املأها أنت بالإسقاطات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ســـر الـــقــريــة
بعدما كثرت الأقاويل حول قريتنا العجائبية
وأصل الناس فيها, وتلك التساؤلات السخيفة عما إذا كانت تنطبق عليهم نظرية داروين
الشهيرة الخاصة بتطور الأحياء, آثرت الخروج عن صمتى والبوح بأسرارها مضحياً بنفسى
التى لا أشك ستطاردها لعنات الأجداد كما طاردت من قبلى الفتى الرشيد التى حولته
لعنة ما إلى أبله يشحذ كسرات الخبز والعملات المعدنية ليشترى بها فتاته الدمشقية
التى كان يقرأ عنها ولم يعد يتذكر سواها, كان يقول: ستكون زوجتى, هى تنتظرنى, أنا
أعلم ذلك. كلما قالها ابتسم ابتسامة واسعة حمقاء وسال من فمه خيط من اللعاب, فكنا
نعرض عنه ونقول: أبله !
كما أصابت إحدى تلك اللعنات العجوز الحكيم, فصار بين
ليلة وضحاها ماجن سكّير ينتظر حسناوات القرية على قارعة الطريق ليلف أردافهن
بنظراته الماجنة ويدعوهن لإقامة الليل معه أو العمر فتعرضن عنه, وتقول إحداهن
بعدما كشفت عن وجهها الذابل: كم أصابتك اللعنات ياعم, ثم تذهب يائسة, فيعود العجوز
يتذكر وقد سقط من يده كأس النبيذ الأبيض, أكنت قبل هذا اليوم غيرى ؟!
هكذا أصابتهم اللعنات حين غرتهم حكمتهم ورشدهم بالبوح
بسر القرية للغرباء, هذا السر الذى أبقى قريتنا على قيد الحياة حتى الآن برضا
الأجداد.
فى قريتنا لا يُسمع سوى صراخ السماء الممطرة فى الليل,
وصوت الأطفال فى النهار يلعبون لعبة العصا والعصفور*؛ لعبة لا يعرفها سوى أطفال
قريتنا ورثناها عن أجدادنا, ومع أن هناك ألعاب أخرى جديدة قد ظهرت مؤخرا, إلا أنها
ظلت لعبتهم المفضلة, فلم تظهر لعبة حتى الآن تجعلهم يتقافزون فى الهواء مثل لعبة
العصفور هذه. فبينما يضرب أحدهم العصفور بالعصا وتقفز فى الهواء فى مسار منحنى,
تذرع امرأة بدينة وسط الصبية لايرون وجهها أبدا, فتنادى على طفليها اللذين غابا
عنها أسبوعين كاملين, وبعدما ينهكها النداء تبدأ فى النحيب فيسقط دمعها على الأرض
فيعرف الصبية أنها تبكى ولا يظهر ابنيها. وبعدما تيأس تعود وهى تلعنهما وهى تقسم
أنها ستقتلهما لو رأتهم, فيضحك الصبية, ويسقط العصفور ويتسابقون فى الإمساك به.
ثم تصطخب السماء ويأتى أمر بالنفير و تشتبك السحب
وتتراكب ثم تلتحم وتصير السماء سحابة واحدة عظيمة دائبة الحركة كأنها تغلى, ثم
تتوالى الإنفجارات, ويهرب الأطفال بعيدا فإنها ساعة الليل, وقد أنذرتهم السماء
بخلوتها مع الأرض. وحين يأتى الصبح والشمس تلتمع على صفحات الماء العكر الأحمر
والأسود كأنهما لونىّ الخطيئة, يسير شيخ فى الخمسين من عمره, يأبى إلا أن
يسميه أهل القرية بالشيخ الحكيم حين وجد فى لسانه فصاحة اعتقد أنها ستبطل لعنات
القرية, فكلما مرّ على نسوة دق بصولجانه الخشبىّ الأرض الطينية, ونظر مليّا فى
وجوههن ثم تحدث كثيرا إليهن بحكمته وهو يلوّح بيده اليسرى فى الهواء منفعلاً, ثم
فى النهاية يهدأ ويفتعل ابتسامة مشرقة كلون الشمس بعد ليلة الخطيئة, ولسبب ما تضحك
النسوة بعدما يبتعد عنهن ويتغامزن فيما بينهن, وعندما يقترب العجوز من بيت السيدة
البدينة يصيخ السمع إلى الجدار فيسمع نهنهات وبكاء فيتنهد حزينا ويقف وهو يتأمل
صولجانه المنغرس فى الطين, ويقول: "إن جدران مساكننا لم تعد تحتمل.. آه
لأحزان البشر", ثم يسير متململا تاركا خلفه الجدار والبكاء, فلا يسمع سوى
دقات صولجانه اللينة على الأرض الطينية تنغرس فى ورقة مرسوم فيها نيرون متكئأ على
كرسيه المذهب من شرفة قصره بجواره نمره الشبعان وروما من أمامه تحترق فتنعكس على
جبهته ألسنة اللهب المتراقصة, وفى وجهه الصموت عبارة: "ما هذا الملل, لنطفيء
هذا الحريق" ويبتعد العجوز, وقد اتسخت الورقة بالطين وابتلت بالماء حتى بدت
الحريق كأنها انطفئت, فلا يشعرن نيرون بالملل !
لكن حين يقترب المساء وتصير السماء فى لون الزمرد, وقد
أنهكها صراخ الأرض وارتعاش أطرافها, تُبدى التسليم, فتُمسى الأرض ملك أهل القرية
فى هذا المساء, فيجتمع الصبية فى دائرة تحت سور مهجور, فيقصّ أكبرهم سنّا حكايات
الجان والعفاريت فتلتصق أفخادهم المرتعشة وفى عيونهم الدهشة رجفة الخوف وحب الفضول معا, وهم فى كل ليلة ينتظرون حكايات
الجان والعفاريت...
ــــــــــ
* العصفور: عصا فى طول كف اليد
فبراير 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.