مرّت أمامه الجنازة مهيبة تسير في تؤدة، تحمل سحابات الحزن السوداء، وأبواق الهول على جانبيها تنوح بمرارة. ألقى ما كان بيده من خبز محشو باللحم واندسّ بينهم وحاول تنسّم الحزن مع الهواء، مشى بنفس التؤدة، سأل مُجاوره من يكون الفقيد، ولماذا يجُرُّونه هكذا، كشف الرجل، عن عينيه الحمراويتين، منديلاً مخضلاً بالدموع، وقال متأثراً:
- إنها سيدة الحي كله، لن يعوضها الزمن!
- ولكن لماذا يجرونها هكذا، هل هذه طقوس الحي؟
- لا، بل إنها تزن خمسمائة رطل، وأخذتنا الحيرة في طريقة حملها، عجزت النعوش وفرّ الحمالون، فلم نجد سوى جرها هكذا!
- وكيف ستدفنونها؟
- سيكفيها قبران أو ثلاثة
ثم رفع منديله حتى غطى أنفه وعينيه، ولاذ بالحزن.
حار الرجل في أمرهم، وفكر أنهم مُخادعون، فكيف يبكون عليها وهم يجرونها على التراب هكذا إلى مثواها الأخير كأنهم يتخلّصون منها، ثم ما لبث أن غاص في القلق حين تذكر أنه الآخر يقترب من وزن الأربعمائة رطل، حاول التملص بجسده من بينهم لكنهم كانوا يدفعونه دفعاً إلى الأمام رغم بطئهم، استسلم لهم وسار بوجه شاحب وعينين غائرتين في القلق.
أمام قبرٍ واسعٍ كالبهو دفعوها وغطوها بالرماد والحجارة، واندفعت نسوة متأهبة بالصراخ والعويل، بينما الرجال مطرقون يتأملون الحال والمآل، رفع أحدهم عقيرته يُذكّرهم: لا دايم إلا وجه الله.
فأمّن خلفه الرجال في هدوءٍ عميق ينضح بالأسى: لا إله إلا الله.
تفرقت نظراته بين القبور الصامتة غير الآبهة بالعويل المسترسل.. اطمأن قلبه لسببٍ غامض وامتد تأمله إلى أبعد من الزمان والمكان حتى خمد حاضره الصاخب بالحزن...
.............
نبش في الظلام عن أي شيء يتشبث فيه... ما هذا؟ ولماذا اللون الأسود؟
لاح له شبحٌ يسير ذهاباً وإياباً في خطواتٍ منتظمة، صاح:
- يا هذا.. من أنت؟ وأين أنا؟
- لا تتعجل.. الحساب يأتي على مهلٍ
- أي حساب؟!
- أوراقك ليست بحوزتي أنا هنا فقط لترويض ثعبانك، أنا حارس القبر يا هذا!
في البدء أحسها دعابة، حتى أن وجهه ندّ عن ابتسامة باهتة، إلا أن الصوت الذي انقطع كان أقوى وأصدق من السواد نفسه.. حاول الدفاع عن نفسه، حاول أن يصرخ، ثم حاول أن يتملص بجسده ويهرب، لكنه عجز.. أذعن للموت، وتساءل في يأس تام:
- من سيحاسبني؟
- مندوب الرب.
وعند ذِكر اسم الرب ندّت عن قبره هزة عنيفة، وتطلعت رأسه بطريقة عفوية، مدفوعة بالخوف، لأعلى، فلم يكن سوى الظلام الذي كان يملأ القبر. سأل الحارس، وكان يتناول شيئاً يُشبه الخبز:
- هل تعرف تهمتي، أقصد يعني أنني لم أشعر بالموت وكذلك الحياة، ولا أعرف لنفسي خطيئة، فقد عجزت عن ارتكاب الخطايا، واستسلمت لفعل الخير، فالعدل يقضي إذن بالجنة؟
تكلم الحارس وشدقاه يموجان بتناول الخبز:
- سمعتهم يتهامسون بأنك أخذت ثلاثة قبور، وهذا أكبر من حقك، فجاز عليك عقاب من يأخذ حق الغير!
- "أنا أيضا كنت أفعل الخير كثيراً".. صوت امرأة ينصبُّ في أذنيه لا يعرف من أين
أتى.
- من؟
- أنا التي جرّوها!
صمت وشعر ببعض الحرج، ثم قال:
- لقد بكوا كثيراً، كانوا حقّا يحبونك!
- بل بكوا من أجل أنفسهم، فهم يتجمّلون بالبكاء، هكذا يصيرون سُعداء
- وأنتِ لماذا فعلتِ الخير؟
- لا أعرف! كأني لم أكن أفعله، كأن آخر داخلي هو من يريد، أنا كنت أريد أشياءًا أخرى.
ثم تألمت:
- أه.. ظهري يؤلمني.. والحساب لم يأت بعد!
- سأطالبهم بمقابلة الرب نفسه، سأشرح موقفي، أنا أستحق الجنة، أنا متأكد من ذلك.
مثل ابتسامة انبسطت على شفتيه، وقد استرد بعض طمأنينته يواجه بها خوفه الذي لم ينقطع.
ومن عمق الظلام طرق وقع أقدام على أذنيه مثل هولٍ قادم، تلاشت كل طمأنينته، ألقى الحارس قطعة الخبز سريعاً ومسح كفّيه وازدرد ما كان بفمه، وتظاهر بالمثول لخدمة الحراسة.
كان الدبيب يعلو كالقدر المحدق، والصوت يأتي من كل الجهات ليصل إلى أذنيه كنذير، لم يكن سوى بضع خطوات حتى تقف الأقدام أمامه حاملةً كل خيالات الهول والعذاب.. انقبض صدره ونفرت عروقه، وأحس بالعجز التام، وأشفق من أنه لن يستطيع تقديم طلبه بمقابلة الرب، أغمض عينيه وأخذ نفساً عميقاً كآخر حيله لمواجهة خوفه، ولما فتحهما وهو يزفر هواء صدره المحبوس، انتبه إلى السماء المُخضبة بحمرة الشفق تملأ الأفق كالسيل، وعلى الأرض المنبسطة تحته؛ نباتات الصبار الصامتة صمت الموتى مُوزعة بشكل يزيد الخواء في داخله، وتلك الأبنية القصيرة بدت مُنغلقة على نفسها مُكتفية بأسرارها، ثُم تناهى إليه صياحٍ مفتّت باقٍ من مسيرٍ يمضي إلى الزوال، لمح ذيله ينزوي خلف كثبان بعيدة، مال برأسه نحو بهو السيدة المُغطّى بالحجارة وتمتم في خشوع وإشفاق:
(الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * .....)