يكفي أن يُعلن المرء في ساعة هزيمة، أنه مُنتصر.. يقول پيداڤيرو، وهو كاتب ومفكِّرٌ مكسيكي مقيم في البرتغال، أنه كلما تراجع الإنسان أكثر فإن في رجوعه تقدمًا لأشياء تحتل موقعه، حينها يصير تبدل الأشياء عملية محكومة من قهر الإنسان، والقهر حينها يتجلى حاكمًا. يريد پيداڤيرو أن يعبّر بصيغة الأكواد الفلسفية عن فكرته المارقة أن القهر فكرة مجردة معدومة الدلالات، وأن النصر أمرٌ محتّم على الإنسان كونه إنسانًا راض إنسانيته، ويضيف في لفتة مثيرة: "كفى أن يكون الإنسان إنسانًا!"، ثم يستدرك قبل أن ينهي فقرته: أنه يشعر بالرثاء لكل قطط حيّه المكسيكي الفقير لأنها ربما كانت في يوم ما إنسانًا تمنى أن يكون قطًّا بعد أن أعيته فكرة الهزيمة، فصار كذلك كي يذوق الهزيمة بحق، ويعبر عن هذه الهزيمة بعبارة: "هزيمة صناديق القمامة" إشارة إلى بيئة حيِّه الذي كان يقيم فيه في المكسيك، ويضرب بكفّيه ليقول مُعجِزًا: "لكن هل يعود القط إنسانًا؟!"، فيهز منكبيه استهانة. وعندما سُئل عما يفعله حيال القطط المسكينة التي تتضور جوعًا وهي تنقب عن رأس سمكة في صندوق القمامة، قال پيداڤيرو: "الحقيقة أنني لا أشعر بأي شفقة، بل إنها اختياراتهم هم، اختيار أن يكون الإنسان قطًا، لأنه صدَّق أسطورة هزيمته القديمة، فتحوّل إلى قطٍ أجرب".
لم يعرف أحد حتى الآن سبب هجرته إلى البرتغال بالذات، يُقال إنه بسبب أنها الدولة الوحيدة في العالم التي تحارب القطط باعتبارها كائنات معادية لإنسانية الإنسان، وأنها كانت فيما مضى بشرًا تبرّؤوا من إنسانيتهم فبالتالي وجب على الإنسان أن يتبرّأ من حيوانيتهم، وهذه طبيعة تبادلية، أي أننا نتبادل نفس الأفعال الاحترازية والأفعال الإقصائية كي يحدث التوازن الذي يبقينا- جميعًا- على قيد الحياة، وقد أكد پيداڤيرو أن هذا المبدأ في حد ذاته يمثل ذروة المعرفة الإنسانية؛ أن يكون سبب بقائك مرتبط ببقاء الآخرين فتعمل على توازن كفّتي الميزان- لا رُجحان كفة فيه على الأخرى- على حسب خياراتهم بالطبع، فالكائن الحي مسؤول عن كل ما يفعله ويختاره وليس لأحد أن يتحمل خطأ اختياراته، من مثلًا يستطيع أن يتحمل خطأ تحول عمِّه إلى حيوان الفقمة؟ (يمكنك تخيل مدى بشاعة ذلك!) وهذا ما جعل الكثيرين يؤكدون أن تبنيه لهذه الفلسفة –الفلسفة التبادلية- هي سبب هجرته للبرتغال، الدولة التي أنجبت أعظم الفلاسفة التبادليين على مرِّ التاريخ.
كانت فلسفته تغري الصحفيين بسؤاله: إلى أي مدى تشعر بالنصر سيد پيداڤيرو؟
فيقول إنه يشعر بالنصر في كل لحظة، خصوصًا حين يدخن سيجار كوبيَّ فاخر. أوحى هذا التصريح إلى الصحفيين أنه ربما يكون مدخنًا للماريجوانا، في الوقت الذي أعلنت فيه البرتغال عن رفع تجريم بيعه.
أما القضية الشهيرة والمعروفة بـ "القط كان في الأصل قطٌّ" فكان صاحبها صحفيًّا مغمورًا أراد أن يتيح لنفسه بعض الشهرة من وراء فلسفة ذائعة الصيت، من خلال الدحض الضعيف: "أليس من المعقول أن القط كان قطًّا منذ قديم الأزل وسيبقى قطًّا إلى الأبد؟"، لكن تم مجابهته بقوة من قِبل أحد تلامذة پيداڤيرو النجباء، الذي رد في مقال مُطوّل عنوانه: "ومن قال أن الإنسان أصلًا كان إنسانًا؟"، كان مقالًا مُحكَّمًا يشهد بأستاذية پيداڤيرو قبل كل شيء. فاجأ هذا التلميذ كل المتابعين في نهاية المقال– بالتنسيق مع "عُصبة تلامذة پيداڤيرو"- بأنه سيقيم دعوى قضائية ضد الصحفيّ المغمور لأنه –حسب تعبيره- أهان الفلسفة التبادلية، التي تحظى باحترام عظيم في البرتغال، وقد تم الحكم لصالح پيداڤيرو، وكان ضمن حيثيات الحكم التي أذاعها القاضي المُختصّ، أنه "... إذا كان پيداڤيرو يعتبر أن القط كان إنسانًا، وقرر أن يصير قطًّا لشعوره بالقهر والهزيمة، فإن كل صناديق قمامات العالم تشهد بصحة رأيه، وأن رجوع القطط لصناديق القمامة الخاصة بالبشر بالذات- دون أية كائنات أخرى، تُثبت هذا الحنين الفطري القديم.."، رأى البعض أن القاضي لم يكن "مثقفًا" بما فيه الكفاية، وأنه ليس محيطًا بالفلسفة التبادلية، لكن انتصار قضية پيداڤيرو استطاعت أن تخفي هذه الحقيقة المُرّة عن كثير من البرتغاليين: أن يكون أكبر قضاة البلاد غير مُلم بالفلسفة التبادلية- الفخر المعرفي للبرتغال.
