قصة وطن آيل للسقوط، ونداء الغوث المبحوح
القلق والحزن أحيانا يدفعان صاحبهم لأن يُعيد التفكير فى ثوابت ظنها دوما غير قابلة للتزحزح أو حتى الجدال، دفعنى هذا القلق لأعيد التفكير فى معنى الوطن..
هذا القلق الذى يدفعك للتساؤل ماذا سيحدث غدا؟ هل سيظل الحال كما تمنيت أن يظل عليه، أم أن الأمر قد انتهى وقد حزم الماضى الهاديء أمتعته للرحيل؟ لكنى فى الحقيقة لم أكن حتى لأفكر فى هذا الرحيل، فسُكر الأواصر بيننا كانت دائما أقوى من أى تفكير فى رحيل.
دفعنى هذا لأعرف أن الوطن لا يُقاس بالمساحات، ولا بعدد البحار ولا الأنهار، عرفت أن الوطن قد لا تتعدى مساحته مساحة منزل صغير، طالما أننى حين يضيق بى العالم ألوذ به فهو وطن، طالما أن البهجة أراها فيه فهو وطن، طالما أننى أكبر فيه يوما بعد يوم، لا بحساب الزمن بل بحساب الفكر، فهو وطن، وطالما أنه المكان الذى أشعر فيه بالحرية وأنا واقف أتأمل، فهو إذن الوطن..
وطنى يطل شمالا على بحار العلوم والأديان، وجنوبا على التاريخ والفنون، يحده شرقاً دفاف الأدب والفلسفة، وغربا أتجول لأكتشف أسراراً أخرى مجهولة تأبى التصنيف..
ذاك هو وطنى..
هل تذكر أنت أول كتاب قرأته؟
أنا أيضا لا أنسى هذا اليوم، يوم مررت على هذا المكان الذى لم أعرف أنه بعد حين سيصير وطن، لم أكن أنوى شراء كتاب لأننى لا أقرأ، لكن كان هناك شعور ما بضرورة التغيير، لابد أن أغير من رتابة هذا الحال، فكل شيء يتغير من حولى؛ فهناك ثورة، هناك مفاهيم تغيرت، عيون مُغمضة تفتحت، باختصار كان لابد لى أنا أيضا أن أتغير، ومع ذلك فإنى لم أدرك هذا وأنا أدخل لأول مرة (منذ عامين ونصف العام، بعد ثورة يناير) مكتبة عم طلعت.. مكتبة طلعت سلامة.
أعتبر نفسى محظوظاً لأننى اخترت حينها عن طريق الصدفة رواية لإرنست همينجواى، وكانت ضمن إصدارات مكتبة الأسرة العزيزة، ومن عشقى لهذه الرواية قرأتها مرتين، مرة فى بداية كل عام، وقد أقرأها فى كل عام مرة، فهى لها مذاق مختلف عن كل الكتب، أشعر بأنها شيء حي يكبرنى ويفهمنى.. هى أكثر من كتاب، هى من علمنى القراءة...
بعد أن أنهيت الرواية وجدت نفسى أريد أخرى، فذهبت إلى عم طلعت، وملامح وطن جديد تتشكل، واهتمام بأشياء أخرى أكثر سُموّاً توجد، واخترت كتابى الثانى وكانت رواية مترجمة أيضا، بعد قراءتها لم تعجبنى ومع ذلك فإنى قد أدركنى الحب، وتخطيت مرحلة التعارف، وصرت زائرا دائما لمكتبة عم طلعت، وصرت نهما على القراءة، ولم أعد كما كنت.. أنا الآن تغيّرت..
