الصفحات

الأحد، 26 يوليو 2015

عرض مسرحي


   افتتح عمي السيرك الجديد، كان متفائلًا، قال إنه يجب أن يدرّ المال سريعًا لأنه سيقدم عروضًا غير مسبوقة. عمي هذا بكرش لكنه نشيط مع ذلك، قصير وسريع الحركة، ويصرخ في أي مكان ولأي سبب، وحين يفعل ذلك يضرب بقدمه اليسرى على الأرض محركًا من تحته موجة من الغضب تنذرهم جميعًا بمشاق لا طاقة لهم بها، لذلك فكان الجميع يعمل تمامًا كما يريد، لأنهم يخافونه ولأنه لن يتورّع عن استخدام أقذع الألفاظ في سبِّهم والتي غالبًا لا تأتي منفردة وإنما يُتبعها بجزاءات واستقطاعات ظالمة. أحضرني عمي لأنه يعتقد أني الأنسب لعرضه الجديد، وقد تم تدريبي بعناية. لم يصرخ فيّ أبدًا، فقط كنت أشاهده يفعل ذلك مع مرؤوسيه، وكنت أشاهدهم وهم يعملون لكن بحذر شديد، حتى أني لم أتخيل أحدهم يعمل في عدم وجود عمي، حتى أبسط العمال الذي كل مهمته تعليق الزينات، أصبح أخرسًا من شدة خوفه. كان من الواضح أنه يخاف عمي للدرجة التي تجعله يحذر وقوع الأشياء من يده فيُنبه بصوتها عمي إليه، لم يكن يعرف عملًا آخر، وفي حال خسارته فإنه سوف يصبح عاطلًا لفترة قد تطول وقد تقصر حسب ضربات الحظ لا حسب مهاراته أو خبراته التي تتكون من سبع سنوات من رفع ذراعيه مُعلِّقًا الزينات، كان يدرك ذلك جيّدًا، فكان يتحاشى غضب عمي مستجلبًا رضاه العسير بكل مقدرته، لكن كان ذلك على حساب خوفه. كان واضحًا في عينيه الخوف أكثر من حركة يديه المرتعشتين، كأنهما تريان شيئًا مروّعًا، شيئًا لا يستطيع أحدٌ غيره رؤيته. كان عمي يجول في الأنحاء يتابع العمل ويمارس سلطته الجائرة، فأوشك مصباح أن يسقط من بين يديه فوجدت نفسي بلا وعيٍ مني وأنا أراقبه أميل بجذعي كي ألتقطه، لكنه لحقه قبل أن يسقط. كان العمل في مجمله يقضي بتنفيذ أوامر عمي فحسب، لم يكن لأحد أن يتدخل فيه بأي شكل، كان له مساعدون عينهم لمعاونته في تنفيذ هذه الأوامر، حتى أنه، وفي مقابلة مع أحدهم، أخبره بعد أن بشره بقبوله في الوظيفة الجديدة، أن هؤلاء، وأشار برأسه إليهم وهم يعملون، مثل الخنازير حقيرة ونتنة ولا تؤدي ما عليها بغير الضرب مثل الحمير، استجاب له المساعد الجديد متفهّمًا، وكان أيضًا يخشى أن يفقد وظيفته الجديدة.

تم لعمي ما أراد من تجهيزات في المسرح. يستطيع الجميع الآن أن يتنفسوا الصعداء، ويمسحوا العرق عن جباههم من خلف الكواليس. الآن جاء دوري.
(العرض الأخير)

توقع عمي أعدادًا كبيرة حقًا لكن ليست بهذا الحجم الذي استقبله المسرح، ظل صامتًا لفترة طويلة.

استقبلني الجمهور بتصفيق طويل وراءه فضول، قدمت التحية فخفت التصفيق تدريجيًا وكان آخر مصفق صبيٍّ متحمس للعرض فظل يصفّق وحده طويلًا إلى أن أوقفته أمه. ثم بدأت فترة انتظارهم للعرض، وكان عمي يتابع من الصف الأول. ظللت أحدق في الجمهور كشخص عملاق مرعب. غاب عامل تعليق الزينات وقد طلب إجازة مفتوحة، عرفت أنه يعاني اكتئابًا حادًا، ليس لأن الضغط النفسي الواقع عليه لا يتناسب والراتب الحقير الذي يتقاضاه، ولكن لأنه اكتشف أنه يخاف أكثر من اللازم وأنه لو ظل عاملًا لتعليق الزينات في فرقة عمي فلسوف يظل أخرسًا دائمًا. طالت فترة صمتي وتحديقي في ذلك العملاق المرعب الذي يملأ المسرح. تناهى إلى سمعي همهمة مُتسائلة، أشار لي عمي بيده للأمام كأنه يقول لي "تقدّم". تقدمت نحوه وظن الجميع أن العرض قد بدأ، فكان منهم من تراجع بظهره للخلف، لكني في الحقيقة كنت أريد أن أتأكد من شيء غريب، شيئًا لم أتوقعه أبدًا، اقتربت كثيرًا حتى حافة المسرح -تماما في مواجهة عمي، وقد تأكدت أن وجهه يرتعش وحدقتاه تلمعان في خوف ورجاء. اندهشت، وأعترف أني كنت منتشيًا، مستريحًا، أرغب بشكل غير مفهوم أن أسمي ذلك راحة ضمير.

