الأربعاء، 5 أكتوبر 2011

العجوز والحزين


(صحراء قفر واسعة, الشمس ساطعة, يجلس فتى على جزع نخلة مقطوعة يحمل رأسه بين كفيه, مطرق الرأس حزينا, يمر عليه عجوز بلحية بيضاء طويلة, يتكأ على عصا متعرجة)

العجوز: أصبحت تحجم عن سماع أحوال البلاد, كأنك تنفر منها ؟!
أحمد: كأنك تتابع أذنى !
العجوز: بلى, لكنك تعكف على القراءة كثيرا على نحو غير معهود منك.
أحمد: نعم, استمتع بها كثيرا, أكثر من الأخبار المتناثرة التى جلّ همها فى مصائب الناس.
العجوز: أنت محق, هذا أمر مزعج.
أحمد: لكن من أنت ؟!
العجوز: أنا عابر سبيل, مررت على عقلك فوجدته مهموما كأن به مس وجزع, فأشفقت على حالك.
أحمد: كأنك تقرأ مافى عقلى أيها العجوز !
العجوز: وأشعر بك !
أحمد: تشعر بى أنا ! بماذا تشعر ؟
العجوز: أشعر بضعفك ووهنك, مازلت صغيرا بعقلك الكبير...
أحمد: ماذا أيضاً..؟
العجوز: أنت حتى لاتريد أن تفصح عما بجوفك أيها الحزين !
أحمد: (لحظة صمت, مطرق الرأس) أنا لا أستطيع العوم, والقدر بحر هائج يتقاذفنى كأنه يمرح بى, أو يتفاخر أمام البحار التى لم أخوض فيها ..
العجوز: وماذا عنك؟
أحمد: أنا عاجز. لاأعوم!
العجوز: نعم, أنت فقط تبكى على حالك
أحمد: وهل أملك لنفسى غير البكاء!
العجوز: ولماذا تقرأ إذن ؟
أحمد: إنها بكائى 
العجوز: (يشير إليه بمكان غير بعيد) انظر هناك ...
أحمد: ماذا هناك ؟
العجوزالماء..هناك.....عند النخلة الرابضة هناك
أحمد: نعم, نعم, أراه. تُرى, لماذا يشع نورا هكذا, إنه نور حزين...
العجوز: إنه حزين مثلك تماما, لو شربت منه ستذهب كل أحزانك, وتعيش سعيدا !
أحمد: (ينظر إليه فى تهكم) إنك تسخر منى أيها العجوز!
العجوز: حاشا لله أن أسخر من فتى تتقاذفه أمواج القدر 
أحمد: وماذا فى هذا الماء يشفينى؟!
العجوز: إنه حزين مثلك ويشعر بأحزانك!
أحمد: حتى وإن كان هكذا, فحزنه لايزيدنى إلا حزنا
العجوز: أما فهمت أيها الأبله !... إنه دموع !
أحمد: (ينظر إليه فى تعجب) دموع, دموع من ؟!
العجوز: دموع القدر...
أحمدإما أنك تسخر منى, أو أنك هرمت وصار فوك لاينطق إلا بالهذى.إنه مجرد سراب,وسط الصحراء المترامية فى ذلك الحر القائظ.
العجوز: انظر إلى نفسك, حتى إنك لاتريد أن تحاول, لاتريد أن تتخلص من أحزانك.
أحمد(بسخرية) نعم أتخلص من أحزانى بدموع القدر فى بقعة سراب !
العجوز: وهل سيحمل لك القدر الذى يلهو بك بأمواجه, قارب النجاه !
أحمد: (يستمع)
العجوز: (مستطردا) إن قارب النجاة لن يصل إليك إلا إذا خابت ظنون أمواج القدر فيك, حينها ستحمله إليك أمواج القدر.
أحمد: (ينصت باهتمام)
العجوز: اسمع أيها الفتى, إذا نجوت فلا تكف عن البكاء, فمن لايبكى لاقلب له ...
أحمد: أقرأ ؟!
العجوز: نعم.... أجبنى يافتى... ماذا كانت معجزة نبى الله موسى ؟
أحمد: العصا..
العجوز: أتعرف لماذا ؟
أحمد: لأن قومه كانو ماهرين فى علوم السحر, فأراد الله لهم معجزة تتحدى نقطة قوتهم.
العجوز: وماهى معجزة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) ؟
أحمد: القرآن الكريم .
العجوز: لماذا بالذات القرآن الكريم؟
أحمد: لنفس سبب قوم موسى, لأنهم كانو ماهرين فى العربية وآدابها.
العجوز: وإن كان فيهم جاهل أو أمىّ فليس أهل بهذه المعجزة وماأنزلت له, وهى المعجزة الوحيدة التى جعلها الله لأمة وستبقى إلى قيام الساعة, لأنه أراد لهم المعرفة الأبدية.
أحمد: (ينظر باهتمام)
العجوز: اقرأ يابنى فى فرحك وترحك ..
أحمد: لماذا تقول لى هذا الكلام فأنا أقرأ وأتعلم ؟!
العجوز: لأنك إن انقشعت همومك فإنك ستترك دفتى الكتاب كما تتركك الأحزان ...
أحمد: (ينظر بأمل) وهل ستنقشع أحزانى ؟
العجوز: (يتكأ على عصاه ويستعد للرحيل) إذا خابت ظنون أمواج القدر فيك. 
      (يرحل...)
أحمد: إلى أين سترحل؟
العجوزلاتنس أنى عابر سبيل....(يتوقف بعد برهة من الرحيل كأنه نسى شئ)
 آه .. نسيت ... أنت محق, بقعة الماء تلك هى مجرد سراب, لكن هناك خلف النخلة يوجد بئر ماء عزب...!)

(يرحل وتتبعه نظرات أحمد, متفكرا فى حديثه, حتى يختفى بين الكثبان )

الأحجار الطائرة

للوصول للمدينة الجديدة التي أزورها لأول مرة، حلّت خطاي المحطة التي تبعد عن منزلي ثلاثة أحياء صغيرة وأرضًا صحراوية ناجيةً من آثار التمدن حوله...