سقطت اهتماماتى القديمة، وأدركت أنه قد فاتنى الكثير، وقد كان على أن أعوض هذا، كانت أولويتى أن أبتعد عن الغث، ولا أولى اهتماما زائداً بالكتب الشعبية واسعة الانتشار، الأكثر مبيعا، وماشابه هذه المُسميات.. وكانت قبلتى هى الإبداع الإنسانى، من فلسفة وتاريخ وعلوم وأدب.. لذلك فإنى كنت أقرأ ما كان يحلو للبعض تسميته (غريباً) وكانت مكتبة الأسرة وهيئة الكتاب هى مصدرى الأول، وعم طلعت دائما وأبدا محتضنهما الوحيد فى المحافظة، وكلّنا- قراء المحافظة، نلجأ إلى هذا المكان للحصول على هذه الكتب، فقط يُمكنك أن تتخيّل كيف سيكون عليه الحال لو أن مكتبة عم طلعت غير موجودة، أو أن مطعما مثلا موجود بدلا من المكتبة، قد أكون حينها- حين قررت التغيير- اخترت المطعم لأتناول وجبة جديدة، وأشبع هذا التغيير وينتهى الأمر، لكنى حين قررت التغيير، كانت مكتبة عم طلعت موجودة وفى انتظارى..
مكتبة طلعت سلامة هى من معالم محافظة الشرقية سواء للقراء أو حتى لمن لا يقرأ، فمن يستطيع من أبناء المحافظة أن يمر صباحا ولا يجد عم طلعت يفك أربطة الجرائد ويرتبها كى يقرأها العابرون من موظفين وطلبة خرجوا لتوّهم من محطة القطار، من ذا الذى يقدر أن يرى هذا المكان فى يوم ما خواء، يرى اللاشيء، أن يكون مكان الكتب موقفا للسيارات -كما يخطط أعداؤه- تقف فيه السيارات لتبتلع الركاب داخلها وتنطلق ولا تخلف خلفها سوى الغبار، وقد كان هنا كتبا؛ هنا يحيا كل البشر فى كل الأزمنة وكل الأمكنة، هنا يغامر الإسكندر ويجول ديوجين بمصباحه، ويفكر أرسطو، هنا يهرب هيبا من الزمن والماضى إلى الشك، وأينشتاين يقيم قانونا آخر للجاذبية، ويُحاكم سقراط، هنا تشيخوف يعرف الإنسان كما لم نعرفه، وميلتون يبنى صرحاً ملحميا للخيال، هنا تبزغ الاشتراكية، وتنهار السوفيتية، هنا حكايا الحروب وآمانى السلام، هنا هنا.. عند عم طلعت، كل شيء هنا..
لا أريد أن أرى غبار السيارات هنا أو أرى التراب، أريد أن تبقى مكتبة عم طلعت خالدة كخلود المعرفة..
لكن كما كان فى الجنة إبليس نصّب نفسه عدواً للخير فعلى الأرض أباليس، وكما تخفّى إبليس الفردوس فى صورة ثعبان، فأباليس الأرض تخفّت فى أكثر الصور لؤما وبراعة، فى صورة إدارىّ بائس..
ففى حين أن مكتبة عم طلعت لا زالت الآن تستقبل زوارها، وقراءها، ومحبيها، يقفون منحنيى الظهور تحت وطيس الشمس، ليتصيدوا خبراً من هنا وكلمة من هناك، وليعرفوا آخر الإصدارات، فإن أفاعى الأرض أو بوضوح أكثر، أفاعى محافظتنا -الشرقية- القائمين على إدارتها، يجلسون على مكاتبهم يملؤون أقلامهم حبراً أسوداً ويخطون جريمة على ورق أبيض، جريمة لا تغتفر فى حق الوطن، فماذا يُنتظر ممن عٌيّنوا من رؤوس الفساد قبل أن تقوم الثورة، هؤلاء الذين لم يصلهم نور الفكر والثقافة وإلا ما أوصلونا إلى الحال الذى نحن فيه من جهل وفساد!