هناك شائعات تقول أن پيداڤيرو يصيغ فرع جديد من الفلسفة التبادلية تهتم بما سيكون عليه الإنسان الحديث المنهزم- الذي سوف يعلن هزيمته ويقرر أن يتبرّأ من إنسانيته- وحسب حوارات صحفية فإن پيداڤيرو يميل إلى تصور أن يصير الإنسان خنزيرًا، لأن هذا الحيوان -حسب رأيه- يعبر بشناعة عن موقف الإنسان من وجوده الحالي، مشيرًا إلى أكثر من تقريرٍ إخباري يؤكد ظهور ميل فطري لدى البعض في النوم في حظائر الخنازير، وتلاشي حالة التقزز والغثيان من رائحتها وقذارتها.
وفي حين عبّر البعض عن مخاوفهم إزاء هذا التطور العنيف المقزز، كان پيداڤيرو مطمئنًا أن التخلص من المقهورين سيكون سريعًا فضلًا عن قسوته العادلة، ولأنه معروف عنه اللؤم فإنه كان يؤكد أن هؤلاء المُتخوفين من هذا التطور، هم أنفسهم من يشعرون في داخلهم بالقهر، وأحيانًا تراودهم أحلام التخلص من إنسانيتهم.
بالطبع پيداڤيرو ليس ضد القهر كونه شعورًا ارتجاعيًا طبيعيًا، لكنه ضد أوهام البعض من أن التخلص منه يكون بهذه السهولة، أي أن يتحول الإنسان خنزيرًا. حاول أحدهم التدخل في حياته الشخصية - ربما لمعرفة أي الدوافع التي جعلته أحد أهم الفلاسفة التبادليين في العصر الحديث، حتى لُقِّب بسُقراط التبادلية (وهنا تلميح إلى شكله الدميم ورأسه الصلعاء)- فسأله إن كان أحد أقاربه قد تحول إلى قط، وتبين أن أبيه الآن يرعى في أحد مراعي المكسيك باعتباره خروفًا، لم يبد عليه الشعور بالعار بل إنه يؤكد أنه أتيح له زيارته وإجراء بعض التجارب عليه، والمتعلقة بالنظريات المعرفية السلوكية، وهي النظريات التي قضت مضجع أحلام فرويد -التي هي بحسب پيداڤيرو التحول الحيواني لنظريات الطب النفسي التي لم تسلم أمام القهر الصناعي الحديث، لم يوافقه الكثيرون على ذلك، لكنه كان يقول بدهاء: "إذن فلتسألوا كل خنازير العالم وقططه، كيف يقرؤون فرويد!".. وبالنظر إلى زياراته إلى أبيه، فإنه يؤكد أنه بصحة جيدة، وربما هذا ما كان يسعى إليه أبوه. لكن من حق القارئ أن يتساءل عما ستؤول إليه الأمور لو لم يحصل الخروف على سعادته المنشودة أو أنه ظل مقهورًا (باعتباره خروفًا قبل كل شيء -لا ذئب مثلًا)، هل سيتحول إلى حيوان آخر أكثر سعادة؟! لم يتطرق أحدٌ بجديّة إلى هذه القضية الحساسة من قبل، ربما لأن النظرية الإنسحيوانية لم تتبلور بشكل كامل، والتفكير في قضية الحيوان المؤوّل تحتاج إلى صبر كبير حتى يكتمل نمو هذه النظرية الواعدة من الفلسفة التبادلية، وربما أيضًا لأنه لم يمكن العثور على حيوان مقهور من قبل وأراد التملّص من حيوانيته، فالقطط كما هو واضح سعيدة بقططيتها والخراف سعيدة بخروفيتها والخنازير متعايشة بطريقة مثالية مع خنزيريتها، وهذا ما أشار إليه پيداڤيرو؛ أن الإنسان المقهور كان ذكيًا بما يكفي ليتحول إلى حيوان، لا أحد آلهة الأوليمب مثلًا.. يضحك پيداڤيرو كثيرًا عندما يذكر هذه الملاحظة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.