أول أمسٍ، مات شاعر مغمور، ورغم قِصر الفترة التي مرت على رحيله، إلا أن روحه بدأت تنسج خيوطًا في مغزل الخلود. وجدت قصيدته الأخيرة طريقها إلى مقال بإحدى الصحف، ممهور عنوانه بهذه العبارة: "البيت الأخير كتبه الشاعر قبل رحيله بيومين!"
لاحظ معي علامة التعجب المتذيلة عبارة الصحافي المسكين. هي إحدى تفتقات ذهنه الخالصة، أو لنكن صرحاء؛ هي إحدى تطريزات لعبة الغزل التي تلعبها ربة الخلود (الشعر سابقًا).
تقول الأسطورة، أن ربة الشعر العربي "مسعودة"، قامت على التآلف بين ربات الشعر القديم حين وجدت بينهم شقاق لا لزوم له، وبحكمة ربات العرب، استطاعت أن تترأسهم وتسمّ نفسها ربة الخلود. في تلك الأسطورة لم تُزهَق روح أو يُهراق دم، أو تقوم حرب أو تخون امرأة زوجها (أو العكس¹)، بل جرت هذه الأسطورة في صحراء بلاد عربية، لم يُحدد مكانها، لكن أقاويل متفرقة تهمس أنها جرت في صحراء مصر، أقاويل أخرى تزعق "بل في السعودية"، وأخرى تنادي "بل ليبيا". هذه أسطورة مملة جدا، مثلا؛ تأخرت ربة القصة القصيرة عن الموعد المتفق عليه، ولعبت الربات اللاتي حضرن لعبة الخلود إلى أن تصل ربة القصة القصيرة، في هذه اللعبة يتم اختيار كاتب عشوائي شرط أن يكون مضى على موته ليس أكثر من عامين، ورقوه سلم الخلود بدون أية اشتراطات (لجائزة ساويرس ألا تسمح بمثل هذه المهزلة) وضحكت ربة المسرح من هذه اللعبة، وكانت مائلة للمسرح الكوميدي، كما يظهر في شخصيتها. وصلت ربة القصة القصيرة في عجالة من يشعر بالتخلف عن أمر هام وظهر عليها عناء السفر، وقدمت اعتذارات وتبريرات، لم يناقشوها لما تأخرت أو "إحنا اتفقنا على معاد.. إلخ"، لا، بل ما زالت فيهم بعض من سموّ ربات هومر وڤرجيليو، وكياسة ربة اللُطف التي غفرت لمن تأخر ألف سنة وساعتين عن موعده، وما أن ركع يطلب الغفران حتى أقامته وقالت: "عذرك معاك".
ثم أن ربة القصة القصيرة حديثة عهد بمثل هذه الأمور، صحيح أنها وُلدت يوم وُلدت المقامة العربية، لكنها تقاعست عن القيام بدور ذي خطر.
بدأوا لتوّهم مناقشات حول كم هي مملة كثرة الأساطير وتشعّب رواياتها، وعدم ملاءمتها لحاجات العصر المتلاحقة تطوراته، وبدوا جميعًا منصتين إلا ربة قصيدة الهايكو، وهذه لا يعجبها العجب على كل حال.
اتفقوا على لم الشمل تحت لواء ربة الشعر مسعودة، وهي - لمن توقف عند رواية هومر العتيقة- ربة من أصول عربية، يُقال أنها حفيدة إحدى ربات العرب التي كانت تُعبد في الجزيرة وكانت مرصًدا للأديان مجتمعة في حربهم على آلهة الجزيرة. يُقال أنها تسلمت راية الشعر من ربّات الإغريق عندما تأكدّت نبوءة ظهور المسيح، وتنبؤوا بحروب لا نهاية لها في أرض الرومان وكان على جميع الأرباب الانضمام تحت لواء چوبيتر، استعدادًا لحربٍ تحدد مستقبل وجودهم. لم يكن الحال بأفضل من هذا في بلاد العرب، لكن رحلت مسعودة إلى مصر بعيدًا عن فوضى هذا العصر. وتوقفت صكوك الخلود مؤقتا في هذه الفترة حتى تنتهي المراسلات بين الأنبياء والملوك بهدف البشارة، يُقال أنها نزلت قُرب أسيوط حاليا أو المنيا، لكن كلها شطحات خيال شعراء هاتين المحافظتين ممن يدّعون أنهم مخلّدون، في ندوات قصور الثقافة.
بدأت مسعودة، على أنغام ربة الموسيقى (وكانت تلعب تكنو، قبل أن يسحبك خيالك إلى آلة الهارب مثلا، فهي لا وجود لها إلا في الأوبرا): الخلود هو مشروعي، هو السلعة الأكثر رواجًا، لو بيدي لجعلته باشتراك شهريّ، مثل العلامة الزرقاء (ضحكت ربة المسرح هنا بشدة، وهي التي حصلت لتوها على علامة زرقاء في تويتر من خلال هيئة تنشيط السياحة الإيطالية)، وهي القاسم المشترك بيننا جميعا. مشروعي هو أن نمنح الخلود لمن يدفع أكثر…
هنا، وهنا فقط، اعترضت ربة الهايكو ساخرة: مثل البيض…
وما أن تفوهت بهذه حتى رمقتها ربة الشعر العجوز نظرةً، لخصت تاريخ الصراع والانفصال بينهما. وحتى لا تنشب حرب بينهما، استدركت مسعودة:
- Laissez-faire.
وعدّت أمثلة ممن أبخست حقهم في الخلود ربة الشعر، وذكرت كافكا؛ فانتصبت ربة الرواية عند ذكر الاسم تبجيلًا وأومأت ربة القصة القصيرة، وتشايكوفسكي؛ فتوقفت ربة الموسيقى عن لعب التكنو وعزفت مقطوعة من بحيرة البجع تمجيدًا. وڤان جوخ وغيرهم ممن استطاعت من خلالهم الربّة مسعودة أن تسوق حجتها في فشل نظام الخلود القديم الذي قادته ربة الشعر. واقترحت في النهاية أن كل ما يتطلبه الأمر هو أن يموت الكاتب حتى يُخلّد، ولكنها ستمنح الكاتب قبل أن يموت نبوءة موته، ليستمتع بها وتكون صلاته الأخيرة وشاهدِه الحي على الخلود. وجعلته نظاما أصيلا بدلا من العشوائية السابقة التي لم يحكمها حاكم ولا رابط.
قبل أن يموت الشاعر المغمور، كتب هذا البيت الأخير من قصيدته الأخيرة:
"آنبوءة الموت…".
تنسب ربة الهايكو هذا البيت لنفسها بينما تريد أن تنتزعه ربة الشعر العجوز. كانت الخطة متعثرة في بدايتها والتنفيذ تحُوله العقبات، وهي تفاصيل تنفيذية لم يتح لنا أبدا الاطلاع عليها من خلال كتابات هومر وڤرجيليو.
*******
¹ أضفتها خوفا أن تُنسب قصتي لأدب المحافظين، مع ذلك هي ليست من أدب الليبرالية اليسارية.
*القارئ النبيه سوف يعترض على ذكر السعودية وليس جزيرة العرب، والكوميديا محل الفكاهة، أقول لهذا القارئ: هذه ليست نباهة، وهذا رأيي المتواضع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.