الأحد، 12 مايو 2024

مذكرات قط سياسي




كان عندنا قط بغيض، شرِه، لا يقدّم شيئًا مقابل إلحاحه الدائم طلبا للطعام، بل يخرشنا بمخالبه إن لم نستجب لطلباته.
ذات يوم خدعناه للدخول إلى شوال ثم قيدناه وقدناه إلى مكان بعيد لا يمكنه التعرف فيه على طريق للعودة إلى منزلنا. كانت حكاية ظريفة لكن لم أكن أمتلك الشجاعة للكتابة عنها في تويتر.
رغم ذلك تسربت الحكاية إلى مجتمع تويتر، لا أعرف كيف خرج السر ولم يكن واحد منا قد تفوه به أمام أحد، لكن على كل حال كان علينا التعامل مع سيل من الاتهامات بغياب الإنسانية عنا. لم يكن من السهل مقابلة تهمة "تشريد قط" بدعوى شراهته الزائدة وسرقته الطعام. كان الغضب غير المحكوم ينساب بشكل يصعب التعامل معه بهدوء كالهدوء الذي استعملناه ونحن نخدع القط للدخول في الشوال، ما زاد الطين بلة أن ظهر أحدهم وقال أنه إذا كنا قد أوذينا بوجود القط وشراهته، فقد كان بإمكاننا التواصل مع إحدى جمعيات رعاية الحيوان وطلب طعامه بالمجان، أو بالتواصل معه شخصيا وهو يتولى أمره. في حمى التعاطف مع القط، نال هذا الشخص إعجاب الجميع بتقديمه نموذج الإنسان مقابل الشيطان الذي مثّلناه لتكتمل صورة الشر التي وُضعنا فيها. حتى لم يكن بإمكاننا تبرير فعلتنا بأننا لم نعرف بوجود مثل هذه الجمعيات. باختصار كنا مطالبين بشكل ضمني بألا ندافع عن قرارنا، كان الغضب العام شيئًا مجبورين للانصياع له، وفكرت أنه ربما كان في زمن ما للإنسان حرية التخلص من الحيوانات غير المرغوب في وجودها في منزله، وتمنيت لو عشت هذا الزمن.
أخذت هذه الحكاية منحىً آخر تماما عندما ظهر قط جديد في منزلنا، مثل أي قط يدخل منزلنا، كان راغبا بشدة في الطعام، ونحن في البداية نستجيب بحسن نية لإطعام حيوان جائع، لكن في هذه المرة استجبنا خوفا من إثبات تهمة عداوتنا للقطط. مع كل ظهور لقط جديد تظهر مجموعة كبيرة من الداعمين لوجوده في منزلنا، مجموعة مسؤوليتها مراقبة حال القط وصحته وتعاملنا معه.

💫

لا يمكنني الاستجابة لدعوات الرفق هذه بأي شكل غير متوقع، نحن في النهاية قطط. رغم حركاتنا غير المتوقعة أحيانا، نحن لا نقدم شيئا غير متوقع في الحقيقة.
ناهيك عن أن هذه أمم متقدمة جدا، ماذا بإمكاننا أن نقدم لهم أكثر مما قدمناه للأمم الأقل تحضرًا؟ هم من يقومون بأفعال- حق- غير متوقعة، عن نفسي لم أكن أعرف بجمعيات رعاية الحيوان هذه، ربما لأني أعيش في قرية فقيرة.
جل ما أفكر فيه أن هذه أمم متقدمة فعلا، عنصر رائع من الكائنات، قدرة مذهلة على تحمل مسؤولية الآخر والدفاع عنه، في الواقع أشفق على سيدنا، وهو مطالب بالتعامل مع هذا العنصر الرائع، بإمكاننا أن نجد لقمة عيشنا في مكان جديد، لا توجد أزمة إطلاقا، أستطيع أن أؤكد لكم أن معاناة زميلنا القط وهو يُقتاد إلى خارج القرية كانت مجرد حالة هلع من مصير مجهول- القتل مثلا، لكنه سوف يجد مكانًا جديدًا آخر. نحن نؤمن بالقسمة والنصيب، لكن الأمم المتقدمة هذه تؤمن بالحق في الحياة.
كنت أود لو أستطيع تقديم امتناني لهم لكني قط في نهاية الأمر- حيوان بالمفهوم المتداول عند بعضهم، لا ينتمي لمثل هذا العنصر الرائع. يقول سيدي أنه يتمنى لو عاش في زمن كان التخلص فيه من الحيوانات غير المرغوب في وجودها في المنزل أمرا مقبولا. من وجهة نظري، هذا أمر مقبول لدي لطالما مُنحنا حرية البحث في مكان آخر.

