في الحقيقة وبأبسط الصيغ الواضحة؛ هذا لا يعني شيئًا يخصّ صلب الكتابة نفسها على الإطلاق أو تأثيرها على العملية الإبداعية، إلا إن أقررنا بخضوعنا أخيرًا للمجتمع الاستهلاكي، وتخلينا عن الكثير من الوسائل الرومانسية التي تحقّر ضمنيًا من برنامج مثل الواتساب أو الماسنجر الذي لا أشك أن أحدًا منّا لا يمتلك واحدًا منهما على الأقل ضمن تطبيقات الهاتف. أحب مثلا أن أسمع مقطوعة أدادچو لألبينوني وأنا أكتب، هل ثمّة مصالحة ممكنة بين هذه المقطوعة المُغرقة في التأمل والمشاعر الإنسانية في أنبل شجونها وبين تطبيق سويفت كاي كيبورد- المفضّل لدي أثناء الكتابة والذي حملته من مخزن جوجل للتطبيقات بعد أن انتصر تسويقيًا وأدائيًا على غيره من الكثير من التطبيقات المنافسة.
حسنا.. ما الذي تغير سوى آليات العمل، قديمًا كانت هناك منافسة بالتأكيد بين مُصنّعي الورق والحبر، والأفضل هو الذي احتفظ لنا التاريخ الإنساني بنسخة من أعمال مؤلف عظيم (جون ملتون مثلا) أنجز مُنجزه عن طريقهما، لأنه كان هناك واحد من صناع الورق وآخر من صناع الحبر هما من استطاعا بالمنافسة أن يقنعا المستهلك- جون ملتون هنا- بمنتجيهما.
بداخلي رفض فطري آلي لظهور شخصيتي الاستهلاكية، لا أحب أن تظهر تعليقاتي حول منتج معين، فمثلا أنا متابع جيد لسوق الموبايلات، أحب جديدها وآخر تقنياتها، أحب أن أخمن سعر هاتف معين عن طريق مواصفاته، أنا شخص مناسب لأن تسأله عن بعض خصائص الهواتف الحديثة. رغم ذلك فأنا- آليًا أيضًا- منحاز للجانب الرومانسي/المعرفي، فأفضل تصدير شخصيتي المعرفية عن الاستهلاكية، فالأدوات وإن كان وجودها لا جدال في أهميته إلا أنها تظل معاول بجوار صرح شاركَت في بناءه ومن ثم ليس من المناسب لها أن تظهر في محيط أكثر من المحيط الشخصي.
لكن كيف يمكن أن تكون النزعات الرومانسية ذات أثر سيء أكثر من الاستهلاكية؟
مثلا هناك الكثيرين حين يُعجبوا بصورة فتاة جميلة تم تصويرها بشكل احترافي بمساعدة الميكاب وبعض التأثيرات البصرية، يذهبون إلى أبعد من هذا، يذهبون إلى الهيام ب"عالم" الفتاة الساحر، يتغزلون فيها، يقتبسون من أجلها القصائد، ويصيرون حالمين بها بشكل ساذج مثير للشفقة. هؤلاء المنحازين إلى الجانب الرومانسي يتغافلون عن الجانب الاستهلاكي: نوع الكاميرا، دقتها، زاوية التصوير، وضع الفتاة، الإضاءة، فلاتر الفوتوشوب؛ كل هذه الأمور التقنية والاستهلاكية كانت أولى بالإعجاب من فتاة؛ شخصيتها الحقيقية تم فلترتها لتبدو كما تحب أنت؛ حالمة.
نعود إلى ملتون، لا أشك أنه كان على دراية كافية أيضا بسوق الورق والحبر، ربما امتد اهتمامه بها إلى حد بعيد، من يعرف؟ ربما كان هاويًا أيضا. فاهتمام المرء بجانب ما من المعرفة يستتبعه بالتأكيد اهتمام مقابل بالأدوات المساعدة، يتحمس لجديدها وتطوّرها. ينتقل من أداة إلى أخرى آملا في أن تُحسّن من إنتاجيته بشكل ما.
أنا أحب الموسيقى، لكني لم أتوقف عند مجرد السماع ولم أقتنع بأن تكون هذه الهبة مجرد فعل هامشي يصاحب فعل القراءة والكتابة، لكني أعطيتها نصيبًا كبيرًا من الفعل الأول، وأسعى- في مجال طموحاتي على الأقل- أن يكون لها نصيب من الفعل الثاني- عزفًا.
هذا التوجه نحو فضول معرفة آلية الموسيقى وتطورها وأنواع الآلات وطريقة نظم النوتة الموسيقية أُعيزه إلى ذلك الجانب الاستهلاكي من شخصيتي التي تحب أن تتخطى الجانب الرومانسي والمعرفي من الأمور إلى جانبها الماديّ الأدواتي الأوليّ.
قبل شراء هاتفي الحالي شاهدت مئات المراجعات عن مجموعة كبيرة من الهواتف، ولا أبالغ لو قلت أني اكتسبت بفضلها خبرة كبيرة في اللغة الإنجليزية الخاصة بقاموس الهواتف، لا أبذل جهدًا كبيرًا في فهم مراجعة- أي مراجعة، عن أي هاتف متخطيًّا كافة التفاصيل التقنية الخاصة به. إذن فالبداية كانت شخصيتي الاستهلاكية الراغبة في اختيار أفضل الأدوات لمساعدتي على اكتساب المعرفة، ومن ثم تكوّنت لديّ معرفة جديدة بالأداة نفسها، لا تلك المعرفة التي تساهم فيها فحسب!
ففي البدء كان شغف المعرفة التي تعدني بها إمكانيات الهاتف العظيمة؛ فقراءة الكتب الإلكترونية، سماع الموسيقى، مشاهدة الأفلام، التطبيقات التي لا حدود لها من نظام مفتوح المصدر مثل أندرويد، كل ذلك أنبأني بمستقبل باهر من المعرفة، أضف إلى ذلك المتعة والتسلية التي تقدمهما تطبيقات مثل فيسبوك وتويتر.. الذين أعتبرهما أفضل مصدرين للتسالي على الإطلاق، كأن تمتلك أفضل مجلة منوّعة أهم ما يميزها هي أنك تختار ما تفضله أنت، لاحظ أننا الآن نضحك من الكوميكس أكثر من النكت. النكتة المصرية ذهبت، التي كانت ذات يوم تميز الشخصية المصرية، الآن حل محلها الكوميكس.
هذه الأرضية هي ما نمت عليه شخصيتي الاستهلاكية بنمطها الحالي. أحب أن أجرب التطبيقات، الألعاب، صور جديدة مناسبة كخلفية، أسارع بتقييم تطبيق ومراجعته على جوجل بلاي لو أثار إعجابي (خمس نجوم) أو سخطي (نجمة). وراء كل دافع استهلاكي منافسة ما وراءها دعائيات ترمي إلى كسب هذا المستهلك إلى صفّها، لأنها درست حاجته وشغفه.
نعود إلى المثال الذي بدأت منه، ففيه تضافرت الثلاث محاور؛ فيتجلى المحور الاستهلاكي الأدواتي في الكتابة بواسطة تطبيق سويفت كاي كيبورد، والرومانسي في سماع موسيقى أدادچو، والمعرفي في الكتابة نفسها.
إذن ما الذي يعنيه أن نتحول إلى الكتابة على الموبايل... هذا لا يعني شيئا في الحقيقة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.