما, كانتا جميلتين حقا, لا أعرف كم عمرهما الآن, كانتا تحبانى كثيرا, وأنا كذلك... لا أعرف هل ستتذكرانى الآن أم لا !

-  من يحب لا ينسى.. أنا أيضا أذكر أنه كانت لى عائلة, لا أذكر عددهم, ولا أعرف إن كانوا يحبوننى أم لا. لكنى أعرف أنهم وضعونى هنا !
-  لكنى لست جائعا !
-  ماذا ؟!
-  أقول أنى لست جائعا !
فقلت غاضبا:
-  لا أحدثك عن الجوع, أنا أتحدث عن عائلتى !
-  اعذرنى لم أنتبه لحديثك !
-  لا بأس عليك...
صمتنا قليلا نفكر كلانا فى حالنا, ثم قال:
-  هل ننام ؟!
-  أترى ذلك ؟
-  إنْ حدث شيء جديد سيوقظونا بالتأكيد.
-  حسنا.
ثم غط فى النوم سريعا كعادته, ثم فكرت أن أنام وأحلم بشيء ما يسلينى, لكنى لا أملك اختيار أحلامى, وخفت أن أحلم بأنى قاتل. حاولت أن أتذكر ابنتيه الجميلتين اللتين تحبانه, قد يكون حلمى جميل مثلهما, وهكذا نمت ...
  
كنت نائما لما أيقظتنى, كان أول ما رأيت ابتسامة رقيقة تغمرها آشعة الشمس التى تسللت من النافذة المجاورة لفراشى. ابتسمْت لها, وقلت:
-  صباح الخير حبيبتى.
-  صباح الخير يا أحلى أب, لقد نمت كثيرا.
-  حقا! يبدو أنى كنت متعبا.
-  حين تنهض وتغتسل, سيكون الإفطار جاهزا.
تركت لى ابتسامتها وخرجت من الغرفة.
كان إحساسا رائعا يغمرنى لم أشعر به من قبل, لم أرد النهوض, فضلت أن أظل فى هذا الشعور.
دخلت حاملة صينية طعام, وقالت بنبرة لوم رقيقة:
-  أبى, لم تنهض بعد !
لم أنتبه لكلماتها, كنت أتأملها وهى أمامى كأنى أخشى أن أفقدها, تأملت ملامحها؛ كان وجهها الرقيق يبعث فى قلبى رقة لا أعهدها, عيناها البنيتان تذوب فى روحى لتصب فى قلبى الحنين الأبوى الصافى, خديها المتوردان يجعلنى اسمع دقات قلبى, حنينها يشعرنى أنها أمى لا ابنتى:
-  أحبك حبيبتى.
ابتسمَت برقة, وقالت:
-  أحبك كذلك أبى, لكن لا يمكنك تناول الإفطار وأنت لم تغتسل بعد.
-  تعالى ابنتى اجلسى بجوارى.
وضعت الصينية الفضية على الطاولة, ثم جلست بجوارى. مسدت شعرها الأسود الناعم وأنا أتأمل عينيها البنيتين:
-  تشبهين أمك كثيرا.
-  يقولون أن وجهى يشبه وجه أمى, وروحى تشبه روحك.
ثم تورد خداها, وسمعت دقات قلبى:
-  نعم, هم لم يخطئوا فى هذا.
-  هناك هواء شديد يأتى من النافذة, سأغلقها.
قامت إلى النافذة ونسمات هواء تداعب شعرها الناعم وتهزه برفق, ولما همّت بإغلاق النافذة ازدادت حدة الريح الذى هب على الغرفة وثار شعرها, ولم تتمكن من إغلاق النافذة, استعملت كلتا يديها بقوة لتصد النافذة لكن الشبح الجولانى كان يترصد لها, ثم اقتحم تراب كثيف الغرفة حتى اكفهرت تماما ولم أتمكن من رؤيتها. صحت:
-  ابنتى.. ابنتى...
-  يارجل, أستظل دائما توقظنى بأحلامك.
سعلت بشدة من تراب الحلم, الذى رأيته عندما استيقظت يخرج من السرير والغطاء:
-  كان حلما جميلا, لكنه انتهى بكابوس !
-  على الأقل لم يكن كله كابوسا !
-  كيف ؟
-  حلمت بأن لى عائلة تكرهنى. كرهونى منذ أن رأيتهم حتى وضعونى هنا !
ضحكت بمرارة, ثم أخرج رأسه من تحت سريرى ملتفتا لأعلى نحوى:
-  نم يارجل ولا تعكر كوابيسى مرة أخرى..
ثم غط فى النوم, وأخذت أفكر فى نصف الحلم الجميل, حتى سمعت:
-  أنا لست جائعا !
*** 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

هجرة مواقع التواصل الافتراضي

      لا أتخيل كيف سيبدو يومي من دون الساعات الطويلة التي أقضيها في تصفح تويتر أو فيسبوك أو تطبيقات التواصل الأخرى مثل ريديت. أتاح لي العمل ...