💫 

امتلأت باحة المنزل بقطط من كل الأشكال والأعمار. أغلقنا الأبواب والنوافذ خوفا من تسللهم إلى المطبخ وإفساد طعامنا، بدا لي الأمر كما لو أنهم مُنحوا إذنًا من مجتمع تويتر لاحتلال منزلنا، لكن في قرارة نفسي أعرف أن هذا طبيعيا طالما سُلبنا حق اختيار ضيوفنا أو طردهم.
على الناحية الأخرى، استلمنا شحنات لا بأس بها من طعام القطط، رُسم عليها رموز للدعم مثل قلب أحمر بين أذني قط، طفل يعانق قط، وعبارات مثل "كل الدعم من مونتريال"، "نحبكم... جامعة ميشيغان"، "قاوموا كما قاومنا... حياة السود مهمة".
كان عليّ القيام بدور الوسيط بين هذه المجتمعات وبين مجتمع القطط في منزلنا. كنت أعرف أن طردي للقطط معناه نهايتي.

💫 

أشفق على سيدنا حقا، كما لا زلت أشعر بالامتنان تجاه هذا العنصر الرائع من البشر. لم يكن لكل هذا أن يحدث لو أُعطينا حق الدفاع عن حقوقنا، قوةً مثل قوة العنصر الرائع بالظبط، حينها كنا لنكتفي بالتعامل مع مآسينا بدلًا من الفوضى الجارية بين الأمم، أتخيل ماذا لو قام أحدهم باستلاب حق واحد من حقوق العنصر الرائع! هذا شنيع في ميزان القوى، وسيظهر حينها كم نحن مساكين بدونهم، فبدلا من رد جميلهم في مأساتهم سوف يظهر جليًّا كم نحن بحاجةٍ إليهم، لهذا نحن لا نتكلم ولا يجب علينا أن نتكلم لطالما سلبتنا الطبيعة إرادتنا، فما قيمة الامتنان إن كنا لا نستطيع رد الجميل؟ كل ما علينا فعله هو الأكل في سلام.
مياااااو! أرى شحنة من الرقائق اللذيذة القادمة من مدينة مانشستر.
برررر... بررررر.

💫 

اقترحت على أبي التخلص من القطط على طريقتنا المعهودة.
قديمًا كنت أفعل ذلك من دون طرح الموضوع وكأنه قرار مصيري، حتى أن أمي كانت تكتشف من نفسها غياب القط فأقول لها: آه... نسيت أن أخبرك، لقد أخذته بعيدا إلى القرية المجاورة. فتتمتم بعبارات لا أفهم إن كانت شفقة أو ارتياح.
أول شيء فكرت فيه هو الخروج من تويتر، فأغلقت حسابي، كنت أعتقد أن تويتر يتجسس عليّ أو أن ألجوريزم من نوع ما فيه يراقب حال القطط ويرسل إشارات إلى مجتمع تويتر بوجود خطر ما.

لأخدع القطط بالدخول إلى الشوال الضخم الذي صنعته، أخذت حفنة من الرقائق وألقيتها إلى داخل الشوال ووجهت القطط ناحيتها، نجحت الحيلة مع بعضهم لكن تكاسل قطّان وكان الشبع والتخمة مغنيانهما عن حيلتي.

💫 

كان لي أن أصرخ وأنا أُخدع إلى الدخول في الشوال وأطلق المياوات المستغيثة، علّ العنصر الرائع يأتي لإنقاذي من حيلة سيدنا، لكن ظهرت لمعة وحيٍ قططيّ، من ذلك النوع الذي لا يتوقعه البشر منّا ويضحكون له، وهي أن الطبيعة التي دفعت العنصر الرائع لتخليصنا، هي أيضا ما دفعت سيدنا للتخلص منا، بينما كان رفاقي المساكين في الشوال يصرخون ويندبون ويستغيثون، كنت أنا ألتقط آخر قطع الرقائق المانشسترية وأنا أرى الطبيعة تأخذ مجراها وسيدنا يتخلص منا. باختصار كنت أرى الطبيعة في كل ما يجري. نحن غير البشر- لم يغيرنا التاريخ، كنا قطط ولا زلنا- آلهة كنا أو حيوانات متطفلة، حتى عندما نموت، لا تجد لدينا تسميات معقدة كالتي يستعملها البشر مع موتاهم؛ سأكون قطا ميتا يوما ما، لن أكون شهيدًا مثلا. عندما أخرج من الشوال سوف أجد عالمًا جديدًا، هذا ما وعدتنا به الطبيعة دائما، وهذا ما أبقاني على هدوئي. 

كان بجواري أحد الرفاق يصرخ مستنجدًا بالعنصر الرائع، لم يلحظ قطعة رقائق تحته، جريت عليها وخطفتها، عندما اكتشف حيلتي ضيّق ما بين عينيه لتبدأ معركة ساكنة من النشيج المكتوم بيننا واستعديت لقتال عنيف، رفعت ظهري لأعلى وبيّنت أنني جاد بشأن الرقائق.

