كان لأبي كلب كبير كنت أخاف منه ولا أكاد أقترب منه أبدًا ولم يحاول أبي أن يُبدد هذا الخوف، بل كان يطلقه في حديقة المنزل ويلعب معه وكنت أحبس نفسي في الغرفة، لم تسألني أمي أيضًا عن سبب خوفي، رغم أني متأكد أنها تعرف كل شيء، ورغم ذلك كانت تجلس مع أبي ليشاهدا الكلب وهو يقفز نشيطًا خلف الصحن الطائر الذين يلقيانه أمامه في فرح ونشوة، كان نباحه مثل ضحك طفل صغير بالنسبة إليهما. وذات يوم وأنا عائد من المدرسة أحمل حقيبتي الطويلة التي تصل إلى ربلتيّ ساقيّ، نبح الكلب خلفي، حينها صرخت رغما عني: بابا بابا، ماما. لم يجبني أحد، ظللت أجري في الحديقة بصعوبة بسبب ثقل الحقيبة وارتدادها المزعج عن ساقيّ والكلب يلاحقني بنباحه، اختفى والداي تمامًا، وفكرت أنهما إنما كانا يدربانه ليتمكن من اللحاق بي حتى أني اكتشفت أن الصحن الطائر الذي كان يلعب به بصحبتهما له نفس لون حقيبتي المدرسية. والآن- وهما ليسا موجودين- فالأمور تسير كما خططا له تماما. انقطعت أنفاسي وتعبت من الهرب، حاولت التعلق بجذع الشجرة لكني سقطت، ونمت متقوّسًا بسبب الحقيبة أسفل ظهري، كان الكلب يعض ساقي وينهش من لحمها، حاولت دفعه عني لكنه كان قد أمسك بساقي بين أنيابه، كان جائعًا شرهًا، كنت مرعوبًا لدرجة أن صوتي كان مُعطّلًا، كان والداي يتابعان من شرفة المنزل، همس أبي في أذن أمي، وكنت أسمعه كأنه يهمس في أذني أنا: "انظري إليه، يبدو أنه لم يعد خائفًا". كانت أمي تستند بطول ذراعها الأيسر على حافة الشرفة وذقنها مستريحة على راحة ذراعها الأيمن المتّكئ بكوعه على الحافة. كانت تفكر بعمق، وأبي كرر مرة أخرى هامسًا لنفسه: لم يعد خائفًا.
بعدما أكل الكلب وشبع، اختفى أبي من الشرفة، حينئذ لوحت لأمي وكنت أخاف أن أفعل في حضور أبي. لكنها كانت مستغرقة، تفكّر في شيءٍ يبدو مصيريًا، ثم دخلت الغرفة وأغلقت خلفها الباب ولم تعد. نام الكلب جواري وفي معدته لحم ساقيّ وقد اكتفى بلحس عظامي التي أصبحت أكثر بياضًا، ثم أخذ يمسح ما علق حول خطمه بلسانه.
اتكأت على عظمتي ساقيّ وتبعني الكلب الذي كان يلاحق الحقيبة مدلدلًا لسانه الطويل. دخلت المنزل، وحين وجدت الصحن رميته في الحديقة فجرى الكلب وراءه. أغلقت الباب وصحت: "ماما"، ارتدّ صدى الصوت إليّ: "ماما"، شعرت بالخوف منها فجأة، وتراجعت عن البحث عنها. ظللت واقفا على عظمتيّ ساقيّ وسط بهو بيتنا الواسع الذي ما رأيته كثيرًا بسبب أنني كنت أحبس نفسي في الغرفة بعيدًا عن الكلب، حتى أني وللمرة الأولى ألاحظ تفاصيل العمود الضخم الذي يصد أية نظرة تطال أي جدار خلفه، كانت به تشكيلات لولبية من قطع السيراميك اللامع، في شرائط متجاورة باللون الأحمر والقرمزي والأصفر لينتهي عند السقف بتاج ضخم مصنوع من الجص مُضاء بأنوار خافتة. في بيتنا أشياء جميلة حقًا لكن لم يسنح الوقت أبدًا لرؤيتها. والآن أنا وحيد مع الكلب بعدما اختفيا من البيت ظنًّا منهما أني لم أعد خائفًا، لكني في الحقيقة الآن ميّت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.