في بلدتنا الفقيرة خمارة قديمة لا أعرف مكانها لأنني لم أكن لأجرؤ على الاقتراب منها وقد منعني أبي بشدة أن أقترب من المنطقة المحيطة. لكني قررت أن أشرب زجاجة جن كاملة وحدي، بحثت عن الخمارة بتكتّم شديد، قابلت جمعًا من الشبان المرحين وقت صلاة العشاء، كانت ضحكاتهم الصاخبة والمحركة لمشاعر الحرية تدفعني نحوهم لأسألهم بإحساس الأخوة:
- ها يا أصحاب، ليلتكم سعيدة، من تعرفون هنا قد يبيع الجن؟
- بيرة؟ - سأل أحدهم.
أومأت برأسي. اقترب مني وربت على كتفي، بينما كان رباط الأخوة ما زال يجد طريقه في قلوب الآخرين المتابعين بتحفظ، وصف لي طريقًا ملتويًا يمر عبر طريق زراعي ضيق وأماكن مظلمة، لكنه وصفه ببساطة.
- وضحت كدا؟ - سألني بعد أن انتهى.
فقلت له أنني لم أرغب في وصف أبسط من هذا، ضحك وتمنّى لي ليلة سعيدة أيضًا، ثم ذهب مع رفاقه الذين سوف يعاودون مرحهم الصاخب بعد حينٍ على الأرجح. أمسكت في ذهني أول الطريق ثم بسطته أمامي وسرت عليه كما وصف.
مشيت على حافة قناة مائية بحذر متشبثًا بالوصف الدقيق، وابتلعني ظلام.
عند نهاية القناة كان عليّ أن أعرج يمينًا حيث يتوفّر شارع أكثر اتساعًا لا يكلفني مشقة الحذر.
رأيت أمامي نورًا ينبثق من شارع جانبي، آنسني، وفكّرت أنه ربما يكون حفل زفاف. خرجت من جوف الظلمة وعند المفترق نظرت يَمنة ويَسرة، واكتشفت أنه بوابة سرادق عزاء؛ حيث هناك فارق طفيف بين زينة حفل الزفاف وأضواء سرادق العزاء. عدت إلى الخريطة في ذهني ولم يكن علي اختيار أحد الشارعين، بل يجب عليّ فقط اجتياز الطريق بطوله. كان للمقرئ صوت جميل وحزين بما يكفي، لكنه بعث فيّ القلق من شيء مجهول. عند نهاية الشارع فوجئت بساحة كبيرة تضيق بالمعزّين، وحركة نشيطة بين الوافدين والمُغادرين، وسلامٌ لا يكف بالأيدي والعناق عند مدخلها. كانت الساحة عارية، لا يغطّها سوى سلاسل المصابيح بين أزواج من الأعمدة الباسقة، مكتظة بالكراسي الممتدة في أزواج من الصفوف المتقابلة، لمحت أبي على أحد الكراسي ممسكًا مسبحة، حينها وجدت أنه يجب عليّ أن أؤدي واجب العزاء كما يفعل الرجال في مثل هذا الظرف، كنت أرتدي شورت وشبشب. وقفت في نهاية طابور الوافدين وتبعت حركتهم البطيئة نحو مُستقبلي العزاء، وحينما أصبحت في مواجهة ابن المرحوم، قبضت على يده وتمنّيت للفقيد الرحمة والصبر على رحيله، قلت ذلك بصوت عالٍ مكلوم بحيث أنه كان في نفس مستوى صوت المقرئ الحزين، وبدا أنّ كلماتي كان لها صدىً أبعد من الحزن في نفس ابن المرحوم، حيث أنه انتبه لي بشدة مضيقًّا ما بين عينيه الحزينتين، ونظر إلى ساقيّ العاريتين.
على مسافة أربعة كراسي مني اشرأب أحدهم برأسه قائلًا:
- أيوه كدا يا أحمد، ربنا يهديك
ورجع إلى موقعه حيث اختفى بين صف الرؤوس كأنه لم يكن. لم أفهم رسالته، نسيت موقع أبي، وبدأت أشعر بعدم الراحة، وتساءلت "ماذا إن كان صاحب الرسالة الغامضة هو أبي؟"، شعرت بالضجر وغادرت بسرعة العزاء عائدًا لخطّتي الطموحة؛ شراء زجاجة جن. كان صدى صوت المقرئ هو ما بقي معي من المأتم وأنا أسير في شارع بالكاد يصله شيء من وهج المصابيح البعيدة. وقبل أن أخرج منه، استوقفني صوت مألوف:
- استنى يا أحمد
نظرت خلفي، وبسبب العتمة، رأيته أجزاءً غير مترابطة؛ جزء من الرأس وساقه اليمنى فقط، وحينما اقترب مني ظهرت ابتسامة ثم رأس صلعاء يلمع قوسها الخارجي. أصبح في مواجهتي هذا الشخص الغامض.
- نعم؟
- نوّرت
- متشكر، مين حضرتك؟
- مش عارفني؟
- معلش مش واخد بالي، مش بنزل كتـ...
قاطعني، وقد تبدلت نبرته:
- انت مشيت بسرعة ليه وازاي تعزّي بشورت؟ دا ذوق؟
- معلش أنا آسف بس عندي مشوار مهم... انت مين؟
انطفأت أضواء المصابيح، وصار صوته هو الدليل الوحيد على وجوده.
- يعني لا عندك ذوق وخمورجي، وكمان مش عارفني!
- حضرتك مين؟
صفعني على وجهي، وانقطع حسّه.
صحت لأصحح إحدى غلطاتي التي أغضبته: "بابا"، وأنا لست متأكدا من شخصه.
شعرت أن سرّي الذي أخفيته طويلًا قد افتُضِح الآن أمام أبي، وأمام الجميع.
وقفت في الشارع تائهًا في ظلمته، كنت خائفًا، وتلاشى تفكيري في زجاجة الجن، صرت خجلانًا من الشورت والشبشب، وأخشى أن أخرج بهما إلى الطريق ويراني الناس. كنت غارقًا في أفكاري وشكوكي حتى أمسكَت يد بساعدي وسحبتني معها، لم أسأل، ولم أستبين شخصية من يسحبني، توقّعت أنه أبي أو أنه من طرفه، فامتثلت لعقابه.
وجدت الساحة تعج بالناس وقد امتلأت عن آخرها، نظروا إليّ وإلى الشورت والشبشب، شعرت بالعار ينصبُّ على رأسي منصهرًا، وبحثت بطرف عيني عن الرجل الأصلع بينهم، فوقعت عيناي على ثلاث صُلع؛ تجمعوا حولي، وتحدّثوا إليّ، كانت لكلماتهم وقع المواساة. أجلسوني في مقدمة الصفوف بجوار المستقبلين. كان صوت المقرئ حزينًا كما هو، وأكثر بُطئًا، وأنا لم أفهم شيئًا مما يحدث، وقد عاودتني زجاجة الجن كفكرة مُخلّصة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.