- لكن في الأغلب لا أحد يُقدم على فتح الباب...
استمر صديقي بنفس الشغف الذي لا ينتهي عنده أبدًا في الحديث حول قصة هذا الباب الذي لا يفتحه أحد، ولأني أحيانًا لا أقدم على فتح بعض الأبواب في منزلنا فقد شعرت بأن هذه القصة مُوجّهة إليّ، صفّقت بشدة حتى أصدرت يداي قعقعة ذات رنين مكتوم بين أرجاء المقهى، بينما استمرّ هو في الحديث عن الباب في اندفاع كأنه يلاحق الكلمات وهي تهرب منه، وكان مُنتشيًا، وكنت أشعر بشيء من الظفر والجميع ينظرون إليّ بتقزز لأنني أزعجتهم برنين صفقتي، لذلك فقد أبقيت يداي مرفوعتان، حتى جاء النادل، وأخذ صديقي استراحته بسحب دفعات متتالية من الشيشة، التي كانت تقرقر تحت قدميه بلا أي تعب أو شكوى.
كان النادل ينتظر باهتمام ما سوف أطلبه، لأنه يود إبعاد النظرات عن هذه المائدة في أسرع وقت.
- أريد سحلبًا
ولم يطلب صديقي شيئًا، وقبل أن يستدير النادل ليحضر المشروب استوقفته:
- أريد سحلبًا بطعم الكمِّثرى!
- لا يوجد شيء كهذا!
- يوجد عند الجميع، أشربه كل يومٍ في المقهى المجاور
كظم غيظه، ثم ذهب من دون أن نتوصّل إلى حل، ثم سألني صديقي وقد بدا أنه نسي أن يُكمل قصة الباب الذي لا يفتحه أحد:
- هل حقًا هناك سحلبًا بطعم الكمثرى؟
- طبعًا، وهناك أيضًا بطعم التفاح، والعنب، والمانجو، وهناك بطعم البطيخ لكن لا أحد يشتريه.
تحمّس صديقي واقترح أن ننتقل لهذا المقهى المُجاور، لكني رفضت، ولأوضح له الأمر، قلت:
- في الحقيقة، هذا المشروب لا يوجد إلا في قريتنا
أُصيب بخيبة أمل، ثم أخذ نفسًا عميقًا من الشيشة، حتى انكمش خدّيه إلى الداخل.
أصبحت ضروسه ملتصقة بخدّيه الغائرين نحو الداخل، فعرفت أنه يفكّر في قصة الباب الذي لا يفتحه أحد، وفي الحقيقة فقد كانت لديه هواية جمع القصص التي تدور حول الأبواب المُغلقة أو التي لا يفتحها أحد، ففي رأيه أن هذه القصص هي الوحيدة القادرة على إقناعك بوجود عالم آخر لا تستطيع رؤيته، وقد كان مؤمنًا. جاء النادل بالسحلب، وليعتذر عن أسلوبه الغير لائق، أحضر معه ثمرة كمثرى، وذهب متورد الوجه من الخجل، نظرت إلى داخل المقهى، فرأيت المدير ينتظره.
قال صديقي بعدما نسي كل شيء كما عادته بعد الإفراط في التدخين:
- أتعرف شيئًا آخر؟
- ماذا؟
- أنا حقًا أحب أي قصص تُحكى عن الأبواب التي لا يفتحها أحد.
- ظننتك تشعر بالضغينة ناحيتهم.
- إطلاقًا.
شجعني هذا لأن أصارحه بأنني لا أفتح بابًا في منزلنا لكني تراجعت..
وبعد قليل من صمتنا، تكلّمتْ فيه قرقرة الجوزة وحسْو السحلب وثرثرة الزبائن، قال كأنما تذكّر شيئًا خطيرًا:
- سوف أزوركم لتعزمني على هذا السحلب!
فأشرت إلى حبة الكُمثرى، لكنه لم ينتبه، فقد كان ضعيف النظر، وكان خرطوم الشيشة يُجبره على النظر في اتجاه معين، كما أخبرني كثيرًا بأن هذا الأمر جلب له الكثير من المشاكل، فكثيرًا ما ظنت الفتيات الجالسات قبالته أنه يقصدهن بالنظر، فإما أن يأتين لصب غضبهن عليه، وإما أن يرحلن من المقهى بعدما ملّوا من النظرات المشبوهة، ففي المقهى عدد لا نهائي من مُدخني الشيشة، حتى جاء يوم وأصبح فيه المقهى خاليًا من الفتيات، الأمر الذي بدوره خفّض عدد الرجال الذين لا يأتون إلا للفرجة على "فتيات المقاهي"، مما دفع مدير المقهى لإعادة ضبط وضعيات مُدخني الشيشة، حتى تعود الفتيات من جديد، لكنهن لم يعدن أبدًا، فقنع المدير بالرجال، وفي الحقيقة، فقد أصبح شديد الذوق مع زبائنه منذ ذلك الحين.