فبهذا الحبر الأسود ومن تلك الوجوه المكفهرة التى لا تتذوق طعم الوطن إلا إن كان رشوة أو إن كان ذبحا فى أحلام أبناء هذا الوطن، يحاولون الآن إغلاق مكتبة عم طلعت. يوم عرفت الخبر وأنهم فعلا أجمعوا أمرهم على إغلاق المكتبة، تلك المكتبة الموجودة منذ عشرات السنين، أصبحت عاجزا عن كل شيء وأصابتنى حالة من الغيبوبة النفسية، وصرت غير قادر على القراءة ولا حتى رؤية الكتب، فكأنى أريد أن أبادر بالرحيل، وكانت صورة واحدة فى ذهنى التى أصابتنى بهذه الحالة؛ مكتبة عم طلعت المغلقة أو التى أقاموا عليها موقف السيارات، لم أكن أتخيل يوما أن تختفى مكتبة عم طلعت..
لمن لا يعرف عم طلعت أعتقد أنى أعرفه، رغم أنه يحاول أن يبقى على حدود بينه وبين زواره. مبدأ عم طلعت أنه لا تعدى على حقى ولا تعدى على حقوق الآخرين، عم طلعت الأكثر التزاما بكل الخطوط، كل الناس عنده تقريبا سواسية، لا يعرف التملق، هو رجل (دُغرى)، لهذا فعندما تصادم مع أحد تلك الأفاعى يطلب رشوة لتجديد رخصة المكتبة تصادمت ثوابت عم طلعت مع هذه الأفعى، فأبى أن يتعدى أحدهم على حقه فحاربوه بالخسّة والدناءة وهددوه بإغلاق المكتبة، وهم مع تهديدهم ووعيدهم له، فإنهم أيضا يهددوننا ويتوعدوننا، ولا يعرفون كيف تمثل هذه المكتبة لنا، لا يعرفون أنهم الآن بالنسبة لنا عدوّ يحارب وطن. فى المحافظة مئات المطاعم ومحلات الملابس والأحذية، وأكثر من دار سينما، لكن لايوجد سوى مكتبة حقيقية واحدة، هى مكتبة طلعت سلامة..
فى الحقيقة أنا عاجز عن إيجاد مبرر واحد مقنع لإغلاق مكتبة فى أى مكان فى العالم..
سمعت يوما أن الدكتور الببلاوى كان فيما مضى حين كان وزيرا للمالية مؤازرا للثقافة وأنه أنقذ دور نشرٍ كثيرة من الإفلاس، لذلك أوجه ندائى للدكتور حازم الببلاوى بأن يوقف ما سيحدث قبل أن يحدث.. ويكفى من التجارب البكاء على الماضى لأننا لم ننتبه*..
وما يحدث هو أفضل مثال عما وصل إليه الحال الإدارى من فساد ينخر فى جسد مكتسبات الوطن ليحرمه منها، ولا مفر إن كنا نريد إصلاحا أن نعالج هذا الفساد ويُحاسب كل من شارك فى تعاسة حال هذا الوطن..
مكتبة عم طلعت الآن موجودة، لكن إن لم تتوقف سخافات الأفاعى، وإن لم يصدر التصريح، فستكون غدا المكتبة ماضيا فى طى النسيان، وسيأتى غيرى من تنبعث من داخله بواعث التغيير فلا يجد من يسمعه، سيذهب لشراء حذاء، أو قميص، أو يتناول وجبة جديدة.. لكنه فى الحقيقة لن يتغير وبلدنا لن تتغير..
وفى النهاية فإن البلد الذى يغلق مكتبة بعد ثورته الثانية، فإن ثوراته فى عين الواقع عبث، وسيشهد عليها بأنها بدلا من أن تشيد الفكر والثقافة، أنها هدمت صومعتهما.
أنقذوا مكتبة طلعت سلامة.
********
*كان مقررا أن يُنشر المقال فى إحدى الجرائد، لكن تعذّر ذلك بسبب تعديه الحد الأقصى لعدد الكلمات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.