أشار لي عمي مرة أخرى -بشكل أكثر حزمًا- أن أرجع لوسط المسرح. كنت مشدودا لملامح خوفه تلك التي كانت غريبة عليّ، غير متوقّعة. أصبحت الهمهمة الآن صفيرًا وزعيق. وقف عمي وهو يميل بظهره للأمام وهو يشير بطول ذراعه أن أذهب فورًا لوسط المسرح وأبدأ العرض.

لاحظت أنه يلوي قدميه داخل حذائه من شدة خوفه. كان يتعرق، وجهه دامٍ.. أصبح مجنونًا. فكرت في عامل تعليق الزينات، لربما يستطيع أن يتخلص من اكتئابه لو شاهد كل هذا الخوف في عمي.

قلت له: أنت تخاف أيضًا يا عمي!

فصرخ وأخذ يشد شعره من جانبي رأسه، وصعد المسرح بسرعة عصبية، ظل يدق بقدمه ويلوّح ويتوعّد ويصرخ، لم أسمعه بوضوح بينما الجميع يتصايحون في فوضى عارمة وقد تفكك هذا الشخص المرعب العملاق إلى أشخاص كثيرين مزعجين يطلبون عرضًا دفعوا من أجله. لم يكفّوا عن الصراخ إلا وعمي يهوى بجسده المكتنز القصير على خشبة المسرح. تسمّر الجميع لفترة زمنية قصيرة ومكتنزة مثل عمي، مركزين أنظارهم على جسده المُطرح أرضًا، ثم خرجوا في صمت، وكان آخرهم ذلك الصبي الذي وقف على مقعده يتابع ما يحدث، جذبته أمه وحملته وخرجت. كان يضحك من أعلى كتف أمه وهو يشير لي بطول ذراعه أن أتقدم للأمام.

الأحد، 12 يوليو 2015

الإله والشيطان

اليوم هو غرّة شهر رمضان، ومن المفروغ منه ضمن الأدبيات الإسلامية، أن الشياطين، ودون أيّ ذرة شماتة، يتم تصفيدها لمعاونة أحباب الرب على متابعة واجباتهم الدينية، ولمّا كنت من محبي الشياطين، المقدّرين لما يفعلوه من أجلنا طوال العام، فقد واتتني فكرة أن أصفّدها بنفسي، لضمان ألا يصفدها الله، كان عليّ إذن إيجاد المكان المناسب لذلك، "وهل هناك ما هو أفضل من حجرة الفئران" هذا ما أوحاه إليّ شيطان لعين أراد أن يوقع زملاءه في حجرة الفئران، ابتسمت له، غمز لي، ولأجل تنفيذ هذه المهمة الشاقة فقد استعنت ببضعة عاهرات ومائتي جرام حشيش، وقنينتي نبيذ، وبضعة شتائم في الأديان مجتمعة، وانتقيت بضعة أشخاص طيبين ملتزمين بالصلاة في المسجد كي ألعنهم وألعن طيبتهم المملة. واستطعت بخطتي هذه أن أجذب إليها كل الشياطين حقّا وقد نجعت خطتي التي وصفها إبليس بنفسه بالخبيثة ضاحكًا. وقد جاء بنفسه ليستطلع نجاح مفعوله فيّ.. لم أكن أشعر بعد أني أتحوّل إلى شيطان وأنا أمزّق الملابس الداخلية لأطول العاهرات، في ظل صياح صديقاتها وتشجيعهن لي. كان أحد أتباع إبليس يناولني جرعات الحشيش، وكؤوس الخمر، كان الضحك يهز الغرفة في حين أن المسجد المجاور كان يؤدي صلاة الترواويح في هدوء جعلنا نضحك منه.. وبعد أن أتيت على كل الحشيش والنبيذ، ونامت العاهرات من التعب، ظللنا نلعب أنا والشياطين الكوتشينة، كنا نشعر بالملل، حينئذ ذكّرني الشيطان اللعين بخطتي التي كدت أن أنساها..فقمت في هدوء مستغلا حالة الملل والتعب، وأخذت في تقييد كل الشياطين الموجودة في الغرفة، وكانوا جميعًا يبكون قائلين: "غفرانك يارب، نتوب إليك" كانوا يعتقدون أنني الله الذي يصفدهم، كانوا غائبين عن الوعي بعد أن سرقوا مني قنينتي نبيذ ومائة جرام حشيش. ظللت أضحك عليهم، واعتبر أحدهم أن ذلك نذير سوء، أن يضحك الله منهم وهو يصفّدهم، وبعد أن تمكّنت منهم جميعًا، سحبتهم إلى غرفة الفئران، والتي كان يستخدمها أبي لترهيبي من ترك الصلاة. ألقيتهم فيها، ولما مرت أعوام على وجود الفئران في هذه الحجرة، فقد كبرت كثيرًا حتى أن بعضها أصبح يكبرني حجمًا، ألقيت الشياطين مصفّدة في الحجرة وأغلق الشيطان الخبيث الباب ضاحكًا من أصحابه، (وقد رأيت تركه ليسليني) كنا نسمع صياحهم الذي كان يبدو مرتعبًا من أزيز الفئران العالي. تركتهم لأنزل إلى حجرتي، لم أكن أعلم بعد وقد انتهت صلاة التراويح أني نفسي أصبحت إلهًا، كنت منتشيًا؛ ففي ليلة واحدة بدأت شيطانًا وانتهيت إلهًا.. فأنا من أطلقت الشياطين وأنا من صفدها.