وفي ومضة ساخرة مفاجئة، أعلن صديقي أنه يرغب في شرب السحلب بطعم البطيخ وكان يقهقه مثل قرقرة الجوزة، وكنت قد أعطيت حبة الكمثرى لطفل مر من جانبي يبيع المناديل، أخذها ولم يفهم أنني أردت منديلًا أمسح به أصابعي.
قلت له بعدما فرغ صبري:
- لتأت في أيّ يوم، فنحن نبيعه كل يوم تقريبًا!
وتوقف عن الضحك للنبرة الجادة التي استخدمتها، ورأيت ضروسه تبرز مرة أخرى من انسحاب خدّيه. جاء مدير المقهى ليسألنا بنفسه عن رضاءنا بمستوى الخدمة، في حين أن النادل كان يقف خلفه من بعيد متأبطًا اللوح المعدني وهو يلوح لي متضرّعًا بأن أعف عنه. فقلت له أن كل شيء على ما يرام، فشكرني، وابتعد بكرشه الذي كان مستقرًا فوق المائدة.
رأيت من خلال حدقتي صديقي الواسعتين فتاة قادمة للجلوس قبالته، أردت أن أنبهه، لكني تراجعت مفضلًا أن أرى رد فعل المدير على وجودها.. وكان يبدو عليه أنه لن ينتبه لوجودها أبدًا، وكان على وشك أن يحكي قصة الباب الذي لا يفتحه أحد. مرّت فترة طويلة بسلام، فنظرت خلفي لأن فضولي لم يكن ليزيد أكثر من هذا الحد، فوجدتها تدخن الشيشة، وكانت تحدق في وجه صديقي ببرود، فعرفت أن هذا بسبب خرطوم الشيشة، وكان من الواضح أن أحدهما لم يكن يرى الآخر، كان صديقي يعجب للنهاية التي انتهت بها القصة التي حكاها لتوّه، ولم أكن أعره انتباهًا، فلم يكن يهمني وجود عالم آخر خلف أحد الأبواب المغلقة قدر ما يهمني مشاهدة تعابير وجه المدير وهو يرى فتاة في المقهى لأول مرة بعد ثلاث سنوات من الغياب التام.
استمر صديقي بنفس الشغف الذي لا ينتهي عنده أبدًا في الحديث حول قصة هذا الباب الذي لا يفتحه أحد، ولأني أحيانًا لا أقدم على فتح بعض الأبواب في منزلنا فقد شعرت بأن هذه القصة مُوجّهة إليّ، صفّقت بشدة حتى أصدرت يداي قعقعة ذات رنين مكتوم بين أرجاء المقهى، بينما استمرّ هو في الحديث عن الباب في اندفاع كأنه يلاحق الكلمات وهي تهرب منه، وكان مُنتشيًا، وكنت أشعر بشيء من الظفر والجميع ينظرون إليّ بتقزز لأنني أزعجتهم برنين صفقتي، لذلك فقد أبقيت يداي مرفوعتان، حتى جاء النادل، وأخذ صديقي استراحته بسحب دفعات متتالية من الشيشة، التي كانت تقرقر تحت قدميه بلا أي تعب أو شكوى.
كان النادل ينتظر باهتمام ما سوف أطلبه، لأنه يود إبعاد النظرات عن هذه المائدة في أسرع وقت.
- أريد سحلبًا
ولم يطلب صديقي شيئًا، وقبل أن يستدير النادل ليحضر المشروب استوقفته:
- أريد سحلبًا بطعم الكمِّثرى!
- لا يوجد شيء كهذا!
- يوجد عند الجميع، أشربه كل يومٍ في المقهى المجاور
كظم غيظه، ثم ذهب من دون أن نتوصّل إلى حل، ثم سألني صديقي وقد بدا أنه نسي أن يُكمل قصة الباب الذي لا يفتحه أحد:
- هل حقًا هناك سحلبًا بطعم الكمثرى؟
- طبعًا، وهناك أيضًا بطعم التفاح، والعنب، والمانجو، وهناك بطعم البطيخ لكن لا أحد يشتريه.
تحمّس صديقي واقترح أن ننتقل لهذا المقهى المُجاور، لكني رفضت، ولأوضح له الأمر، قلت:
- في الحقيقة، هذا المشروب لا يوجد إلا في قريتنا
أُصيب بخيبة أمل، ثم أخذ نفسًا عميقًا من الشيشة، حتى انكمش خدّيه إلى الداخل.
