افتتح عمي السيرك الجديد، كان متفائلًا، قال إنه يجب أن يدرّ المال سريعًا لأنه سيقدم عروضًا غير مسبوقة. عمي هذا بكرش لكنه نشيط مع ذلك، قصير وسريع الحركة، ويصرخ في أي مكان ولأي سبب، وحين يفعل ذلك يضرب بقدمه اليسرى على الأرض محركًا من تحته موجة من الغضب تنذرهم جميعًا بمشاق لا طاقة لهم بها، لذلك فكان الجميع يعمل تمامًا كما يريد، لأنهم يخافونه ولأنه لن يتورّع عن استخدام أقذع الألفاظ في سبِّهم والتي غالبًا لا تأتي منفردة وإنما يُتبعها بجزاءات واستقطاعات ظالمة. أحضرني عمي لأنه يعتقد أني الأنسب لعرضه الجديد، وقد تم تدريبي بعناية. لم يصرخ فيّ أبدًا، فقط كنت أشاهده يفعل ذلك مع مرؤوسيه، وكنت أشاهدهم وهم يعملون لكن بحذر شديد، حتى أني لم أتخيل أحدهم يعمل في عدم وجود عمي، حتى أبسط العمال الذي كل مهمته تعليق الزينات، أصبح أخرسًا من شدة خوفه. كان من الواضح أنه يخاف عمي للدرجة التي تجعله يحذر وقوع الأشياء من يده فيُنبه بصوتها عمي إليه، لم يكن يعرف عملًا آخر، وفي حال خسارته فإنه سوف يصبح عاطلًا لفترة قد تطول وقد تقصر حسب ضربات الحظ لا حسب مهاراته أو خبراته التي تتكون من سبع سنوات من رفع ذراعيه مُعلِّقًا الزينات، كان يدرك ذلك جيّدًا، فكان يتحاشى غضب عمي مستجلبًا رضاه العسير بكل مقدرته، لكن كان ذلك على حساب خوفه. كان واضحًا في عينيه الخوف أكثر من حركة يديه المرتعشتين، كأنهما تريان شيئًا مروّعًا، شيئًا لا يستطيع أحدٌ غيره رؤيته. كان عمي يجول في الأنحاء يتابع العمل ويمارس سلطته الجائرة، فأوشك مصباح أن يسقط من بين يديه فوجدت نفسي بلا وعيٍ مني وأنا أراقبه أميل بجذعي كي ألتقطه، لكنه لحقه قبل أن يسقط. كان العمل في مجمله يقضي بتنفيذ أوامر عمي فحسب، لم يكن لأحد أن يتدخل فيه بأي شكل، كان له مساعدون عينهم لمعاونته في تنفيذ هذه الأوامر، حتى أنه، وفي مقابلة مع أحدهم، أخبره بعد أن بشره بقبوله في الوظيفة الجديدة، أن هؤلاء، وأشار برأسه إليهم وهم يعملون، مثل الخنازير حقيرة ونتنة ولا تؤدي ما عليها بغير الضرب مثل الحمير، استجاب له المساعد الجديد متفهّمًا، وكان أيضًا يخشى أن يفقد وظيفته الجديدة.
تم لعمي ما أراد من تجهيزات في المسرح. يستطيع الجميع الآن أن يتنفسوا الصعداء، ويمسحوا العرق عن جباههم من خلف الكواليس. الآن جاء دوري.
(العرض الأخير)
توقع عمي أعدادًا كبيرة حقًا لكن ليست بهذا الحجم الذي استقبله المسرح، ظل صامتًا لفترة طويلة.
استقبلني الجمهور بتصفيق طويل وراءه فضول، قدمت التحية فخفت التصفيق تدريجيًا وكان آخر مصفق صبيٍّ متحمس للعرض فظل يصفّق وحده طويلًا إلى أن أوقفته أمه. ثم بدأت فترة انتظارهم للعرض، وكان عمي يتابع من الصف الأول. ظللت أحدق في الجمهور كشخص عملاق مرعب. غاب عامل تعليق الزينات وقد طلب إجازة مفتوحة، عرفت أنه يعاني اكتئابًا حادًا، ليس لأن الضغط النفسي الواقع عليه لا يتناسب والراتب الحقير الذي يتقاضاه، ولكن لأنه اكتشف أنه يخاف أكثر من اللازم وأنه لو ظل عاملًا لتعليق الزينات في فرقة عمي فلسوف يظل أخرسًا دائمًا. طالت فترة صمتي وتحديقي في ذلك العملاق المرعب الذي يملأ المسرح. تناهى إلى سمعي همهمة مُتسائلة، أشار لي عمي بيده للأمام كأنه يقول لي "تقدّم". تقدمت نحوه وظن الجميع أن العرض قد بدأ، فكان منهم من تراجع بظهره للخلف، لكني في الحقيقة كنت أريد أن أتأكد من شيء غريب، شيئًا لم أتوقعه أبدًا، اقتربت كثيرًا حتى حافة المسرح -تماما في مواجهة عمي، وقد تأكدت أن وجهه يرتعش وحدقتاه تلمعان في خوف ورجاء. اندهشت، وأعترف أني كنت منتشيًا، مستريحًا، أرغب بشكل غير مفهوم أن أسمي ذلك راحة ضمير.
أشار لي عمي مرة أخرى -بشكل أكثر حزمًا- أن أرجع لوسط المسرح. كنت مشدودا لملامح خوفه تلك التي كانت غريبة عليّ، غير متوقّعة. أصبحت الهمهمة الآن صفيرًا وزعيق. وقف عمي وهو يميل بظهره للأمام وهو يشير بطول ذراعه أن أذهب فورًا لوسط المسرح وأبدأ العرض.
لاحظت أنه يلوي قدميه داخل حذائه من شدة خوفه. كان يتعرق، وجهه دامٍ.. أصبح مجنونًا. فكرت في عامل تعليق الزينات، لربما يستطيع أن يتخلص من اكتئابه لو شاهد كل هذا الخوف في عمي.
قلت له: أنت تخاف أيضًا يا عمي!
فصرخ وأخذ يشد شعره من جانبي رأسه، وصعد المسرح بسرعة عصبية، ظل يدق بقدمه ويلوّح ويتوعّد ويصرخ، لم أسمعه بوضوح بينما الجميع يتصايحون في فوضى عارمة وقد تفكك هذا الشخص المرعب العملاق إلى أشخاص كثيرين مزعجين يطلبون عرضًا دفعوا من أجله. لم يكفّوا عن الصراخ إلا وعمي يهوى بجسده المكتنز القصير على خشبة المسرح. تسمّر الجميع لفترة زمنية قصيرة ومكتنزة مثل عمي، مركزين أنظارهم على جسده المُطرح أرضًا، ثم خرجوا في صمت، وكان آخرهم ذلك الصبي الذي وقف على مقعده يتابع ما يحدث، جذبته أمه وحملته وخرجت. كان يضحك من أعلى كتف أمه وهو يشير لي بطول ذراعه أن أتقدم للأمام.