الخميس، 9 يوليو 2015

الكلب


كان لأبي كلب كبير كنت أخاف منه ولا أكاد أقترب منه أبدًا ولم يحاول أبي أن يُبدد هذا الخوف، بل كان يطلقه في حديقة المنزل ويلعب معه وكنت أحبس نفسي في الغرفة، لم تسألني أمي أيضًا عن سبب خوفي، رغم أني متأكد أنها تعرف كل شيء، ورغم ذلك كانت تجلس مع أبي ليشاهدا الكلب وهو يقفز نشيطًا خلف الصحن الطائر الذين يلقيانه أمامه في فرح ونشوة، كان نباحه مثل ضحك طفل صغير بالنسبة إليهما. وذات يوم وأنا عائد من المدرسة أحمل حقيبتي الطويلة التي تصل إلى ربلتيّ ساقيّ، نبح الكلب خلفي، حينها صرخت رغما عني: بابا بابا، ماما. لم يجبني أحد، ظللت أجري في الحديقة بصعوبة بسبب ثقل الحقيبة وارتدادها المزعج عن ساقيّ والكلب يلاحقني بنباحه، اختفى والداي تمامًا، وفكرت أنهما إنما كانا يدربانه ليتمكن من اللحاق بي حتى أني اكتشفت أن الصحن الطائر الذي كان يلعب به بصحبتهما له نفس لون حقيبتي المدرسية. والآن- وهما ليسا موجودين- فالأمور تسير كما خططا له تماما. انقطعت أنفاسي وتعبت من الهرب، حاولت التعلق بجذع الشجرة لكني سقطت، ونمت متقوّسًا بسبب الحقيبة أسفل ظهري، كان الكلب يعض ساقي وينهش من لحمها، حاولت دفعه عني لكنه كان قد أمسك بساقي بين أنيابه، كان جائعًا شرهًا، كنت مرعوبًا لدرجة أن صوتي كان مُعطّلًا، كان والداي يتابعان من شرفة المنزل، همس أبي في أذن أمي، وكنت أسمعه كأنه يهمس في أذني أنا: "انظري إليه، يبدو أنه لم يعد خائفًا". كانت أمي تستند بطول ذراعها الأيسر على حافة الشرفة وذقنها مستريحة على راحة ذراعها الأيمن المتّكئ بكوعه على الحافة. كانت تفكر بعمق، وأبي كرر مرة أخرى هامسًا لنفسه: لم يعد خائفًا.

بعدما أكل الكلب وشبع، اختفى أبي من الشرفة، حينئذ لوحت لأمي وكنت أخاف أن أفعل في حضور أبي. لكنها كانت مستغرقة، تفكّر في شيءٍ يبدو مصيريًا، ثم دخلت الغرفة وأغلقت خلفها الباب ولم تعد. نام الكلب جواري وفي معدته لحم ساقيّ وقد اكتفى بلحس عظامي التي أصبحت أكثر بياضًا، ثم أخذ يمسح ما علق حول خطمه بلسانه.

اتكأت على عظمتي ساقيّ وتبعني الكلب الذي كان يلاحق الحقيبة مدلدلًا لسانه الطويل. دخلت المنزل، وحين وجدت الصحن رميته في الحديقة فجرى الكلب وراءه. أغلقت الباب وصحت: "ماما"، ارتدّ صدى الصوت إليّ: "ماما"، شعرت بالخوف منها فجأة، وتراجعت عن البحث عنها. ظللت واقفا على عظمتيّ ساقيّ وسط بهو بيتنا الواسع الذي ما رأيته كثيرًا بسبب أنني كنت أحبس نفسي في الغرفة بعيدًا عن الكلب، حتى أني وللمرة الأولى ألاحظ تفاصيل العمود الضخم الذي يصد أية نظرة تطال أي جدار خلفه، كانت به تشكيلات لولبية من قطع السيراميك اللامع، في شرائط متجاورة باللون الأحمر والقرمزي والأصفر لينتهي عند السقف بتاج ضخم مصنوع من الجص مُضاء بأنوار خافتة. في بيتنا أشياء جميلة حقًا لكن لم يسنح الوقت أبدًا لرؤيتها. والآن أنا وحيد مع الكلب بعدما اختفيا من البيت ظنًّا منهما أني لم أعد خائفًا، لكني في الحقيقة الآن ميّت.