أصبحت ضروسه ملتصقة بخدّيه الغائرين نحو الداخل، فعرفت أنه يفكّر في قصة الباب الذي لا يفتحه أحد، وفي الحقيقة فقد كانت لديه هواية جمع القصص التي تدور حول الأبواب المُغلقة أو التي لا يفتحها أحد، ففي رأيه أن هذه القصص هي الوحيدة القادرة على إقناعك بوجود عالم آخر لا تستطيع رؤيته، وقد كان مؤمنًا. جاء النادل بالسحلب، وليعتذر عن أسلوبه الغير لائق، أحضر معه ثمرة كمثرى، وذهب متورد الوجه من الخجل، نظرت إلى داخل المقهى، فرأيت المدير ينتظره.
قال صديقي بعدما نسي كل شيء كما عادته بعد الإفراط في التدخين:
- أتعرف شيئًا آخر؟
- ماذا؟
- أنا حقًا أحب أي قصص تُحكى عن الأبواب التي لا يفتحها أحد.
- ظننتك تشعر بالضغينة ناحيتهم.
- إطلاقًا.
شجعني هذا لأن أصارحه بأنني لا أفتح بابًا في منزلنا لكني تراجعت..
وبعد قليل من صمتنا، تكلّمتْ فيه قرقرة الجوزة وحسْو السحلب وثرثرة الزبائن، قال كأنما تذكّر شيئًا خطيرًا:
- سوف أزوركم لتعزمني على هذا السحلب!
فأشرت إلى حبة الكُمثرى، لكنه لم ينتبه، فقد كان ضعيف النظر، وكان خرطوم الشيشة يُجبره على النظر في اتجاه معين، كما أخبرني كثيرًا بأن هذا الأمر جلب له الكثير من المشاكل، فكثيرًا ما ظنت الفتيات الجالسات قبالته أنه يقصدهن بالنظر، فإما أن يأتين لصب غضبهن عليه، وإما أن يرحلن من المقهى بعدما ملّوا من النظرات المشبوهة، ففي المقهى عدد لا نهائي من مُدخني الشيشة، حتى جاء يوم وأصبح فيه المقهى خاليًا من الفتيات، الأمر الذي بدوره خفّض عدد الرجال الذين لا يأتون إلا للفرجة على "فتيات المقاهي"، مما دفع مدير المقهى لإعادة ضبط وضعيات مُدخني الشيشة، حتى تعود الفتيات من جديد، لكنهن لم يعدن أبدًا، فقنع المدير بالرجال، وفي الحقيقة، فقد أصبح شديد الذوق مع زبائنه منذ ذلك الحين.
وفي ومضة ساخرة مفاجئة، أعلن صديقي أنه يرغب في شرب السحلب بطعم البطيخ وكان يقهقه مثل قرقرة الجوزة، وكنت قد أعطيت حبة الكمثرى لطفل مر من جانبي يبيع المناديل، أخذها ولم يفهم أنني أردت منديلًا أمسح به أصابعي.
قلت له بعدما فرغ صبري:
- لتأت في أيّ يوم، فنحن نبيعه كل يوم تقريبًا!
وتوقف عن الضحك للنبرة الجادة التي استخدمتها، ورأيت ضروسه تبرز مرة أخرى من انسحاب خدّيه. جاء مدير المقهى ليسألنا بنفسه عن رضاءنا بمستوى الخدمة، في حين أن النادل كان يقف خلفه من بعيد متأبطًا اللوح المعدني وهو يلوح لي متضرّعًا بأن أعف عنه. فقلت له أن كل شيء على ما يرام، فشكرني، وابتعد بكرشه الذي كان مستقرًا فوق المائدة.
رأيت من خلال حدقتي صديقي الواسعتين فتاة قادمة للجلوس قبالته، أردت أن أنبهه، لكني تراجعت مفضلًا أن أرى رد فعل المدير على وجودها.. وكان يبدو عليه أنه لن ينتبه لوجودها أبدًا، وكان على وشك أن يحكي قصة الباب الذي لا يفتحه أحد. مرّت فترة طويلة بسلام، فنظرت خلفي لأن فضولي لم يكن ليزيد أكثر من هذا الحد، فوجدتها تدخن الشيشة، وكانت تحدق في وجه صديقي ببرود، فعرفت أن هذا بسبب خرطوم الشيشة، وكان من الواضح أن أحدهما لم يكن يرى الآخر، كان صديقي يعجب للنهاية التي انتهت بها القصة التي حكاها لتوّه، ولم أكن أعره انتباهًا، فلم يكن يهمني وجود عالم آخر خلف أحد الأبواب المغلقة قدر ما يهمني مشاهدة تعابير وجه المدير وهو يرى فتاة في المقهى لأول مرة بعد ثلاث سنوات من الغياب التام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.