💫

لم يحدث أن جمعت كل هذا العدد من القطط في شوال واحد، كانت تتبارز للإفلات من الحبس بينما أجرّ الشوال على الأرض.
خرجت في المساء حيث تشتعل ترندات أكثر أهمية على تويتر من واقعة تسريب القطط. عند مشارف القرية المجاورة أفلتّ الشوال وانطلقت القطط في كل اتجاه، بينما ظل قط واحد يستطلع المكان ثم مشى بهدوء على جانب الطريق من الناحية اليمنى، بدا لي اختيارًا عشوائيًا.

💫

اخترت الطريق الأقل تقاطعًا مع رفاقي منعًا للاشتباك. انتهت المعركة الصامتة بداخل الشوال بأن أقعى كل منا مكانه متظاهرين بأن الموضوع قد انتهى، لكن سيظل ثأرًا موجودًا بيننا لطالما جمعنا طريق واحد.

💫

لم يبق في منزلنا غير قطّان، لم نتأذى منهما؛ كانا هادئان، سهلا الانقياد، سريعا الرضا بما نقدمه لهما من دون إفساد مطبخنا. فكرت في إعادة فتح تويتر، توقعت أن يكون منقسمًا بشأن مصير القطط، أنشأت حسابًا وهميًا، لكن لم أجد أي أثر للموضوع، بل كان مُستثارًا حول واقعة إخصاء مجموعة من الكلاب في إحدى المدن، ولافتات افتراضية تندد ب "الإبادة الجماعية لمجموعة الكلاب".
انفتح باب غرفتي بهدوء وظهر قط، انتظرت ليدخل، لكن ظل واقفا مكانه إلى أن ماء يطلب الطعام. أغلقت هاتفي ومشيت خلفه بينما هو جرى يستبقني وهو يتمسّح في ساقي. ألقيت إليه قطعًا من الدهن أمام باب المنزل، التهمها، وكان واضحًا أنه أحب طعم الدهن.

💫

قادني القدر إلى بيت سيدنا بعد مسيرة ساعات في الظلام. كنت أبحث عن الرقائق على طول الطريق، لكنها قد نفدت ودُفِنت مع برازنا. عندما تعبت من المشي اكتشفت أنني على الطريق الأكثر ألفة منذ طفولتي وتعرفت على القرية. 
التمست الطريق إلى بيت سيدنا. عندما فتحت باب الغرفة ومؤت نحوه، كنت أنتظر تربيتةً منه لكنه لم يتعرّف عليّ، عوضًا عن ذلك، فقد رمى إليّ قطع الدهن ومشى. أحببت طعم الدهن حتى أخذت ألعق أثره المتبقي على الأرضية. في هذه الأثناء ظهر قطان تقدّما سريعًا ما أن لمحاني ألعق الأرض، دار اشتباك بيننا لم أكن في استعداد له، انتهى بأن انسحبت إلى الخارج، وعزمت على الرجوع مجددا للحصول على قطع الدهن اللذيذة مهما كلفني ذلك من اشتباكات مع القطط.
أصبحت متمسكًا بجوار سيدنا أكثر، بنفس مقدار استبسالي من أجل لقمة عيشي، وبشكل ما فالأمران وجهان لذات الشيء في نفسي، وخيانة أحدهما خيانة للآخر، مثل خيانة التوازن البيئي لصالح القضاء على الجرذان مثلا. وأنا هنا أتكلم باسم الطبيعه غير مدفوع بغرائزي الشخصية لا سمح الله.

***انتهت***

[تعليق]

عند هذه النقطة لست متأكدا من القيمة الفنية لقصتي، هي إما جيدة بما فيه الكفاية لأتذكر بعد عمرٍ الرموز التي استعملتها فيها فتظل حيّةً شاخصةً بغير حاجة إلى تفسير، أو لا تكون كذلك فتختلط عليّ المعاني، فأعجز- أمام نفسي أولًا- أن أبرّر وجود هذه الرموز وتفسير حركتها. لهذا فإفصاح بسيط عن نواياي ربما ينقذ القصة من التباسٍ محتمل.
في حين أن بعض الرموز قد يسهل إسقاطها على بعض الفاعلين في عالمنا، رموز أخرى يسهل إلباسها فاعلين لم أقصد الرمز بهم، ورمز هو مجرد صورة لرمز، على ما له من قوة حضور واستقلالية في أحداث القصة، لكنهما تقاسما سمات المرموز واستقل كل منهما بهذه السمات.

هذا ليس صراع بين الخير والشر، في الحقيقة لا وجود للخير والشر في القصة- على الأقل من وجهة نظري. كل ما شغلني هو استقصاء الحقيقة التي أؤمن بها الآن لا التي أؤمن بها في ذلك الزمن الذي قد يلتبس فيه عندي تفسير الرموز. و"الحقيقة" ليست حُكمُا من نوع ما، الحقيقة هي تفسير لواقع من وجهة نظر المؤمن بها، وتفسيرها عندي يرتبط ارتباطا وثيقًا بكشف الخداع قبل أي شيء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

كتاب الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة - نوال السعداوي

الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة by Nawal El Saadawi My rating: 2 of 5 stars العمل متواضع من الناحية الفنية، تستطيع بوضوح أن تميز صوت ...