من شرفة منزلنا
تناهى إلى أذناى صراخ أطفال من غرفة الطابق الثانى للمبنى المُقابل، لما انتبهت
أكثر وأصخت السمع أكثر، علا الصراخ أكثر وأكثر، كأنهم فطنوا إلى وجود أذنين تستنجد
بهما من الهول الواقع عليهم، اختلج قلبى، وقفت عند سور الشرفة وأنا أحاول أن أتصيد
نظرة من هنا أو هناك.. لا رؤوس تظهر ولا حراك، لا شيء سوى الصراخ! هل يستخدموا
الحضانة لتعذيب الأطفال؟!
زاد توترى، فكنت
أمشى ذهابا وجيئة بعرض الشرفة، أحاول إيجاد حل لوقف هذه المذبحة، وكان صراخهم يعلو
ويزداد، والشارع المنبسط خالٍ من المارة، هل اتفقوا جميعاً على قتلهم؟ لماذا لا
ينقذهم أحد؟ هل أنا وحدى الذى ينتبه لصراخهم؟
ثم كانت تلك
الصرخة المُفزعة التى أوقفت تفكيرى فاندفعت ونزلت الشارع الخالى وأخذت هاتفى معى..
ثم توجهت إلى المبنى- الطابق الثانى، حيث توجد الحضانة، توقفت أمام باب مغلق فى
مواجهة باب مُشرع خرجت منه سيدة تبدو هادئة، سألتها وصوتى يمتليء بالتوتر والجزع:
ماهذا الصراخ، وأين الأطفال؟ انتبهَت إلى تفكيرى، فلمعت عيناها وضحكت بهدوء: دول
بيعيطوا لوحدهم كدا, محدش قربلهم، أصله أول يوم لهم فى الحضانة!
بعض الهدوء تسرب
إلىّ، إلا أن الصراخ الذى سمعته من شرفتى وجدته هنا أكثر قُربا وهولاً، فطلبت منها
مقابلة المشرفة للاطمئنان بنفسى فأشارت إلى الباب المغلق المواجه، فطرقت عليه،
ودخلت، وجدت فتاة جالسة على المكتب قابلتنى بابتسامة، فسألتها مباشرة: ما هذا
الصراخ؟
فأجابت أيضا
مُبتسمة بأن الأطفال مذعورون من يومهم الأول فى الحضانة، لا أكثر، فطلبت منها أن
أراهم (ولا أعرف لماذا تذكّرت لجان تفتيش الأمم المتحدة فى تلك اللحظة) .. دخلت
الغرفة ووجدت طفلين ملتصقين بالحائط وأبواق الهول والذعر تُطلق صراخهم من رؤوسعم، لايرون
شيئا من دموعهم المنهمرة، وطعم الملح فى أفواههم الفاغرة المتصلة بمخاط أنوفهم...
بينما بقية الأطفال يلعبون فى الغرفة الواسعة، لا يبالون، ينزلقون على المزالج،
يتداعبون، يقفزون.. حاولت عبثاً أن أهديء من روع الطفلين، إلا أن ذعرهم كان أعظم..
التفتُّ إلى المشرفة التى كانت تبتسم وشرحت لها كيف كان صراخم من شرفة منزلنا
والذى لم أسمعه من قبل، فتفهمت وأومأت: يومهم الأول..
اعتذرت لها
وخرجت..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.